جودت فخرالدين: الشعر وأصل المعنى

 بيروت من ليندا نصار

      لا يمكن للشاعر الحقيقيّ أن يحدّد موعدًا مع القصيدة التي يكتبها، فهي تسكنه وهو يتطلّع إليها بوصفها الملجأ الذي يحميه من القلق والخوف والتعب خصوصًا وأنّها تقدّم إليه النور، والسلام والحياة وسط عالم مهدّد بالرحيل والموت والحزن… كذلك لا يستطيع أن  يكون مستقلًّا عنها لأنّه فعليًّا هو مرتبط بها ارتباط الجنين بالحبل السرّيّ ، يسائلها ويشاغبها ثم يشتغل عليها من داخلها.

    “لم تدعني السماء وشأني” ، عنوان مختارات جودت فخر الدين وكأن الشاعر يقول:  للسماء سلطة على وجودي، على حياتي، على علاقتي بالأشياء والإنسان، وعلى شعري وقصائدي قبل أيّ كلام… من هنا يشعر، من يتأمّل هذا العنوان ويحلّله، بفضول كبير لمعرفة علاقته بالنصوص التي تترابط  ببعضها البعض  بحيث يبدو كأنّه يحمل دلالتين: الأولى تعيينيّة والثانية إيحائيّة تضمينيّة. وكأنّ القصيدة مسيّرة كما كاتبها. هكذا هي عناوين النصوص تحمل في ثناياها دلالات قصائد تتناسل من بعضها البعض، لتشكّل أجزاء تجتمع في كلّ. هذه القصائد هي التي ولدت من صميم تجربة دامت لأكثر من  ستّين عامًا مع الشاعر.

   إذًا تعدّ هذه المختارات الشعرية التي حملت عنوانًا: “لم تدعني السماء وشأني” من المنجزات الجديدة للشاعر جودت فخر الدين، وقد صدرت عن “دار العائدون للنشر والتوزيع” في الأردن، ولوحة الغلاف للفنانة التشكيلية اللبنانية المبدعة جنان الخليل.

      يكتب الناشر الشاعر عمر شبانة تعريفًا بالكتاب على الغلاف الخلفيّ فيقول: إن “مختارات جودت فخر الدين هذه تناطح السّماء وتعانقها، وترقى إلى تجارب الشعر الإنسانيّ، فهو يكتب الزّمان والمكان على نحو خاصّ به هو، يعاند الحياة كطفل جَسور يرغب في كلّ شيء، ولكنه زاهد في كلّ شيء أيضاً. مختارات اصطفاها ليقول لنا إن السّماء/ الحياة لم تدَعْه وشأنه. إنّها مشغولة بشؤونه الخاصّة، حتى حدود العبث”.

      يضمّ الكتاب نصوصًا من دواوين الشاعر امتدّت على مراحل زمنيّة وهي: أوهام ريفية 1980 – للرؤية وقت 1985 – قصائد خائفة1990 – منارة للغريق 1996 – سماوات 2002 – ليس بعد 2206 – فصول من سيرتي مع الغيم2011 – حديقة الستين 2016

     ليس غريبًا على من يقرأ الشاعر اللبناني الدكتور جودت فخر الدين من أن يتنبّه إلى محاكاته الزمان والمكان اللذين يسيران جنبًا إلى جنب على سكّة متوازية،  فقد امتدّ الزمان من مرحلة الطفولة وصولًا إلى مرحلة الشيخوخة، أمّا المكان فمن الجنوب اللبنانيّ إلى بيروت بالإضافة إلى البلدان التي زارها من خلال أسفاره. تتجلّى هذه المحاكاة في معظم قصائده تلك التي تأتي على شكل سيرة ذاتية يستعيد من خلالها تفاصيل من ذاكرته التي يوثّق فيها مشاهد العالم بجماله وتشوّهاته تلك التي لم يهملها يومًا. وكأنّ الشاعر يتناول محطّات من حياته ويقدّمها إلينا على نحو شعريّ انطلق به منذ الطفولة لتنضج معه بمرور العمر، خصوصًا وأنه من الشعراء الذين راودتهم القصيدة في سنّ مبكرة. وهنا الشاعر يعيش اللحظة ويبتكرها فيتناسل الحاضر من الماضي.

