طالبان.. والعالم المرتبك

الغرب يلملم خيبته الأفغانية والشرق أمام الواقع المجهول

محمد قواص

تكشف التطورات الأخيرة في أفغانستان أن الولايات المتحدة ترعى دون لبس “تسليم” البلد إلى حركة طالبان. والأمر منطقي لجهة أن المفاوضات في هذا البلد لم تجر، كما هو حال العراق، بين أميركا والحكومة، بل بين واشنطن وحركة طالبان المتمردة دون غيرها. فإذا ما جاء قرار التفاوض مع “طالبان” نتيجة ضغوط عسكرية دموية مارستها الحركة على القوات الأجنبية، فإن قرار انسحاب تلك القوات يعني رفع موانع الانتشار الطالباني السريع الذي يشهده البلد خلال الأيام الأخيرة.

استيلاء حركة طالبان على السلطة في البلاد هو مسار بديهي يعيد البلد إلى الوضع الذي كان عليه قبل الغزو الأميركي عام 2001. ببساطة تعيد واشنطن أفغانستان إلى الطرف الذي كان يحكمها وكأن عشرين عاما من الزمن كانت مرحلة عرضية وتفصيلا في تاريخ هذا البلد. وما تغير خلال عقدين هو كل شيء. تغير العالم، وتغيرت

هل من حرب قادمة بين طالبان وداعش؟

“طالبان”، وتغيرت الولايات المتحدة، وتغيرت المنظومة الغربية، وتغيرت مصالح الدول المعنية بمصير أفغانستان، وتغير خرائط الإرهاب وهياكل تنظيماته.

سرّ التحول الأميركي

الذهاب لإسقاط أفغانستان قبل 20 عاما جرى وفق خطة استراتيجية ذات بعدين، الأول عسكري بامتياز، والثاني مرتبط بموقع واشنطن والمنظومة الغربية داخل خريطة عالم ما بعد الحرب الباردة. غير أن الخروج من أفغانستان يجري دون أي خطة استراتيجية، بحيث أن الغرب يتخلى عن هذا البلد عسكريا وجيوسياسيا دون أي تردد أو ندم. لسان حال واشنطن يقول إن أفغانستان لم تعد مشكلة أميركية غربية، لكنها باتت اليوم، دون لبس، مشكلة حقيقية وتحديا لدول مثل الصين وروسيا وإيران والهند وباكستان.. إلخ.

لا تنهار أفغانستان أمام تقدم قوات طالبان” بسبب قوة الحركة وبأس مقاتليها فقط. سيكون للأمر حيثيات تتعلق بشعبية الحركة المتمردة ضد الوجود الأجنبي منذ عقدين والموقف العام من حكومة كابل وتورطها في لعبة المصالح والفساد. ومع ذلك فكل ذلك لا يفسّر سقوط البلد في يد طالبان، وفي الأغلب دون معارك. وما هو الأكثر ترجيحا أن  هذا الانهيار يرجع إلى انعدام أي إرادة دولية في الغرب كما في الشرق بمقاومة اللحظة الطالبانية، ذلك أن قرارا استراتيجيا غربيا أدى إلى رعاية مقاومة “المجاهدين” للاحتلال السوفياتي لافغانستان في ثمانينات القرن الماضي وقرارا غربيا أدى إلى سقوط نظام طالبان عام 2001، فيما يغيب أي قرار للوقوف في وجه طالبان. يفهم “أمراء الحرب” هذا التحوّل فيستكينون لمجاراة هذه الرياح.

تَعِدُ حركة طالبان بأنها تغيرت وتعلمت واستفادت من تجاربها. تطلق خطابا تصالحيا مطمْئِنا إلى الداخل الأفغاني يهدف إلى منح الأمان لخصومها. وتطلق خطاب ودّ وتعاون وسلم إلى كل الدول المحيطة المعنية بمصير أفغانستان ومستقبلها. وسواء كان في سلوك الحركة مناورة مؤقتة وظرفية أو تحوّل حقيقي نحو منطق الدولة وليس “الإمارة”، غير أن الثابت أن “طالبان” لا تملك مشروعا إسلامويا أمميا، وغير مهتمة بالوصل مع هياكل الإرهاب وجماعات الجهاد، ولا يبدو أنها تحتاج إلى ذلك لتوطيد حكمها. أعلنت واشنطن أن العالم لن يعترف بحكومة تقوم في أفغانستان بالقوة. تدرك “طالبان” ذلك وتعرف أن فسيفساء البلد يتطلب حكومة شاملة جامعة.

