لم تتسع الطائرة لريش عصفور

لم يكتب اللبنانيون اسطورتهم المشتركة

محمد علي فرحات

قد يكون لبنان هو ما تبقى من الاجتماع الإنساني في المشرق العربي. انه الآن ينحدر نحو الحضيض، بعدما سبقته سورية الى ضيق افق نظامها وأحقاد معارضتها فصارت بلداً معلقاً فوق فوهة الجحيم، وسبقه العراق حين استبدل ايمانه المتعدد بكراهية أكثر تعدداً. أما فلسطين فلا تزال تختنق بفعل الاحتلال والترجمات الغامضة لمقاومة يفترض أن تكون الأكثر وضوحاً. ويبقى الأردن منتظراً موقعه في آخر المصائر المشرقية.

واللبناني يعيش في نطاق الجريمة. يصنفونها كبرى أو صغرى، مع أن الجريمة واحدة، تبدأ باستغفال المواطنين واحتقار ذكائهم وسرقة أموالهم وأحلامهم ولا تنتهي بقتل هذا أو ذاك، من أعلى السلّم الاجتماعي الى أدناه.

وطن عالق في مستنقع الجريمة، فيما شمسه ساطعة وماؤه وفير وشجره لم تقضِ عليه الحرائق، أما البحر فأوسع من الاحلام.

مع ذلك يعلق ذلك الوطن في مستنقع الجريمة، فمن الجهات السياسية المتصارعة يهبط الكلام مثل شوك، مثل الأسلاك المعدنية الصدئة، تخاف ان تقرب الكلام أو يقربك، تسمعه من بعيد وتدرك انهم حاصروك الى الأبد. لا تستطيع السفر الى حلم أو الى أرض أخرى أو الى لغة بلا شوك. الطبيعة خارج الغرفة. تراها من النافذة، لكن النافذة مجرد لوحة ولا طبيعة هناك.

كانت طبيعة فلوثناها بالمستنقع، بكلام الشوك، واستحضرنا من الذاكرة الغائرة مشاهد حية نرسمها على النافذة.

والفقر هناك خلف البنايات العالية، نغطيه بأوراق الموز لئلا يفقد ماء الحياة ويجفّ تحت شمس قاسية.

والفقراء أيضاً هناك خارج الصورة، لا يراهم الغرباء، فيبدو كل شيء كما رسمناه على الورق. مدينة على ورق وناسها بالأبيض والأسود. ولا حدود للمدى خلف البنايات العالية. نسمع الغناء طالعاً من كوخ وحيد، وينساب الصوت ناعماً مثل غطاء الدفء لنائم يهنأ بأحلامه.

خلف البنايات العالية المدى الواسع والفقراء الكثيرون والأشجار القليلة. فقراء يؤلفون شعوب العالم. فكرة كانت تعم الدنيا بأحلام وكتابات وموسيقى وتظاهرات. خلف البنايات العالية حطام شعوب تتوهم اليقظة، تمشي نائمة وتناضل نائمة وتموت نائمة ولا تستيقظ. حطام يحطم نفسه بحماسة ايمانية حتى يتحول ذرات، يتحول تراباً.

هذه المسافات كانت بشراً من لحم ودم فصارت حقولاً بلا زرع مع الاستثناء بأشجار قليلة شاهدة.

يختل توازن لبنان وتزداد الشروخ بين جماعاته بل بين أفراده. ويطلع من الذاكرة عنوان مقال لصديق نشره في مجلة نسائية: “يد للبندقية ويد لأحمر الشفاه”، وهو دعوة الى معادلة القوة والجمال في حياة اللبنانيين، معادلة يحتاجونها هم وشعوب المشرق الأخرى: أن لا تنغص البندقية حياتنا وتمنع تقدمنا وانفتاحنا أكثر مما تمنع العدو عنا.

ولننظر الى هذا السجال المضمر في لبنان بين تمجيد الموت وتمجيد الحياة، وكيف أن المواطنين مدعوون الى تأكيد عدائهم لإسرائيل حتى وهم يرسمون أو يعزفون أو يعملون في مصنع أو يتفاعلون مع امثالهم من مبدعي وعمال الشرق والغرب. ان حيوية المجتمع هي التعبير الأبرز عن مقاومته الأعداء وتكريس سلامة نفسه، فيما يبدو الانكماش والانفصال عن الآخر بمثابة تمرين على الموت قبل ان يحيين هذا الموت.

وتبدو أفكار التعصب والتحامل التي ينسبها كثيرون خطأ الى ثقافة المقاومة، كأنها تنذر بهزيمة ولا تبشر بمقاومة: انظر الى الغصن الحي بمرونته المستندة الى جذر راسخ وأوراق مشرعة على الرياح، وقارنه بغصن يابس يعتبر قسوة الجفاف تحدياً فيبدو متصلباً على الدوام، أي جاهزاً لانكسار سريع.

لم يكتب اللبنانيون اسطورتهم المشتركة بل تجارب فردية تقارب الأسطورة ولكن لا تحققها، تجارب في روايات وأفلام وأغان ولوحات.

ما قبل الحرب الأهلية البادئة أواسط سبعينيات القرن الماضي قدم الرحابنة في أغاني فيروز اسطورة البلد الطهراني ينفض عن نفسه غبار الشر، وقد شكلوا بذلك وطن الأغنية يلجأ اليه المستمعون حينما يضيقون بفوضى الواقع وشروره، في نوع من ذخيرة للنقاء تساعد في نجاة الأرواح من رياح الحروب الساخنة وايقاعاتها العسكرية.

ويحتاج اللبنانيون الى كتابة اسطورتهم المشتركة أكثر من أي يوم مضى، نحن أمام شعب يقاد مرغماً أو طوعاً كالقطعان، وتستنفر العصبيات البدائية التي لم تمت بتقادم الزمن. ثمة قاتل قديم يمكن تحويله بطلاً، وثمة رجل عادي نعتبره اليوم رائياً لأنه لم ينخرط في المسار المؤذي.

والاحالة على الماضي حين تتعقد الأزمات هي نوع من الكسل واستسهال الأمور، إذ كيف لشعب يحفل حاضره بالأحداث الكبرى ان يستعيد أفكاره ويحدد سلوكه من الماضي البائد. وكم يبدو هذا الشعب غريباً حين لا تهزه دلالات تكوينه المركب وتجارب التنوع الديني على قاعدة الحرية وعيش المؤثرات الأوروبية والعربية على قاعدة المتابعة والنقد.

يبدو اللبنانيون اليوم كأنهم يلعبون بكرة نار يظنونها مقدسة ويتقاذفونها. ينساقون بخفة الى مصائرهم البائسة، لأنهم اعتادوا النظر الى الشأن الوطني باعتباره نتاج آخرين ويتقبلونه فرحين أو حزينين. كأنهم لم يمارسوا من قبل مسؤولية وطنية. هؤلاء اللبنانيون، هؤلاء التجار الدهريون الباحثون عن الربح وإن في حطام عيش خاص بهم لا بغيرهم. يرمون بأسطورتهم الذهبية في سلة المهملات ويحتفلون بأساطير من حديد صدئ يستوردها اسيادهم ويروجونها في خفة تليق بالأغنياء المثقلي الجيوب بالمال المسروق.

العدد 121 / تشرين 2021