الفنانة العراقيّة هيْف كهرمان في لوحاتها دعوة للاحتجاج وإعادة قولبة المفاهيم

نسرين الرجب- لبنان

         يقول الشاعر والرسّام الإيراني  “سهراب سبهري” ردًّا على انتقاد أحد النُقّاد له عن شغله بتفصيل سقي حمامة فيما تشن الولايات المتحدة حربًا على فيتنام: “.. من لم يتعلم الشعر ليقلق على سقي حمامة ما، فإنّه لن يهتم بموت البشر في فيتنام أو أيّ مكان آخر، بل يعدّه أمرًا بديهيًّا”.

        في خضم الصراعات والمعارك التي تفرض بؤسها على سلامنا الداخلي، لا بدّ أن يكون للجمال صوتٌ يُخفّف من حدّة العتمة ويؤنس وحشة الروح وهي تُكابد انمحاءها في ظلاميّة الأحداث المُهلكة، ووحدهُ الفنان الحقيقيّ من يقدر على ذلك، إذ به يبدع خارج سياق زمنه، يُعنى بالتفاصيل ويبحث عن الجمال في قلب المعاناة،  ليس هروبًا من الواقع إنّما في محاولة لمنح المعنى وإحداث التغيير.

 رسومات الفنانة هيْف كهرمان لا تُغرّد خارج السرب بل تنكُش في معاناة النساء ومعاناة اللجوء في كلّ مكان وزمان، هي امرأة تعبّر بعفويّة وبطريقة صادمة عن واقع مشوّه، ورُبّ قائل ما الذي يدعو فنانًا عاش جزءا من حياته مهاجرًا في بلاد آمنة أن يُفتش في صفحات بلاده وأن ينبش “المواجع” ليعرضها في فنّه، والأمر بكل بساطة أنها ذائقة الفنان وحسّه الإنساني الذي يدفعه دومًا للبحث في أعماقه وحسم صراعه الداخلي والاهتمام بشؤون الإنسان أينما كان.

        من هي هيْف كهرمان؟

        فنّانة عراقيّة، من أصول كرديّة، وُلدت في بغداد في العام 1981 إبان الحرب العراقيّة الإيرانيّة، عاشت طفولتها في بغداد، التحقت بمدرسة لتعليم الموسيقى والباليه لوقت قصير، هاجرت عائلتها إلى السويد بعد حرب 1990، بدأت الرسم في الثانية عشر من عمرها، أكملت دراستها في تصميم المواقع الشبكيّة في جامعة أوميا السويديّة، ومن ثم درست الرسم والتصميم في فلورنسا إيطاليا العام  2005 وتأثرت بفنون عصر النهضة، درست لوحات كبار الفنانين وزارت المتاحف والمعارض، تعلّمت التقنيات الفنيّة من تمازج الألوان وتباينها إلى التدرجات الضوئيّة، عُرضت أعمالها في العديد من الصالات والمعارض الفرديّة والجماعيّة في السويد العراق تركيا وأميركا وفازت بعدّة جوائز، اكتسبت شهرة واسعة بين فنانيّ الصف الأوّل وطُرح اسمها  لقائمة كريتيز التي تضم 11 إسمًا من الشرق الأوسط لا بدّ من التعرُّف إليهم في عالم الفن الحديث والمعاصر. تُقيم حاليًا في الولايات المتحدّة الأميركيّة.