على أن الغرب الذي يتخلى عن غزوته المكلفة في أفغانستان، سيبتلع بسهولة أوجاع خيبته، وسيضجّرنا بنصوص التبرير والتفسير، وسيتمتع بسادية لئيمة بمراقبة تداعيات قرار “تسليم” البلد لحركة طالبان. ولئن فشل الغرب في استيلاد أفغانستان تلتحق بركب الحداثة، فإن الدول التي لطالما نظرت بعين العداء للوجود الأميركي في أفغانستان وتوافقت في ما بينها ضده، ستجد نفسها مرتبكة متفرّقة متناقضة المصالح حول بلد استكانوا لحاله خلال عقدين، وهم يحاولون هذه الأيام إيجاد تموضع آمن في مواجهة العبث والفوضى وعدم اليقين.

مأزق القيم الغربية

يطرح الحدث الأفغاني أسئلة داهمة تتعلق بالقيم الغربية التي قامت عليها منظومة دولية ولّدتها نتائج الحرب العالمية الثانية وأكد وجاهتها انهيار الاتحاد السوفياتي واندثار الحرب الباردة. بات هذا الغرب أكثر ثقة وأشدّ غرورا في طرح نموذجه في السياسة والثقافة والايديولوجيا على كافة دول العالم. بات أيضا أكثر عدائية في فرض انهيار نماذج الآخرين النافرة سواء حصل ذلك في يوغسلافيا السابقة في نهاية التسعينيات أم لاحقا في أفغانستان والعراق وليبيا.

في حقبة الحملات الاستعمارية جرى تسويق نصوص ونظريات فلسفية إنسانوية تدعو إلى نقل الحضارة والتمدن إلى الأمم الأخرى. بعض هذه الدعوات جاء متناسلا أو مصاحباً لحركة الكنائس في التبشير وتوسيع الفضاء الديني باتجاه بلدان يتم إخضاعها بقوة السلاح والترويج للأمر بصفته رسالة حضارية أو تحررية أو إيمانية. وفق ذلك قام الغرب بتصدير نفسه صاحب رسالة زيّنت له أن يكون (مستعمرا) وصيّاً على مصير الآخرين.

قضت الحرب العالمية الثانية على النازية بصفتها سلوكاً ومنهجاً مفرطا نما على ضفاف المهام التبشيرية للكنيسة والنزوع نحو تكريس هيمنة الغرب بنسخة مفرطة بصفته عرقاً متفوقاً مهما كانت القيم التي يحملها. وبدا أن شرعية الوجود الغربي، القائم على جثة “الفوهرور” وعقائده، احتاجت إلى استيلاد معنى وجد في الديمقراطية والليبرالية وحقوق الانسان قواعد تبرر وجاهة النصر. وباتجاه الهدف السامي جرى الترويج للديمقراطية المتأسسة على شعارات المساواة والمواطنة والحرية التي رفعتها الثورة الفرنسية (1789-1799).

لم تدم النشوة الغربية ما بعد الحرب العالمية الثانية طويلا. كسرت الحرب الكورية (١٩٥٠-١٩٥٣) وحدة المنتصرين. وكان قبل ذلك قد أُسدل على العالم “ستارا حديديا” وفق تعبير ونستون تشيرشل في آذار (مارس) 1946. بات للغرب شرق يعانده وبات للقيم الغربية المزدهرة منافس ينهل زاده من الماركسية والأدب الأنسانوي الثوري القديم الجديد. قامت الحرب الباردة وتناطحت قيم الغرب والشرق الشيوعي والدوائر الثورية التابعة والمحيطة، بحيث انقسم الكوكب في الفكر والقوة والسلطة والثروة.

