رحيل ثيودوراكيس عن 96  عاماً

مؤلف لحن “زوربا اليوناني” اعاد الروح الى الأغنية الشعبية وقاوم الظلم حتى الرمق الخير

توفي ميكيس ثيودوراكيس عن 96 سنة تاركاً خلفه عدداً كبيراً من المؤلفات الموسيقية والأغاني وأكثر من خمس محطات أوبرالية تحاكي أعمال كبار الموسيقيين الكلاسيكيين المعروفين. على رغم ذلك بقي اسم ُثيودوراكس معقوداً على موسيقى فيلم “زوربا الاغريقي” خصوصاً مقطوعة السيرتاكي الراقصة التي شارك فيها أنطوني كوين الممثل البريطاني آلان بايتس. ولا يفوتنا هنا أن نذكر قيام الموسيقار الكلاسيكي الكبير بمقاربة متواضعة قلما مارسها واحد في مثل قامته  فعلى رغم انتشار أعماله الأوبرالية والسيمفونية وأناشيده الشهيرة عابرة أوروبا بقي اسم ُثيودوراكس مرتبطاً بأنشودة زوربا بطل شريط المخرج كوستا غافراس والمؤلف نيكوس كازنتزاكس.

بين 1967 و1974 حكمت اليونان طغمة عسكرية قاسية وكان ثيودوراكيس واحداً رموز المقاومة لتلك الطغمة، مع انه تجاوز كونه رمزاً من رموز الإبداع اليوناني الى تلحينه عدداً كبيراً من الأغاني والأناشيد التي كتبها شعراء اليونان الكبار مثل سيفيرس وكامبانليس وإيليتس وريتسوس. إلا أن أعماله الكلاسيكية تقدمت الى واجهة القرن العشرين ببطء ثابت وقوة أضفت على نعته بـ”الطويل” صفة العبقري المميز.

إلا أن ثيودوراكس لم يكن ناصع السمعة في اليونان، وطنه الأم، بل نراه يقف في مقدمة الرعيل السياسي المعارض ولكن بصورة مميزة دائماً. وذلك لأن نشأته الموسيقية الكلاسيكية التي بدأت عالمياً سنة 1958 في حفل كبير على مسرح كوفين غاردن في لندن سرعان ما “تلطخت” بأعمال موسيقية شعبية دارت في معظمها حول تراث البوزوكي الغنائي المعروف. وعلى غرار كثر من أترابه المثقفين اليونانيين استلهم ثيودوراكس التعاليم والأخلاقيات الماركسية واضعاً قدراته الإبداعية في خدمة الطبقة العاملة. ولعل هذه الواقعية الصغيرة تلقي بضوء كبير على شخصية ثيودوراكس ومدى تأثيره على فلاحي بلاده: ذات يوم كان يعبر بستان زيتون في جزيرة كريت، مسقط رأسه، والتقى بفلاح عجوز استوقفه وسأله كيف له أن يحصل على تسجيل من مقطوعة الأوديسي التي انتهى ثيودوراكس لتوه من تسجيلها وقد كان ذلك السؤال بمثابة جواب عن مدى تأثير أعمال ثيودوراكس على مجتمعه من أقصاه الى أقصاه.

لقد قرر منذ البداية أن يعيد الحياة النابضة الى الموسيقى الشعبية اليونانية ورافقه في هذه المسيرة كثر بينهم مانوس حجيداكيس ويانيس ماركوبولوس وديونيسيس سايوبولوس. ولم يكن ثيودوراكس أكثر براعة من هؤلاء إلا أن موسيقاه كانت دائماً مرتبطة باليسار اليوناني المناضل حتى حفلاته الكبرى التي طالما أغلقتها الشرطة ومنعتها الحكومة تحولت الى تظاهرات سياسية هادرة.

في أواخر ستينات القرن الماضي اغتالت المخابرات اليونانية صديقاً عزيزاً على قلب ثيودوراكس هو السياسي المناهض للفاشية غريغورس لامبراكيس مما دفع ثيودوراكس الى تأسيس منظمة للشباب اليساريين حملت اسم لامبراكيس وألهمت المخرج اليوناني الأصل كوستا غافراس تصوير فيلم “Z” الذي حمل موسيقى تصويرية رائعة من تأليف ثيودوراكس نفسه.

تعّود ميكيس ثيودوراكس على زنازين الديكتاتورية العسكرية اليونانية وكانت حياته ممهورة بسلسلة من المواجهات العنيفة مع السلطة.   أمضى  طفولته متنقلاً مع والديه من مدينة الى أخرى بحسب وظيفة الوالد. وفي الحرب العالمية الثانية عندما احتل الجيش الألماني اليونان كان ميكيس قد بدأ يؤلف الموسيقى لأناشيد المقاومة…   وسنة 1944 أصبح قائداً لفرقة صغيرة من المقاومين عرفت باسم إيلاس.  في تلك المرحلة وقع ميكيس في حب طالبة الطب ميرتو ألتينوغلو التي أصبحت زوجته لاحقاً.

بدأ ثيودوراكس دراسة التأليف الموسيقي في معهد أثينا للموسيقى من دون أن يتخلى عن نشاطه السياسي السري، وقد نجح بالهرب من الشرطة البريطانية التي طاردت مظاهرة يسارية ضد الألمان إلا أنهم قبضوا عليه للمرة الأولى سنة 1945 وأيضاً في السنة التالية حيث تعرض لضرب مبرح حتى شفير الموت. وخلال الحرب الاهلية اليونانية أمضى ميكيس شهوراً في أحد معتقلات جزر إيجيه، كما أرسلوه الى معتقل ماكرونيسوس المعروف بوحشية التعذيب الهادف الى انتزاع الميل اليساري من مناهضي الاحتلال الأجنبي.