        أعمالها:

        اهتمّت في قراءاتها بالبحوث التي تناولت مواضيع ما بعد الاستعمار والتخلص من آثاره، حتى توصلت إلى استخلاص شخصيّتها النسائية التي ترافق جلّ أعمالها، جسد امرأة أبيض شفّاف بشعر أسود داكن وملامح منمنمة وفم مصبوغ بالأحمر، تظهر في وضعيات مختلفة ومتغايرة بحسب ما تمر به الفنانة نفسها، من محاولة للإصلاح إلى محاولة في كسر القوالب التقليديّة، وعبّرت عن هذه الشخصيّة بأنّها جسدٌ ينوء بالاستعمار، جسّدت من خلالها العديد من القضايا المثيرة للاهتمام ومنها قضايا النوع الاجتماعي والثقافة والحرب والهوية وحياة الشتات، تُدرك هيْف أصولها الشرقيّة المتمسّكة بالتقاليد بينما هي تعيش في لوس أنجلس المدينة التي تكسر القوالب التقليدية برأيها، لذا فهي تأمل من خلال أعمالها إحداث نوع من التغيير في مجال الفكر المُعاصر.

من أعمالها ورق، الكلمة العربية للعب الورق، وقد دمجت فكرة وجود مجموعة متفرقة من البطاقات مع خبرة خمسة ملايين نازح عراقي، المهاجر 11 هو عبارة عن سلسلة من راقص ملتوي يشير إلى تشويه الذات بسبب الهجرة.

        أوّل عروضها كان في العام 2010 في لندن ودبي، تتالت معارضها في أهم الصالات الفنيّة في عدد من الولايات المتحدّة الأميركيّة، نشاطها شجّع الملتقيات الفنيّة العالميّة داخل الولايات المتحدة وخارجها على توجيه الدعوة واستضافتها وترشيحها للجوائز، تُذكّر أعمالها بالحالة النفسيّة للاجئين وشعور التجرّد والانفصال عن الوطن، وفي مقابلة لها تتحدث عن عِرقين يجريان في مسار عملها، وهما: وعي الاغتراب إذ أنّها مهاجرة ولاجئة، والجسد والنوع الاجتماعي.

        أسلوبها الفنّي:

        تستخدم الألوان الزيتيّة على قماش الكانفاس وتلجأ إلى التدرجات اللونيّة الحادة والزاهيّة المغطاة بطبقة من التصميمات الدقيقة. وهي تستوحي في أعمالها الرمزيّة العديد من أساليب المدارس الفنيّة التي تتراوح من الفن الياباني إلى فنون التصوير العربيّة والمنمنمات الفارسيّة والأيقونات اليونانيّة إلى جانب فنون عصر النهضة والآرت نوفو. أمّا الخيوط الممتدة عبر اللوحات فهي ترمز إلى طواعيّة أولئك النسوة، اللواتي يهمن على وجوههن عبر اللوحات وكأنّهن مستسلمات لقدرهن، ومع ذلك تأمل كهرمان أن تساعد على التغيير.

        تقول في إحدى مقابلاتها أنّ الجمهور العربي  يستقبل أعمالها على اعتبار أنها امرأة شرقيّة أوسطيّة وعراقيّة بينما هي تتوجه بأعمالها لتشمل كلّ النساء بشكلٍ عام، اللواتي يعانين من الأجور المتدنيّة مقابل أجرة الرجل ويُعاملن ككائنات أدنى مرتبة.

وعن أداءها تؤكد بأنّها تدرس كلّ ضربة فرشاة تقوم بها، فهي تستسلم للفكرة أثناء الرسم بعفويّة ولكنها تتحكّم بضربات فرشاتها.

        موضوعاتها:

         ترى كهرمان وبحسب قولها: أن الجسد يحمل أعباء الذاكرة، تسعى إلى تصوير فظائع الحرب ومعاناة النساء، تتميّز رسوماتها بالدقة التصويريّة والتي تخلق صورًا مذهلة ومزعجة في الوقت ذاته، تفاصيل كثيرة تسيطر على الرائي تتملّك النظر وتسلب الفِكر هدأته، هي دعوة للتفكّر في أمور نخشى مواجهتها.