صراع الحضارات

كم شعر فرانسيس فوكوياما -في مؤلفه “نهاية التاريخ والإنسان الأخير” عام ١٩٩٢- بالضجر بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وأفول الحرب الباردة . صار من حقّ كونداليسا رايس  أن تعيد عام 2005 نبش مفهوم “الفوضى الخلاقة” العتيق كحاجة ضرورية لإيجاد أسواق جاذبة لقيم الحضارة الغربية. صحيح أن صموئيل هنتغتون كان خفّف من

كيف أسقطت طالبان الاحتلال الغربي

غرور فوكوياما مستشرفا عام 1996 “صراع الحضارات”، بيد أن الغرب بقي متمسكاً بقيمه، منتشيا بها، معوّلا على تصديرها كمنتجات كونية يمكن استهلاكها في أي زمان ومكان.

من شهد حدث 11 أيلول (سبتمبر) 2001 بدا له أن نبوءة هنتغتون قد تحققت وأن ذهاب الغرب لاسقاط “الشرّ” في أفغانستان ثم لاحقا في العراق (وليبيا) وإقامة “ممالك الخير” هو دليل على أن الصدام حقيقي متوقع، ومواجهته ممنهجة تمتلك قوة الحجّة والعقل وجدارا من القيم التي لا منافس لها. ومن شهد سقوط كابل في يد حركة طالبان قبل أيام لن يجد في دموع وزير الدفاع البريطاني، ولا في تلعثم وزير الخارجية الأميركي، ولا في ارتباك باريس وبرلين وبقية العواصم الغربية، ما بإمكانه فكّ طلاسم تلك الهزيمة التي أطاحت برصيد راكمه هذا الغرب يوما بعد يوم.

وإذا ما أهملنا أمثلة الفشل الغربي في معالجة أزمات كبرى كما تلك في العراق وسوريا وليبيا (دون التطرق إلى بلدان أخرى وملفات المناخ والمال والاقتصاد والجائحة)، فإن أفغانستان بالذات تمثّل حالة صارخة مكثّفة لهذا الفشل وتلك الهزيمة. أخضع الغرب أفغانستان على أرضية تفوّق فوكويامي وفكّك منظومة حكم طالبان وفرض أجندته على “اللويا جيرغا” القبائلية. كان أمام هذا الغرب فضاء فسيح وأرض بور لزراعة بزوره لإعادة بناء مجتمع، وتحديث هياكل السلطة، وتقويم قواعد ثقافية، وفرض الحداثة باطاراتها المختلفة في التعليم والإعلام والفنون وفروعها، وتعميم الديمقراطية منهجا وطريقة عيش. غير أن حركة طالبان اتكأت على مجموعة البشتون القبلية (أكبر قبائل أفغانستان) وأعادت إنتاج نفسها مخترقة المجموعات العرقية الأخرى (مثل الطاجيك والاوزبك والتركمان)، واستفادت من تشقق ما ينتجه العصر الغربي في البلد من أعراض جانبية كانت تُضخّم من أورام التبرّم من حداثة يتربى في ثناياها نقيضها من محسوبيات وفساد ومافيات مصالح.

تتحمل أفغانستان مسؤولية الفشل في استثمار الفرصة التاريخية للقفز نحو الدولة بمعناها الحديث. وهذا حديث آخر. لكن الغرب في هزيمته الأفغانية خسر رصيده في التبشير بقيمه الكونية بصفتها حقّ إنساني يجوز وفقه محاسبة موسكو ولوم بكين ومعاقبة هذه الدولة أو تلك. والحدث يمثّل هزيمة عسكرية، لكنه يمثل أيضاً انهيارا فكريا يعجز كثير من فلاسفة هذا العصر عن اجتراح تفسيرات له. وحده المفكر الروسي الكسندر دوغين لا يستبعد أن يكون الحدث مقدمة لانهيار المنظومة الغربية على منوال ما حصل للمنظومة الاشتراكية.

القبيلة مقابل الدولة

ينهار الغرب أمام ميليشيا قبلية متواضعة العدد والعدّة، ولا تحمل في جعبتها إلا الترويج إلى إسلام بدائي أقل تعقيدا وجرأة مما كان يقترحه الإسلام السياسي التقليدي ودوائره الجهادية التابعة. وتلملم الديمقراطية الغربية خيبتها مهزومة مندحرة حائرة أمام من يحلم بإقامة “إمارة” ويمنن العالم والأفغان أنه، بعد مراجعة عمرها عقدين، لن يمنع تعليم البنات.

