سيطرة “طالبان” تضع اقتصاد أفغانستان في قلب الانهيار

واشنطن تجمّد أرصدة “المركزي” والمساعدات الدولية تعلَّق.. والعين على مشروع “تابي”

هلا صغبيني

هي مسألة أسابيع قليلة أو شهرين على أبعد تقدير لتصبح أفغانستان بقيادة حركة “طالبان” في قلب الانهيار الاقتصادي.

قبل سيطرة “طالبان” على معظم مناطق أفغانستان الغنية بالثروات الطبيعية كالنحاس والرخام والأحجار الكريمة، وفرار رئيسها أشرف غني إلى دولة الإمارات العربية المتحدة، كان الاقتصاد القائم على “الكاش” والقطاع المصرفي الأفغاني في حالة يرثى لهما. ليأتي الاستيلاء المفاجئ للحركة بعد خروج القوات الأميركية والحليفة من أفغانستان فيزيد الوضع الاقتصادي قتامةً ويضع الوضع المالي في خطرٍ كبير مع إغلاق المصارف وتعليق المساعدات الخارجية التي تمول الجزء الأكبر من الإنفاق العام، وتوقف نظام الحولات المالية التي تشكل عصب الاقتصاد. فتحويلات العاملين في الخارج والأسر الافغانية التي تعيش خارج البلاد، تمثل ما نسبته 4 في المئة من الناتج المحلي الاجمالي في أفغانستان والمقدر بحوالي 19 مليار دولار. وهو ما يجعلها من بين أكثر البلدان اعتماداً على التحويلات في العالم.

بصورة أكثر وضوحاً، إن من شأن تسلّم الحركة المتشددة التي لا تزال مدرجة على قوائم العقوبات الدولية، مفاقمة التحديات القائمة أصلاً والتي يكتوي منها تسعة وثلاثون مليون أفغاني – معظمه فقير أو حتى تحت خط الفقر (47 في المئة من الأفغان في عداد الفقراء وفق أرقام البنك الدولي لعام 2019). فحكومة تصريف الاعمال الجديدة ستواجه سلسلة من الصدمات التي يرجح على حد كبير أن تؤدي إلى نشوء أزمة إنسانية حادة تفاقم معاناة المواطنين في بلد يعيش فيه أكثر من ثلث السكان على أقل من دولارين في اليوم، معطوفة على أخرى اقتصادية متشابكة وعميقة مع تدهور قيمة العملة المحلية (أفغاني) لمستويات قياسية وتضخم الأسعار وعدم القدرة على دفع الأجور.

أولى الاجراءات التي أقلقت المؤسسات المالية الدولية ووضعتها في حالة تأهب،كانت في إقدام “طالبان” على استبدال الموظفين الرئيسيين في بعض المؤسسات المالية. وكان الأجراء الأبرز تعيين محمد إدريس محافظًا بالإنابة للمصرف المركزي الأفغاني بعد هروب المحافظ السابق أجمل أحمدي، “بغرض تنظيم المؤسسات الحكومية والقضايا المصرفية ومعالجة مشكلات المواطنين”، وفق ما جاء في تغريدة للناطق باسم الحركة، ذبيح الله مجاهد.

فإدريس هو شخصية غامضة. ولا معلومات متوافرة عن خبرته في مجال التخطيط للسياسات النقدية أو في مجال عمل المصارف. والتفاصيل التي وفرتها “طالبان” شحيحة. فيما البحث عنه في الانترنت يوفر معلومة يتيمة، وهي أنه كان رئيساً “موثوقاً به كثيراً” لقسم المالية لدى الحركة التي تتطلع إلى أن “يعالج إدريس القضايا المصرفية التي تلوح في الأفق ومشكلات الناس”. لكن لا يبدو واضحاً أو جلياً ما إذا كان إدريس، أو أيٌ من قادة “طالبان”، يقدّرون تماماً عمق الخطر الاقتصادي الذي تواجهه البلاد اليوم. وهو ما يثير قلق المجتمع الدولي كونه لا يعرف القدرات التي يمكن أن تتمتع بها “طالبان” في استيعاب الشؤون المالية وكيفية تعاملها مع الاقتصاد ككل.

وسط هذا الغموض، يرجح كثيراً أن لا تكون هناك قيامة لاقتصاد أفغانستان، سيما وأنه يعتمد في الأصل على الأموال التي توفرها أجهزة الأمن الأجنبية والمساعدات الخارجية. فهي، إما عُلّقت فور سيطرة “طالبان” أو على طريق التوقف. إذ أنّ المجتمع الدولي أغلق فوراً تدفق الأموال الى أفغانستان ومنع الحركة من الحصول على مليارات من الدولارات التي هي عبارة عن احتياطات مودعة في الخارج، تاركاً أفغانستان في قبضة العقوبات التي تهدف إلى عزل الحركة عن النظام المالي العالمي.