نساء في وضعيات حميميّة متنوّعة، يظهرن في مشهدٍ متآلفات مع الدور المفروض عليهن وملامحهن تشي بالمعاناة، كاللوحة التي تظهر فيها امرأتان تقوم كل واحدة منهن بمساعدة الأخرى على انتزاع الشعر الزائد فوق شفتيها، وفي مشهدٍ آخر تدخل النساء في وضعيات عنيفة غير متجانسة، عُريّ صارخ ينشب مخالبه في عُمق الذاكرة ويُندّد بأحكام التقاليد والأعراف التي تحكم واقع المرأة بشكل عام والشرق أوسطيّة بشكل أكثر خصوصيّة، تناولت الفنانة هيْف أشد المواضيع حساسيّة بدءًا من النظرة الذكوريّة المتسلّطة للرجل اتجاه المرأة ككيان جنسي بحت، إلى موضوع المرأة والحرب، وكأنّ الحرب بعتادها ورمزها المتبدي بالصورايخ تنتهك جسد وكيان المرأة وتسلبها سلميّتها، تناولت أيضًا الآخر وأزمة الهوية في الصراع الذي يعايشه المهاجر في بلاد اللجوء، مشاعر الرفض، ووصمة اللجوء التي تسلب اللاجئ أمانه وتجعله “على قَلَقٍ كأنّ الرّيحَ تَحْتِي” كما يقول المتنبي.

        عُرضت لوحتها الشهيرة  The Kawliya Dance   التي رسمتها في العام 2013، في المزاد العلني بمبلغ يفوق 110 جنيه إسترليني. ظلت الفنانة هيْف على اتصال بالواقع المُعاش في العراق، حيث القتل الهامشي والحروب الشعواء والقهر اليومي الذي تتعرض له النساء جراء هيمنة السيطرة الذكورية والقتل تحت ما يسمى بجرائم الشرف، ومأساوية الظروف السياسيّة من جهة وفقدان الأحبة، لذا فهي تسعى إلى نقل صراخ النسوة عبر لوحات تتمايز في أغلبها بالعنف وتُثير في الرائي مشاعر الانزعاج والصدمة الأولى. ولكنها الصدمة المُحفّزة وهي دعوة للاحتجاج وإعادة قولبة المفاهيم.

        صوّرت هيْف تفاصيل وجدانية لا يمكن أن تصل بسهولة، ففي لوحة تظهر فيها امرأة تقوم بقص شعرها تبدو المرأة لا مبالية ويائسة، وهي حالة تلجأ إليها المرأة لتعلن خسارتها ورغبتها بالانعتاق، وفي لوحة أخرى تظهر فيها ثلاث نساء معلّقات من رقابهن في شجرة من مجموعة Disguised  Marionettes   بشكل غير مريح للنظر، الملفت إمساكهن بأيدي بعضهن البعض وهو دليل على اتحادهن فيما يتدلى شعر كل واحدة منهنّ عن كتفها دلالة على تحررهن بعد الموت، وعن هذا العمل تقول: إنه عمل يضج بالمواجهة أبصر النور خلال فترة مظلمة من حياتي.

        في عمل Not quite human 2019 تظهر النساء في لوحاتها في وضعيات متحركة وأشكال ملتويّة، في لوحات تتداخل الأجساد لتشير إلى تقاطع طرقها وأحلامها وتمازج ذكرياتها، وقد تدرجت في إدخال شخصيّاتها في مواقف ودرجات من العري الجماليّ اللامبتذل، ويظهر العزم من خلال الخطوط الحادة والنظرات الثاقبة فالمرأة لم تعد خاضعة بل قابلة للمواجهة في مسألة التحكّم بقدرها، تعيد هيْف تشكيل الجسد بعيدًا عن الاستعمار الثقافي له.

        وعن غربة المظهر والهويّة تقول: حاولت أن اصبح سويدية جعلت شعري أشقرًا ، أتقنت التحدث بلغتهم وسمحت أن يتم استعماري …، ولكن الخروج من أزمة الهوية كان من خلال الرسم للابتعاد عن واقع اللجوء والشتات وما تخلّفه الحدود الوهمية من مشاعر نقص.