قد يقول قائل إنه كان من السذاجة الإيمان بالخطاب التبشيري الحضاري الذي حمله الغرب المستعمِر سابقا والغرب الحديث لاحقا. وإن أسقطنا الوعاء القيمي لمسعى الغرب لسيادة العالم، فماذا تبقى له هذه الأيام للبيع في أسواق العلاقات الدولية ومناوراته بين شرق وغرب وجنوب وشمال. بدا ان الميليشيات تتعملق أمام الجيوش الكبرى. وبدا أن دولة عظمى كالولايات المتحدة تنظم انسحابها من بلد بالتفاوض مع الجماعات المتمردة وليس مع حكومة البلد الشرعية. وبدا أن رئيس الحكومة البريطاني يكاد يناشد العالم ألا يعترف بحكومة طالبان فتنتصر القبيلة على الدولة.

في أعمال البروفسور Sumit Guha في الولايات المتحدة قراءة جديدة لديناميات القبيلة في آسيا وحداثة أدواتها في مواجهة الدولة. يسخر الرجل من تخلّف تقييم الغرب لموقع القبيلة وحركيتها وبالتالي قدراتها على إسقاط الدولة أو الالتفاف عليها. تقفز هذه الحقيقة في وجه هذا الغرب بحيث يبدو وزير الدفاع البريطاني بن والاس غير مستوعب

هل يدفع جو بايدن الثمن

للصدمة فيتهدج صوته ولا يستطيع حبس دموعه. قال إنه “فشل للمجتمع الدولي (…) إنه أمر محزن.. والغرب فعل ما فعله”. وفي الجدل الذي يستعرّ في واشنطن كما ذلك الذي يستدعي اجتماع البرلمانات في لندن وباريس وعواصم غربية أخرى، ما يُسلط المجهر على تحوّل غربي، له ما بعده، تفرضه اللحظة الافغانية الموجعة.

العالم وأفغانستان الجديدة

تغادر الولايات المتحدة أفغانستان ومعها كل الدول الحليفة. تترك واشنطن البلد ليتحوّل إلى ميدان تواجهه دول أخرى بعضها يناصب أميركا الخصومة والعداء. فوق ذلك فإن تلك الدول ترتبط بتحالفات متعددة الأشكال والحوافز والتسميات ما يفترض أن يجعل من مقاربتها للشأن الأفغاني الجديد جماعيا منسّقا غير متناقض. إلا أن ذلك التآلف قد يكون نظريا ويحتاج إلى مزيد من الوقت والتجربة للخروج باستنتاجات نهائية.

ترتبط الصين وروسيا بعلاقات متقدمة توصف بالاستراتيجية لا سيما في السياسة والدفاع والاقتصاد. ويُدعّم موقف الغرب العدائي من موسكو وبكين لُحمة العاصمتين وتَقَارب رؤاهما في الكيفية التي يمكن من خلالها، موحّدين، أن يواجهوا الضغوط الواردة من المنظومة الغربية وواجهاتها المعلنة: مجموعة الدول السبع إلى الاتحاد الأوروبي مرورا بالحلف الأطلسي.

وترتبط الصين وإيران باتفاقية استراتيجية لمدة 25 عاما جاءت تتويجا لتقدم متدرّج في علاقات بكين وطهران. ولطالما استقوت “الجمهورية الإسلامية” بالتحالف الجديد مع الصين لتقوية أوراقها في التفاوض مع الولايات المتحدة، لا سيما ذلك الذي شهدته فيينا في 6 جولات حتى الآن.

وترتبط روسيا وإيران بعلاقات متقدمة تحفّزها حاجة البلدين إلى تعظيم تبادلاتهما الاقتصادية، إضافة إلى سعيهما إلى تكامل سياسي وجيوسياسي بحكم ضريبة الجغرافيا، لاسيما حول بحر قزوين. كما أن العامل السوري طوّر علاقة البلدين المتأسّسة على حاجة روسيا لقوى إيران براً لتثبيت موقع روسيا في سوريا، وحاجة إيران إلى قوى روسيا الجوية للدفاع عن مكتسباتها السورية وامتداداتها باتجاه لبنان.