 ذكرياته ليست عادية بل هي تلك التي تعود إليه بسماء فقدها أو أصبحت بعيدة كما يقول ( تَروحُ بيَ الذكرياتُ إلى زمنٍ كالأثيرِ… ذكرياتي غيومٌ تُزيِّنُ لي أملًا دانيًا، في السماء التي ابتعَدتْ.) ترى هل يمكن أن تكون تلك السماء هي القرية التي تركها ليستقرّ في بيروت وبتنا نراه يعود إليها في الشعر والأحلام؟ أو أنّها السماء السامية ذات القدرة على تحديد مصائر الناس؟

(من أنا كي ألوذَ بنفسي ومَن كنتُ؟ حتى أُعاندَ، حتى أُكابدَ، حتى أقولَ اهتديْتُ، إذًا، ما الهُدى؟، مَن أنا ؟ كي أرى نقطةً لا تُراوِغُ في مَهْمَهِ الكوْنِ.) الشاعر هنا في حالة من التّأمّل والمراجعة الذاتيّة، يسائل نفسه وهو يتأرجح بين زمنين يدفعانه إلى توثيق ذكرياته على أطلال الماضي ومحاولة التأقلم المستمرّة بالحاضر، ويبدو ذلك من خلال السؤال الوجوديّ “من أنا” ليأخذنا إلى “من كنت” وما يختلف بعد المقارنة بين الفعلين هو درجة الوعي بالذات والتعبير عنها من خلال الشعر، فكلّما تقدّم العمر بالإنسان، ازدادت معرفته  ونضجت تجربته واكتسبت نصوصه عمقًا إضافيًّا وفلسفة حياتيّة.

    إذًا هذه الأسئلة التي جاءت في المختارات، تأتينا على شكل محاكاة للحياة أيضًا، فالشاعر يعيش هنا اللحظة الراهنة وهو في حالة من استدعاء الذاكرة من الزمن الماضي في الجنوب اللبناني خصوصًا كما سبق أن ذكرنا، حين انطلق في استنطاق أثر الطبيعة المخاتلة ليتشبّه بها ويقتدي بفصولها، قبل أن يعود منتظرًا وحيدًا، لتبقى القصيدة أداة مقاومة و فعل حياة.( كان بيني وبين الفصول اتّفاقٌ. كأنْ نتشابهَ: حيثُ التعاقبُ، حيث التحوُّلُ، حيث ارتدادُ الصّدى، ثم أنّ الفصولَ تولّتْ، فأقْعَيْتُ في وحشتي، هادئًا كانتظار ٍظليلْ.، أُراقبُ في البُعْدِ أُفْقًا يميلْ.)

      جودت فخر الدين يعيش صمتًا داخليًّا يدعوه إلى مائدة العزلة الكونيّة، يأتينا بالشعر المليء بالحبّ، الحياة، الموت، العمر، الانتظار، الذكريات، الحنين، الغياب، المسافات… وهذه كلها أمور تعبّر عن ذات شاعرة تستدعي الحواس التي تحاكي السماء وتؤمن بانعكاساتها على الأشياء والعالم. هذه العبثيّة التي يعيشها الشاعر هي التي تتحكّم بكلّ قصائده. كذلك لا يخفى ما للشاعر من عمق وحكمة واتّجاه نحو التفكير في ما يمنّه عليه الكون من معان وأفكار،ٍ فيعنى في إدراجها ضمن قالب من لغة متقنة مليئة بالاستعارات والمجازات ضمن إيقاع موسيقيّ خاصّ يعنى به، هو الذي تحدّث عن اهتمامه باللغة وموسيقى الشعر في أكثر من حوار. (تَدْهَمُنا الكلماتُ كما تَدْهَمُنا الأمراضُ، ولكنّا نحيا بالكلماتِ كما تحيا،الكلماتُ بنا، ولها، هي أيضًا، أمراضٌ تشْكو منها.)

 (نعودُ إلى القصيدةِ نفسِها، (كُتبتْ عليْنا) نسْتحمُّ بنارِها، ونُطِلُّ من أبياتها المتشابهاتِ، كأنما بُنيتْ ملاجئَ كي تَقِينا وهْجَ أنفسِنا.) في هذه الكلمات تتّضح أكثر فأكثر ماهيّة القصيدة بالنسبة إلى الشاعر وتختصر نظرته إليها، فهي الملجأ والملاذ الأخير بالنسبة إلى الشعراء، وهي التي تخفّف عن شاعرنا حالات الاحتراق التي تسير وفق حركة داخليّة.