احتياطات المصرف المركزي

أظهرت آخر البيانات المالية المنشورة على الموقع الرسمي للمصرف المركزي الأفغاني في 21 يونيو (حزيران) 2021، أنه كان يحتفظ بأصول إجمالية تقدّر بقيمة نحو 10 مليارات دولار – معظمها مودعة في الولايات المتحدة – بما في ذلك احتياطات الذهب بقيمة 1.3 مليار دولار واحتياطات النقد الأجنبي البالغة 362 مليون دولار.

كما أظهرت هذه البيانات أن مصرف الاحتياطي الفدرالي في نيويورك يحتفظ في مخابئه لصالح المصرف المركزي الافغاني، بسبائك من الذهب قيمتها 1.32 مليار دولار (وفق السعر الذي كان يتم التداول به في يونيو/ حزيران).

في المقابل، يمتلك المصرف المركزي الأفغاني استثمارات بقيمة 6.1 مليارات دولار. لا توجد تفاصيل كثيرة عن توزيع هذه الاستثمارات، لكن يُعتقد أن يكون معظمها على شكل أذون وسندات خزانة أميركية. وهي كانت تتم من خلال البنك الدولي للإنشاء والتعمير – الذراع التابع للبنك الدولي – أو من خلال مصرف الاحتياطي الفدرالي في نيويورك الذي لا يزال يحتفظ بها. أضف الى استثمارات أقل حجماً يملكها المصرف المركزي الأفغاني، منها حيازته على أسهم في مجمع استثماري تابع لمصرف التسويات الدولية (ومقره سويسرا)، وفي مصرف التجارة والتنمية التابع لمنظمة التعاون الاقتصادي في تركيا.

الولايات المتحدة من جهتها التي كانت وحدها ضخت في أفغانستان حوالي تريليون دولار على مدى 20 عاماً، تحركت سريعاً لقطع الطريق على حصول “طالبان” على احتياطات البلاد الدولية المودعة لديها. كما أوقفت شحنات الدولارات مع مواصلة تسهيل تدفُّق المساعدات الإنسانية في أفغانستان. وهو ما ترك خيارات حصول “طالبان” على الاموال ضيقة جداً، حيث لم يعد لديها سوى التصرف بالحيازات النقدية الأجنبية القليلة التي يملكها المصرف المركزي في مكاتبه الرئيسية وفروعه وفي القصر الرئاسي، والبالغة 362 مليون دولار، وسبائك من الذهب والعملات الفضية بقيمة 160 مليون دولار (وفق ارقام نشرت في تقرير المصرف نهاية العام الماضي) تم الاحتفاظ بها في خزائن تابعة للمصرف المركزي في القصر الرئاسي.

لكن مصير “كنز باكتريان” الذي هو عبارة عن مجوهرات ذهبية وحلي وعملات معدنية يعود تاريخها إلى 2000 عام، والمخبأ في خزائن المصرف المركزي لا يزال مجهولاً. ويبلغ عدد القطع الأثرية القديمة حوالي 21 ألف قطعة وهي بقيت مفقودة حتى العام 2003، عندما تم العثور عليها في قبو سري في المصرف المركزي، بعد أن نجت من الحقبة السابقة من حكم “طالبان”. وكان المشرعون الأفغان طرحوا في يناير  (كانون الثاني) الماضي فكرة إرسال هذه الكنوز إلى الخارج لحفظها في مكان آمن، خوفاً من سرقتها.

وكان المحافظ السابق الفار أجمل أحمدي طمأن الى سلامة كل هذه الأصول، فقال في تغريدة له على تويتر أنه “وفقًا للمعايير الدولية، يتم الاحتفاظ بمعظم الأصول في أصول آمنة وسيولة مثل سندات الخزانة والذهب”، ومؤكداً أن الأصول كلها محتفظ بها في مصرف الاحتياطي الفدرالي ومصرف التسويات الدولية عبر برنامج البنك الدولي أو حسابات مصرفية أخرى.

النظام المصرفي “على وشك الانهيار”

أبسط وأبلغ توصيف لحال النظام المصرفي الافغاني هو ما ورد في مذكرة لغرفة التجارة الأفغانية – الأميركية في 23 أغسطس (آب) الماضي والتي كتبتها مجموعة عمل مصرفية ومالية مؤلفة من مصارف تجارية أفغانية رئيسية وعملاء ومستثمرين. تقول المذكرة إن “انهيار القطاع المصرفي بات في متناول اليد”، حيث أن المصارف التجارية، وعددها 16، لم تعد تملك السيولة لتلبية حاجات زبائنها، ما دفعها إلى قفل أبوابها بعد سيطرة “طالبان” خوفاً من التهافت على السحوبات، ثم إعادة فتحها مع تحديد سقوف للسحوبات لا تتعدى ما يعادل المئتي دولار بتوجيه رسمي من المصرف المركزي. وفي ظل النضوب السريع المتوقع للنقد، يخشى تصفية أصول القطاع المصرفي وتبخر أموال المودعين.

