نافذة على الحياة… هجرة و تهجير

سهير ابراهيم

أهدى لي جاري شجرة زيتون صغيرة مزروعة في وعاء فخاري جميل، كانت تلك حصتي من اصص المزروعات في حديقته و التي رغب باهدائها الى من يتقبلها من الجيران بعد ان اختار الانتقال من منزله الواسع للعيش في شقة اصغر مساحة ضمن عمارة سكنية. لم افكر قبل ذلك بامكانية زراعة اشجار الزيتون هنا في هذا البلد حيث الطقس يختلف بشكل كبير عنه في البلاد التي تتميز بوفرة انتاج الزيتون وزيته. ربما اختار جاري تلك الهدية لي لانه يعلم ان اصولنا متقاربة، اعني انا و شجرة الزيتون، فجذورنا، انا و هي، تتغلغل بعيدا هناك في بلاد الشمس المشرقة، بلاد النخيل و الزيتون… بلاد المهاجرين و المُهجَّرين!

كتب مبشر فرنسي كان يعيش في واحدة من مناطق غرب الصين في النصف الثاني من القرن التاسع عشر انه شاهد شجرة فريدة من نوعها، تنتصب على قمة ترتفع اكثر من الفي متر عن مستوى سطح البحر، تحمل اغصانها في الربيع زهورا بيضاء تبدو و كانها حمائم ترفرف باجنحتها عندما يداعب النسيم وريقاتها الغضة. ارسل في حينها عينة من تلك الشجرة زرعت في باريس اول مرة عام ١٨٧١م. بعد فحص تلك العينة و دراستها تبين انها جنس جديد من الاشجار من فصيلة لا يوجد لها مثيل في فرنسا، لذلك تمت تسميتها دافيديا تيمنا باسم مكتشفها و مرسلها الاب ارماند دايفيد.

طرقت اخبار تلك الشجرة الجديدة والغريبة مسامع المهتمين بالنباتات في لندن، وخصوصا السير هاري فيتش الذي امتلك حينئذ مع عائلته اكبر مشاتل زراعة وبيع النباتات في اوروبا والتي كان مقرها في منطقة جيلسي في لندن. توقدت لدى فيتش الرغبة في الحصول على عينات من تلك الشجرة وزرعها في مشاتلهم رغم علمه بندرة وجودها وعدم معرفة اماكن تواجدها بالتحديد.

مر عقد من الزمان على زراعة تلك الشجرة في باريس و لا اخبار عن وصولها الى لندن، ولكن خلال عام ١٨٨١م بدأ الايرلندي اوغستين هنري الذي كان يهوى جمع النباتات النادرة وكان يعمل حينذاك في شنغهاي في مجال دراسة النباتات المستخدمة الطب الصيني، بدأ بارسال عينات من نباتات مختلفة الى حدائق كيو الملكية في لندن. ومثل ديفيد من قبله فقد عثر اوغستين على شجرة مفردة من النوع المطلوب، ولم تكن هذه المرة على قمة جبل كما سبق و انما في ارض منخفضة فارسل عينات جافة منها الى حدائق لندن الملكية.

مر اكثر من عقد ونصف من الزمان ولم تهن عزيمة السير هاري فيتش ورغبته في الحصول على تلك الشجرة التي اصبحت مثل الاسطورة و الحلم بالنسبة اليه، كان يريد عينة حية طازجة. في عام ١٨٩٧م بدأ ارنست هنري ويلسون العمل في حدائق كيو الملكية، و قد عُرف ويلسون بانه كان جامع النباتات الاكثر شهرة حينذاك. عندما سمع فيتش بذلك عرض عليه مهمة ارساله الى الصين لجمع نباتات مختلفة ومتميزة لغرض نقلها الى بريطانيا واهمها طبعا تلك الشجرة التي ظلت رغبته في الحصول عليها تتزايد بمرور الزمن. نصح فيتش ويلسون ان يبحث عن تلك الشجرة في المكان الذي ذكره ديفيد بالتحديد دون الابتعاد عن تلك المنطقة. لكن ويلسون لم يجد الشجرة عندما وصل الى مكانها بعد جهد وعناء، كانت قد قطعت لاستخدامها لاغراض البناء. لم يلتزم بنصيحة ممول الرحلة فيتش و انطلق يبحث عن شجرة من ذلك النوع في رحلة لم يستطع تكهن نهايتها نظرا لمساحة الصين الشاسعة. لكن الحظ كان حليفه اذ عثر على مراده على بعد ستمائة كيلومتر من مكان انطلاقه، فقد وجد مجموعة اشجار من النوع المطلوب و تمكن اخيرا من الحصول على عدد من العينات منها اضافة الى عينات من نباتات اخرى .