على أن تقاطع روسيا وإيران وتركيا داخل عملية آستانا لإدارة صراع الدول الثلاث داخل سوريا طوّر من دينامية العلاقة بين الدول الثلاث التي يفترض أن تلتقي مصالحها مرة أخرى داخل التحوّل الذي طرأ على أفغانستان، علماً أن تركيا التي وعدت نفسها بموقع مرحب به بعد انسحاب أقرانها في الحلف الأطلسي، لم تجد لدى حركة طالبان ذلك الترحاب المتوخى.

أما الهند فهي لاعب كبير في المنطقة ووسّعت في السنوات الأخيرة من انخراطها في أفغانستان. وتتطلع نيودلهي إلى تمتين ومدّ نفوذها في هذا البلد لأسباب تتعلق بطموحات الهند الاقتصادية في المنطقة، ولأخرى ترتبط برغبة الهند في “تفخيخ” أفغانستان ومنعها من العودة إلى أن تكون حديقة خلفية حصرية لباكستان.

ومع ذلك فإن مقاربات كل الدول المعنية بالشأن الأفغاني لا تحظى بأي تنسيق أو تكامل، ما ينبئ بامكانية تناقض تلك الأجندات والمصالح. والمفارقة أن الدول الإقليمية جميعها تلتقي مع الخصوم الغربيين على قاسم مشترك لا لبس في حقيقته وهو الهاجس الأمني والخوف من الإرهاب.

الخوف من الإرهاب

إيران لا تريد أن تكون أفغانستان شوكة عقائدية (سنيّة) على حدودها الشرقية. الهند لا تريد أن تكون أفغانستان الطالبانية داعمة لمن يقاتلها في كشمير. وروسيا لا تريد لأفغانستان أن تهدد حلفاءها على الحدود (أوزبكستان تركمانستان وطاجكستان) وتعبث بعلاقات مريبة مع خلايا إسلامية في فضائها الداخلي (من شيشان وغيرهم).

لماذا يقلق بوتين من الانسحاب الأميركي

والصين لا تريد من أفغانستان أن تكون ملجأ وحاضنا لجماعات الإسلاميين الايغور. والدول الغربية لا تريد أن تعود أفغانستان لتكون منطلقا للجماعات الإرهابية التي قد تهدد أمنها على منوال ما ارتكبه تنظيم القاعدة منذ ما قبل اعتداءات 11 سبتمبر 2001.

وحدها باكستان ومخابراتها تحظى بعلاقات تاريخية عريقة مع حركة طالبان ومع مجموعة البشتون  القبلية في أفغانستان. لكن المفارقة الكبرى أن باكستان التي من المفترض أن تكون أكثر الأطراف فوزا بانتصار طالبان، فإن فيها من يرى في الأمر نذير شؤم وضرر، ذلك أن صعود طالبان سيقوي من عضد التطرف الإسلامي داخل باكستان نفسها، ويبعد البلد عن الخيار الذي كان دعا إليه قبل أربع سنوات، قائد الجيش الباكستاني الحالي، الجنرال قمر جاويد باجوا، بتحويل باكستان إلى “دولة طبيعية” وما يتطلبه ذلك من تحسين للعلاقات مع الهند وتقليل اعتماد باكستان على الصين.

وفق هذه المعادلة ستمدّ كل دول العالم اليد إلى حركة طالبان شرط أن تبقى أفغانستان مكانا لا يشكل خطرا على القريب والبعيد. ووفق نفس المعادلة ستكتشف طالبان الورقة الأمنية كأداة فاعلة في علاقاتها الجديدة التي تَعِد بها مع العالم. ولئن تكرر الحركة حرصها على إقامة علاقات جيدة مع كافة الأطراف الخارجية وتتعهد، على الأقل وفق الاتفاق مع الولايات المتحدة في الدوحة، على عدم إيواء أو دعم أو تمويل أية جماعات إرهابية قد تخطط لاستهداف أميركا (وحلفائها ضمنا)، فإن تلك الورقة ستبقى عاملا حيا قد يصعب عدم التلميح إليه والتلويح به في كل سلوك رسمي أو “غير منضبط” قد تلجأ إليه طالبان مستقبلا، ما يُبقي لملف الأمن دينامية ابتزاز محتمل.