أطلق سراحه في نهاية الحرب وتخرج من معهد أثينا للموسيقى سنة 1950. بعدها بدأ بتأليف مقاطع مخصصة لرقص الباليه وهو منكب على تأليف أولى سيمفونياته. سنة 1952 تزوج ميرتو وحصل الإثنان على منحة دراسية من الحكومة الفرنسية. هي لدراسة التصوير الطبي وهو لتعميق معرفته بالتأليف الموسيقي في معهد باريس للموسيقى.

إلا أن ميرتو وزوجها لم يكونا جاهزين لمتابعة المسيرة الدراسية كما يجب، فقد ولدت ابنتهما الاولى مارغريتا سنة 1958 مما أدى الى توقف ميرتو عن الدراسة للاهتمام بعائلتها .وفي السنة التالية شعر ثيودوراكس أن الموسيقى الكلاسيكية الحديثة لا تساعده على تحقيق رغبته بدفع الموسيقى الشعبية اليونانية الى الأمام فقرر العودة الى اليونان. وفي السنوات التالية تعاون ثيودوراكس مع طلائع المثقفين اليونانيين خصوصاً الشعراء مثل يانيس ريتسوس الذي كتب نشيداً للحرية ولحنه ميكيس، إلا أن لجوءه  الى مطربين شعبيين يعملون في المقاصف الليلية وضعه في مواجهة حادة مع المحيط الثقافي في أثينا.  وسنة 1964 كتب الموسيقى التصويرية لفيلم “زوربا” مما أدى الى سجنه لفترة وجيزة ثم نفيه الى قرية نائية في جبال أركاديا. وحتى من هناك استطاع أن يهرب الاشرطة والرسائل والمقالات المناوئة للنظام الديكتاتوري. وحين ارسل له المخرج كوستا غافراس سيناريو فيلم “Z” في سنة 1966 وقع السيناريو في أيدي الشرطة إلا أن ثيودوراكس استطاع ان يبلغ المخرج عناوين الأغاني الصالحة لموسيقى الفيلم المذكور.

بعد إطلاق سراحه سافر ثيودوراكس وعائلته الى باريس وبدأ يجوب العالم مع فرقته الموسيقية.  في تلك السنوات بين 1970 و1974 بدأ الجمهور العالمي يتعرف عن كثب على موسيقاه  التي بلغت هوليوود مع فيلم “سيربيكو” للمخرج سيدني لوميت من بطولة آل باتشينو. سنة 1974 سقطت الديكتاتورية اليونانية الى غير رجعة وعاد ثيودوراكس الى اليونان بطلاً مع أنه سرعان ما وجد نفسه معرضاً للانتقاد لأنه اعترض على الأحتلال   السوفييتي لتشيكوسلوفاكيا  . سنة 1988 وهو في الثالثة والستين من عمره بدأ ثيودوراكس مرحلة جديدة في حياته، إذ قرر أن يخوض المجال الأوبرالي بكل قواه. وكتب أوبرا مستوحاة من فيردي وأخرى من بوتشيني وثالثة من بيلليني وجرى افتتاح الأولى: ميديا، سنة 1991 في بيلباو ثم إلكترا في لوكسمبورغ سنة 1995 ثم أنتيغون سنة 1998 وحتى في هذه الأعمال الكلاسيكية الخالصة لم يستطع ثيودوراكس ان يتخلى عن ألحانه الشعبية بالكامل فأدخل بعضها في كل من الأوبرات الثلاث.

سنة 2002 افتتحت أثينا الألعاب الأولمبية بعمل اوبرالي مستوحى من مقطوعة لأرستوفانيس عنوانها “ليسيستراتا” بقيادة المطرب الشعبي الكبير جورج دالاراس. وفي عيد ميلاده الثمانين سنة 2005 احتفلت العائلة والاصدقاء بعودة ميكيس الى منزل والده في جزيرة كريت وانطلاق المؤتمر السنوي الذي استوحى شعار “قانون التآلف الكوني” المستوحى من هارمونية الموسيقى بحسب ميكيس ثيودوراكس.

في السنوات اللاحقة عانى ثيودوراكس من مشاكل صحية أجبرته على إلغاء الكثير من حفلاته، إلا أنه لم يتوقف عن التأليف علماً ان مقابلاته المتلفزة مع الشاشة اليونانية لم تكن مقبولة دائماً من الجمهور العريض، خصوصاً عندما وقف الى جانب الشرطة في مظاهرات فوضوية عارمة سنة 2008 مما فاجأ اليسار اليوناني الذي توقع وقوف “الرجل الطويل” مع الشبان الفوضويين. . .

على الصعيد العالمي وقف ثيودوراكيس دائماً الى جانب المناضلين من اجل الحرية والعدالة: الإسبان والبرتغاليون  والتشيليون والأكراد وسنة 1978 جاء الى بيروت ليقدم نشيداً وطنياً  الى الفلسطينيين من تأليف محمود درويش، لكن المسالة لم تتحقق لأسباب لوجيستية، خارج ارادة الرجلين…

العدد 121 / تشرين 2021