لم تخل رحلة العودة من المخاطر، فقد تحطم المركب الذي استقله ويلسون للعودة الى بريطانيا و غرقت جميع العينات النباتية و الحبوب التي جمعها الا انه نجا و نجت معه بذور دافيديا. يذكر ان تلك الشجرة ازهرت في لندن اول مرة عام ١٩٠٦م.

لا ادري ان كان لتلك الشجرة اسم في الصين؛ موطنها الاصلي، لكن يبدو لي انها لم تختلف عن اي مهاجر جديد الى بلاد غريبة، حيث يجد سكان البلد في الغالب غرابة في ذلك القادم الجديد؛ غرابة في اسمه  ولغته او طريقة عيشه؛ طعامه ولباسه وعادات وطقوس حياته اليومية. اكتسبت تلك الشجرة اسما جديدا عند وصولها الى فرنسا، وفي لندن كانت ازهارها البيضاء الغريبة محط اعجاب الناس، فكانوا يرتادون الحدائق في الموسم الذي تتفتح فيه تلك الزهور لامتاع العيون بالنظر اليها، ولانها كانت غريبة وجديدة فقد بدأ الناس باعطائها اسماء كل وفق ما كان يراه فيها، فمن كان يُؤْمِن بالاشباح بدت تلك الزهور لناظريه اشباحاً بيضاء تطوف حول الشجرة، فصاروا يسمونها شجرة الاشباح. وهناك من رآى تلك الورود و كانها حمائم بيضاء ترفرف باجنحتها كلما داعبها النسيم و عليه اطلقوا عليها اسم شجرة الحمام الابيض.

هناك اسم اخر لهذه الشجرة هنا في بريطانيا، الا وهو شجرة المناديل البيضاء وهذه الاسم يروق لي، فتلك الزهور تبدو و كانها مناديل معلقة باغصانها، تُلوّح كلما هب عليها النسيم وكأنها المناديل التي يلوح بها الناس لاحبتهم المغادرين، تلويحة المنديل الابيض التي تبث معها الاشواق وامنيات العودة بالسلامة والامل بلقاء قريب.

اعود الى شجرة الزيتون الصغيرة التي بدأت تكبر ببطء في حديقة داري، فهي الاخرى مهاجرة او سليلة اشجار تم تهجيرها و نقلها عبر البحار و القارات الى بلاد جديدة و طقس جديد غير مألوف. يقال ان استخدام زيت الزيتون لم يكن مألوفاً في هذا البلد قبل ما يزيد عن النصف قرن من الزمان.

في واحد من كتب الطبخ الصادرة في لندن عام ١٩٥٠م، والذي يضم وصفات طبخ من بلاد حوض البحر الابيض المتوسط، حيث يكثر استخدام زيت الزيتون في تلك الوصفات، تنصح اليزابيث ديفيد، مؤلفة الكتاب، بالحصول على زيت الزيتون من الصيدليات، حيث لم يكن يستخدم آنذاك في بريطانيا في الطعام و انما اقتصرت الاستفادة منه لعلاج امراض الاذن!

كنت استغرب سابقا من الذين يحسدون الطيور على اجنحتها و على مقدرتها على الطيران  والتحليق، كنت بدلا من ذلك اغبط الاشجار على رسوخها في مكان واحد؛ ثبات و استقرار دائم، ولكن حتى الاشجار لم تسلم من غرور الانسان وانقياده لرغباته، حتى هذه الكائنات الجميلة التي ترسل جذورها بعيدا في جوف الارض لم تستطع الثبات امام التهجير القسري الذي فرضه الانسان عليها.

تذكرني شجرة الزيتون في حديقتي، و شجرة المناديل في الغابة القريبة من بيتي بقول الشاعر:

انا غريبان هاهنا

و كل غريب للغريب نسيبُ.

العدد 121 / تشرين 2021