الشاعر وثنائيّة الزّمان والمكان

       تشغل الأمكنة دورًا مهمًّا في القصائد، إذ  تتولّد النصوص الإبداعيّة بين الفضاء المكانيّ والفضاء الزمانيّ. فمن يقرأ جودت من قصيدة إلى أخرى، يمكنه أن يدرك هذه العلاقة بين القصائد والمبنيّة على التلاحم الزماني والمكاني إذا صحّ القول. يمكننا الحديث هنا عن حركة الكون وصيرورته وتحوّلات الأمكنة وإسقاطها على اللحظة الزمنية: الانطلاق حدث من مكان الدهشة الأولى في طفولته أي القرية التي تحوّلت إلى ماضٍ، وقد تشكَّلَ مجازيًّا في اللحظة الحاضرة، واكتسب شعريته من خلال قدرة الشاعر على إسقاط انفعالاته وأحاسيسه وتطويع اللغة والكلمات ليخرج بقصائد فريدة.

الرؤية الشعرية والشعور بالقلق والغربة

     يعيش الشاعر القلق والخوف يرافقهما شعور الغربة والبحث عن الأحلام الضائعة،  وهي حالات مستمرة بدءًا من الماضي وصولًا إلى اللحظة الراهنة، فهو يعتبر أنّ العالم مليء بالمشاهد المقلقة، ويبدو ذلك من خلال استخدام الحقول المعجميّة الدالة على الزمان والقلق الخوف وأحيانًا يظهر هذا الأمر فقدان الشعور بالطمأنينة.

       هذه الرؤية الشعرية التي يملكها جودت فخر الدين بالإضافة إلى الأسئلة الوجوديّة التي لطالما راودته، جعلت من نصّه مختلفًا، هذا بالإضافة إلى اهتمامه بعنصر التخييل حيث استوحى الشاعر الصور والاستعارات من الطبيعة بمساحاتها الواسعة فمنحته خصوصيّة القصيدة، وقد تحوّل مع شاعرنا هذا المكان إلى المساحة التي تمثل فيها الأنا بمشاعرها وصوتها وحقيقتها وصدقها وتفاعلها مع العالم، لتتشكّل وتصبح كنوع من الاعتراف في وقت لاحق، عبر استدعاء الذاكرة المستمدّة من ملامح واكبت خبرته خلال مراحل حياته.

 – هنا جزء من القصيدة التي شكّلت العنوان:

لم تدعْني السماءُ وشأني،

سَمَتْ بي على كلّ أرضٍ خطوْتُ بها،

نزَّهَتْني بكلّ البلادِ، وعنها.

ولكنّها لم تَسِلْ مثلما كنتُ أهوى،

وحين امتثَلْتُ لها ضيَّعَتْني.

لم تدعْني السماءُ وشأني …

ليَ القفْر

ليس سوى القفْرِ،

مبتسِمًا لي كهاويةٍ شاسِعهْ.

وأنا فوقَهُ واضحٌ، كالطريدةِ في عيْنِ قنّاصِها،

حائرٌ كمُصادفةٍ لامِعهْ.

لم تدعْني السماءُ وشأني،

ليَ القفْرُ كي أتفلَّتَ أو أتبدَّدَ،

لكنّها لم تدعْني،

أُحاولُ،

تجذبُني بخيوطٍ أراها، ولسْتُ أراها،

تخادعُني،

ثم تضحَكُ من فوقُ،

أُبْصِرُها وهْي تضحَكُ عاليةً،

فأَهيمُ هنالك ما بين هاويتيْنِ: سماءٍ وقفْرٍ.

خُطايَ على القفْرِ تصْعَدُ نحو السماءِ،

تهيمُ كأبْخِرَةٍ تتلاشى قليلًا قليلًا.

خُطايَ على القفْرِ تصْعَدُ نحو السماءِ،

كمثْلِ الظنونِ التي تتلاشى ولا تتلاشى.

إذًا، كيف أرْضى بشأني ؟

أظَلُّ كنجْم ٍلهُ اُفُقٌ بين هاويتيْنِ،

فيعْلو ويهْبطُ،

يذْكو ويخْبو،

يغيبُ ويبْزغُ،

لكنَّ خوفَ الطريدةِ وجهُ الطريدةِ،

أنّى اختفَتْ أو تبدَّتْ.

العدد 121 / تشرين 2021