العملات الصعبة مفقودة

يقوم الاقتصاد الأفغاني على التداول بالنقد “الكاش” وهو يعتمد بشكل كبير على الاستيراد من أجل توفير الغذاء والسلع الضرورية، ويحتاج بالتالي الى العملة الصعبة في تجارته الخارجية. لكنه اليوم بات محروماً من الاستفادة من المساعدات الخارجية التي تقدر بالمليارات من الدولارات، ما دفع الحركة الى فرض حظر على إخراج الدولارات أو المقتنيات الثمينة من البلاد. وسيؤدي الشح في العملات الصعبة حكماً الى فقدان معظم السلع الضرورية التي يحتاج اليها الأفغان مما سيفاقم معدلات الفقر الى  مستيوات لا تحمد عقباها.

وكانت أفغانستان تنتظر الحصول على حصتها من حقوق السحب الخاصة التي وزعها صندوق النقد الدولي في 23 أغسطس (آب) الماضي والبالغة 455 مليون دولار. لكن سيطرة “طالبان” دفعت بالصندوق الى تعليق هذه الحقوق، ووقف الدفعة الأخيرة من المساعدات التي كان وفرها سابقاً في إطار برنامج تمّت المصادقة عليه في السادس من نوفمبر (تشرين الثاني) 2020، بقيمة إجمالية 370 مليون دولار. وكان البرنامج الممتد على 42 شهراً قد أفضى إلى سداد دفعة أولى فورية بقيمة 115 مليون دولار، تلتها دفعة ثانية بقيمة 149.4 مليون دولار في مطلع يونيو (حزيران)، بعد تقييم أول للتقدم الذي أُحرز على صعيد تنفيذ البرنامج، وبقيت الدفعة الأخيرة البالغة 105.6 ملايين دولار.

كذلك، حذا البنك الدولي حذو الصندوق بتعليق مساعداته لأفغانستان وتجميد صرف أموال لمشاريع كان منوي تنفيذها، بسبب مخاوفه على آفاق التنمية في البلاد وخصوصاً بالنسبة للنساء. وهو كان قدّم لأفغانستان حوالي 5.3 مليارات دولار منذ العام 2002، القسم الأكبر منها على شكل منح. أضف الى انه كان هناك في فبراير (شباط) الماضي، 12 مشروعاً بقيمة 940 مليون دولار، ومشاريع أخرى بالتعاون مع صندوق محلي لإعادة الإعمار.

“تابي” وخارطة إمدادات الطاقة

في المقابل، تسعى “طالبان” أن تعوّض عن شح الموارد المالية المتاحة أمامها من خلال سعيها الى استكمال مشروع خط أنابيب الغاز المعروف بـ”تابي” تيمّناً بالأحرف الاولى للدول التي يمر عبرها وهي تركمانستان مروراً بأفغانستان وباكستان وصولاً إلى الهند (انضمت الى المشروع عام 2008).

يعتبر هذا المشروع أحد أكبر مشاريع نقل الغاز في المنطقة. إذ يستهدف تصدير حوالي 33 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي سنوياً عبر 1814 كيلومتراً.

وكانت فكرة هذا المشروع بدأت في منتصف التسعينات بتكلفة مقدرة بحوالي 10 مليارات دولار. إلا أنها لم توضع موضع التنفيذ إلا في العام 2003 بعد دعم وفّره مصرف التنمية الآسيوي (وكانت الجهات المانحة الرئيسية الولايات المتحدة واليابان). فبُنيت أجزاء منه في تركمانستان وباكستان، لكن المشكلة كانت دائماً أفغانستان بسبب عدم الاستقرار السياسي والامني.

تقول وزارة المعادن والنفط الأفغانية على موقعها الرسمي إنّ هذا المشروع سيحوّل أفغانستان إلى مركز اقتصادي مهم، ويُتوقع أن يضيف حوالي 400 مليون دولار سنوياً إلى ايرادات البلاد، وأن يخلق الآلاف من فرص العمل المباشرة وغير المباشرة. هذا إضافة الى تطوير البنية التحتية، وإنتاج الطاقة.

بالاضافة الى ذلك، يحتل مشروع “تابي” أهمية كبرى كونه سيغير خارطة إمدادات الطاقة في آسيا الوسطى. من هنا، يمكن فهم سبب مسارعة روسيا والصين في الاعتراف دبلوماسياً بحركة “طالبان”. فموسكو تسعى الى أن يكون لها موطئ قدم في أفغانستان من أجل استخدام أراضيها لنقل الغاز الروسي إلى أسواق جنوب آسيا وتطوير المناجم في أفغانستان نفسها؛ فيما تضع بكين عينها على معادن أفغانستان التي تقدر قيمتها بعدة تريليونات من الدولارات مع الاخذ في الاعتبار نيتها الدائمة في توسيع مبادرة الطريق والحزام.

إلى كل ما تقدم من مشهد سوداوي لمستقبل أفغانستان الاقتصادي حيث ستواجه “طالبان” شبكة معقّدة ومتشابكة من الأزمات الاقتصادية والمالية والنقدية والاجتماعية، يبقى القلق العالمي الأكبر هو الأهم: هل يمكن أن تصبح أفغانستان مرة أخرى ملاذاً للجماعات الإرهابية؟ إنه احتمال بالتأكيد. والأيام المقبلة هي الحكم.

العدد 121 / تشرين 2021