يرى أوليفيه روا الباحث الفرنسي المتخصص في الشؤون الإسلامية أن طالبان تغيرت وتطورت لكن هذا التطور يخص السياسة والعلاقة مع العالم ولا يعتقد أنه يمسّ نظرتها للمجتمع. وربما أن ما يذهب إليه روا هو ما يخيف الأفغان من حيث ذهاب طالبان إلى الحدود القصوى في طمأنة الخارج وإرضائه بالالتزام بمنع الإرهاب من الانطلاق من أفغانستان، فيما يُترك للحركة إدارة الشأن الداخلي فتغضّ العواصم الطرف عنه وتكتفي بالاطلاع على تقارير منظماتها الحقوقية فتصدر بيانات “القلق” وتصريحات الأسف. تكتفي طالبان في هذا الصدد بالاعلان عن سماحها للنساء بالتعليم والعمل. فتبتسم بعض العواصم البعيدة وتبدي الاعجاب بهذا التطور الحضاري العظيم.

إيران في أفغانستان:

في كانون الثاني (ديسمبر) 2020 نصح وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف حكومة كابل بالاستعانة بـ “لواء فاطميون” لمكافحة الإرهاب. لم يقل ظريف آنذاك إذا ما إذا كان الإرهاب يشمل حركة طالبان، ولم يكن ذلك مهماً. جل ما أراد قوله هو إن شيعة أفغانستان هم وديعة إيرانية تمتلك طهران قرارهم فتزجّهم في قمع المحتجين في إيران أو في حرب سوريا دفاعا عن النظام هناك أو إعارتهم إلى حكومة بلدهم أفغانستان من وقت لآخر.

استخرجت إيران من مجموعة الهزارة القبلية الأفغانية لواء من المقاتلين. غالبية الهزارة من الشيعة ويمثلون نسبة تتراوح ما بين 10 و 12 بالمئة من إجمالي الشعب الأفغاني. جرت عمليات التجنيد بكثافة في صفوف اللاجئين منهم في إيران قبل أن تمتد عمليات التجنيد لتطال الهزارة في بلدهم أفغانستان. وفيما تتخبط أعداد المقاتلين داخل “لواء فاطميون” بين ما هو دعائي وما هو محتمل، فإن عدد مقاتلي ذلك اللواء يقدر بحجم يتراوح ما بين 5 و 15آلف مقاتل.

في عهد الرئيس أشرف غني صدرت مواقف ترفض قيام طهران بتجنيد وتسليح مواطنين أفغان وسوقهم باتجاه معارك إيران في المنطقة. قال غني في أيلول (سبتمبر) 2018 إن “المواطنين الأفغان الذين يقاتلون في بلد آخر يرتكبون

هل ينجح ابراهيم رئيسي في تطبيع علاقات طهران وطالبان

جرما” بموجب الدستور. لم تخض كابل معركة مع طهران فالأمر ليس أولوية. ثم أن طهران نسجت مع أفغانستان بعد سقوط طالبان في عام 2001 علاقات مع الحكومات المتعاقبة مذاك، وعلاقات مع قيادات الهزارة، وعلاقات مع قوى سياسية أفغانية من مجموعات عرقية مختلفة لا سيما تلك التي كانت تشكل تحالف الشمال. لكن ما هو لافت في علاقات طهران هي تلك مع حركة طالبان.