         وإذ تُمثّل اللُّغة أبرز مظاهر الهويّة عند الإنسان، تناولت موضوع خسارة اللغة الأم والتي بفقدانها يفقد  نفسه ومشاعره القديمة، وهذا ما عبّرت عنه بقولها:  “أبحث في داخلي عن الطفلة ذات التسع سنوات التي كان باستطاعتها أن تتكلم وتكتب العربية بطلاقة”.  جسّدت الفنانة ذلك في عمل لها من مجموعة أعمالها “ورق”، حيث تظهر في إحدى اللوحات امرأة  تقوم بقطع لسانها بالمقصّ وهو ما يرمز عند كهرمان من جهة لفقدان التواصل مع اللغة الأم، أي العربية، ومن جهة أخرى الصراع الذي يعيشه اللاجئ المهاجر في تعلم اللغة الجديدة والضغط لموضعة نفسه في الفضاء الثقافي الجديد وانغماسه في اللغة الجديدة على حساب ثقافته الأم ولغته الأصلية.

 أقيمت لها عدت معارض، نذكر بعض منها:

  • 2009 – Marionettes, The Third Line, Doha
  •  معرض الخط الثالث: دبي، المعرض الفردي الرابع لهيف كهرمان في دبي. تستخدم كهرمان الكتان والخشب والورق وتحكي قصة صدمتها الشخصية بعد حرب الخليج كمهاجرة عراقية. الحاضر المستقبل نوفمبر 2015.
  • إعادة نسخ نقوش المهاجرين

 : Re-Weaving Migrant Inscriptions, Jack Shainman Gallery, New York2017

  • متحف هونولولو: الأجسام غير الضرورية (23 مارس 2019-4 أغسطس 2019)
  • Not quite human  معرض ليس إنسانًا تمامًا 2019.

    وبهذا تجذب هيْف كهرمان الأنظار إلى رسوماتها التي تحمل رؤيا وفكر قابليْن للمحاورة، وعلى تماسٍ مع الكثير من القضايا الحساسة التي تتناول أزمة الهويّة وصراع الأنا والآخر،  ووضع النساء، والحرب التي تترك أثرها الدامي في النفوس قبل الأجساد، وهي من خلال رسمها تُحاول لملمة جروح الماضي، واستحضار ذكرياتها عن الوطن الجريح حيث شهدت الحرب وهي طفلة في العراق، وفي سبيل التصالح مع الذات واللغة تتجسّد الخطوط والألوان الشرقية وحتى الكتابة العربية في لوحتها، والرموز التي تحمل رائحة الوطن وتشي بذكرياتها عنه ومنها ورق الشدّة (حيث كانت العائلة من الأقارب والأعمام تتجمع في الطابق السفلي ويلعبون ورق الشدّة فيما الصواريخ والقذائف تنهال في الخارج)  والمهفّة (مروحة يدوية مصنوعة من سعف النخيل) ، ولكنها لا تملك التغاضي عن الكثير من الخروقات والانتهاكات التي تتعرض له النساء في العراق الجريح وفي كلّ العالم.

* المصادر والمراجع

– موسوعة https://ae.wikiqube.net Hayv_Kahraman

– ابتسام عازم، مقال ” هيف كهرمان: المرأة، العراق أبدًا، وذاك الغزو الأميركي”، 8 أيلول 2017، موقع العربي الجديد  https://diffah.alaraby.co.uk

 – صحيفة العرب القطرية، مقابلة مع الرسامة هيف كهرمان.

www.alittihad.ae  مقال للكاتب محمود عبدالله، بعنوان “هيف كهرمان جروح الإنسان في زمن العولمة”، 12 نوفمبر 2017.

– Havy Kahraman, www.artdubai.ae Art Dubai portraits , produced in collaboration with Forward James Filmmakers. 2019.

www.shangrilahawaii.org  /hayv-kahraman, HONOLUL, feb 2019.

العدد 121 / تشرين 2021