طهران ضد واشنطن

لاحقا طورت إيران ببراغماتية المرحلة السوداء التي وسمت علاقاتها مع حركة طالبان. وصل التناحر الطائفي بين الطرفين إلى درجة تصادم طالبان، في بداية استيلائها على السلطة منتصف التسعينات، مع الشيعة الهزارة وصولا إلى إعدام دبلوماسيين إيرانيين في قنصلية بلادهم في مزار شريف في آب (أغسطس) عام 1998. كاد أمر هذه المواجهة أن يتحول إلى حرب شاملة  إلى أن أتاحت التحولات الدولية تعاونا علنيا بين طهران وواشنطن لاسقاط نظام طالبان برمته بعد اعتداءات 11 أيلول (سبتمبر) عام 2001

لاحقاً دعمت إيران كل الجماعات المقاتلة ضد الوجود الأميركي في أفغانستان شرقا وفي العراق غربا. لم تفرّق في هذا الدعم بين جماعات السنّة كما جماعات الشيعة بهدف إشغال الوجود الأميركي واستنزافه ومنعه من أن يكون عاملا مهددا للنظام في إيران. ولئن دعمت إيران -كما دول أخرى- “طالبان” بالمال والسلاح سراً (وفق اتهامات الولايات المتحدة نفسها)، فإن العلاقة بين طهران والحركة باتت في السنوات الأخيرة علنية تستقبل العاصمة الإيرانية وفقها قيادات طالبانية وتقترح نفسها وسيطا “محايدا” بين الحركة المتمردة وحكومة أفغانستان الشرعية.

لم تستسغ طهران ذلك التفاوض المباشر الذي جرى في الدوحة بين الولايات المتحدة وحركة طالبان منذ عهد الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب. حتى أن وزارة الخارجية الإیرانیة أصدرت في أول آذار (مارس) 2020 بيانا انتقدت فيه اتفاق السلام الأميركي مع حركة طالبان، معتبرة أن الولايات المتحدة ليس لديها “وضع قانوني” لتوقيع معاهدة سلام أو “تحديد مستقبل أفغانستان”. وأشار البیان حينها إلی أن إيران “تعتبر أن المساعي الأميركية تهدف إلی إضفاء الشرعية على وجود قواتها في أفغانستان، وأن طهران تعارض هذه المساعي”.

عقائد إيران

تقوم عقيدة الجمهورية الإسلامية على قاعدة أنها العنوان الحصري الوحيد لشيعة الأرض بحيث أن منعتهم وأمانهم مرتبط بقوة وأمن نظام طهران. وتكمن القاعدة الثانية في أن أمن واستقرار النظام السياسي في طهران يحتاج بنيويا إلى رواج القلاقل في بلدان الجوار بحيث تتصدّع وتعجز عن أن تكون عوامل خطر وتهديد. والقاعدة الثالثة تقوم على معادلة تكون فيها إيران مزعزعة لاستقرار تلك الدول صانعة لأزماتها بحيث لا يستقيم أي حلّ أو سكينة داخلها إلا باتفاق مع طهران وحضورها طاولة التسويات. هذه الحقيقة تنسحب على العراق وسوريا ولبنان واليمن، وحكما ستنسحب على أفغانستان المستقبل. والقاع

تعتمد إيران على قاعدتها الطائفية داخل أفغانستان سواء من خلال “لواء فاطميون” أو من خلال بناء “حشد شعبي” أفغاني بدأت معالمه تصبح أكثر وضوحاً (وفق ما نشرت صحيفة “جمهوري إسلامي” الإيرانية المقربة من المرشد علي خامنئي). وقد لا تسعف إيران الحقيقة الديمغرافية للشيعة في أفغانستان في أن تستند على جماعاتها الولائية فقط للبناء عليها في تشكيل سياسة مع أفغانستان. غير أن طهران تسعى لاستثمار علاقاتها القديمة مع كافة فرقاء الصراع الأفغاني خلال العقدين الماضيين لإيجاد دور لها داخل التباينات التي لن تغيب عن المشهد الأفغاني.

لم تعترف طهران حتى الآن  رسمياً بسلطة “طالبان” وتدعو خارجيتها جميع الأطراف” في أفغانستان إلى إنهاء العنف والتفاوض من أجل تشكيل حكومة “شاملة”. وما تعتقده حقيقة، ودون نفاق الدبلوماسيين، عبّر عنه بوضوح أبو الفضل بهاء الديني، ممثل المرشد في باكستان. قال إن “طالبان” لم تتغير، ويجب إبداء الحذر في ما يتعلق بها. أوضح لوكالة “جماران” الإيرانية الإخبارية: “لم تتغير ماهية “طالبان” وهويتها، ولا يجوز تطهير سلوكها”.

والمعضلة، بالنسبة لإيران أنها لاعب بين لاعبين كبار مثل الصين وروسيا والهند وباكستان والغرب عامة، بحيث أن الرشاقة الإيرانية محدودة لتماسها مع مصالح دول أخرى ليست موجودة بالعدد والكفاءة في الميادين التي تنشط فيها إيران في المنطقة. ولئن تنظر طهران بعين قلقة إلى الاتفاق الأميركي مع طالبان وتجهل مضمونه ومفاعيله المقبلة، فإن الأمر، للمفارقة، قد يكون حافزاً لصاحب القرار الإيراني للتّعجل في إبرام اتفاق “مضاد” مع الولايات المتحدة يؤسّس لمرحلة جديد يتم فيها ترتيب المشهد الجيوستراتيجي في المنطقة والتموضع وفق معطيات أكثر وضوحا وتوقعا من ذلك الغامض الملتبس الذي تطلّ به حركة طالبان على العالم والمنطقة .. وإيران خصوصا.

ينهار الغرب أمام ميليشيا قبلية متواضعة العدد والعدّة، ولا تحمل في جعبتها إلا الترويج إلى إسلام بدائي أقل تعقيدا وجرأة مما كان يقترحه الإسلام السياسي التقليدي ودوائره الجهادية التابعة. وتلملم الديمقراطية الغربية خيبتها مهزومة مندحرة حائرة أمام من يحلم بإقامة “إمارة” ويمنن العالم والأفغان أنه، بعد مراجعة عمرها عقدين، لن يمنع تعليم البنات.

إيران لا تريد أن تكون أفغانستان شوكة عقائدية (سنيّة) على حدودها الشرقية. والهند لا تريد أن تكون أفغانستان الطالبانية داعمة لمن يقاتلها في كشمير. وروسيا لا تريد لأفغانستان أن تهدد حلفاءها على الحدود (أوزبكستان تركمانستان وطاجكستان) وتعبث بعلاقات مريبة مع خلايا إسلامية في فضائها الداخلي (من شيشان وغيرهم) والصين لا تريد من أفغانستان أن تكون ملجأ وحاضنا لجماعات الإسلاميين الايغور. والدول الغربية لا تريد أن تعود أفغانستان لتكون منطلقا للجماعات الإرهابية التي قد تهدد أمنها على منوال ما ارتكبه تنظيم القاعدة منذ ما قبل اعتداءات 11 سبتمبر 2001.

وحدها باكستان ومخابراتها تحظى بعلاقات تاريخية عريقة مع حركة طالبان ومع مجموعة البشتون  القبلية في أفغانستان. لكن المفارقة الكبرى أن باكستان التي من المفترض أن تكون أكثر الأطراف فوزا بانتصار طالبان، فإن فيها من يرى في الأمر نذير شؤم وضرر، ذلك أن صعود طالبان سيقوي من عضد التطرف الإسلامي داخل باكستان نفسها، ويبعد البلد عن الخيار الذي كان دعا إليه قبل أربع سنوات، قائد الجيش الباكستاني الحالي، الجنرال قمر جاويد باجوا، بتحويل باكستان إلى “دولة طبيعية” وما يتطلبه ذلك من تحسين للعلاقات مع الهند وتقليل اعتماد باكستان على الصين.

دعمت إيران كل الجماعات المقاتلة ضد الوجود الأميركي في أفغانستان شرقا وفي العراق غربا. لم تفرّق في هذا الدعم بين جماعات السنّة كما جماعات الشيعة بهدف إشغال الوجود الأميركي واستنزافه ومنعه من أن يكون عاملا مهددا للنظام في إيران. ولئن دعمت إيران -كما دول أخرى- “طالبان” بالمال والسلاح سراً (وفق اتهامات الولايات المتحدة نفسها)، فإن العلاقة بين طهران والحركة باتت في السنوات الأخيرة علنية تستقبل العاصمة الإيرانية وفقها قيادات طالبانية وتقترح نفسها وسيطا “محايدا” بين الحركة المتمردة وحكومة أفغانستان الشرعية.

العدد 121 / تشرين 2021