سقوط الأقنعة في سبعة قرون

الدكتور نسيم الخوري

“أسدلوا الستائر، نحن في حربٍ مع اسرائيل”، كان هذا صوت أبي اليومي الحازم والمجبول بخوفٍ عندما يحلّ المساء في الكفير القرية النائية الجنوبيّة اللبنانية في سفح جبل الشيخ. أعترف بأنّ هذا الصوت قد دمغني منذ طفولتي. ليست هي تلك الستائرالفخمة بالمعنى المعاصر، بل كانت قطع قماشٍ شفّافة مُسدلة بقضبانٍ من حديد غير صالحة كي تحجب حتّى المصباح الناعس في الطريق الترابيّة.

بقيت كلمة “إسرائيل” من المحرّمات التي ترتبط بالحروب، وأدركت في ما بعد بأنّها من الكبائر ويُحرّم التلفُّظ بها في المدارس والجامعات والأحزاب والمجتمعات  السياسية اللبنانية وحتى العربيّة المتنوّعة. وهكذا اندرجت الكلمة في خانة العدو الأبدي في قواميس الآداب والإنتماءات القومية القاسية ليس بالنسبة لي، بل بالنسبة للكثير من أقراني وخصوصاً بالنسبة لمعظم من يفهمون معنى هذه السنة ال1948 وما بعدها في تاريخ العرب والشرق الأوسط. أصبح هذا الأمر واضحاً بل جامعاً ويدركه وتلتزم به أجيال من الكتاب والصحافيين والسياسيين، واستمرثابتاً عبر الكلام العربي وخطب زعمائهم ومناضليهم منذ ذلك التاريخ. بالمقابل، رحنا نقرأ كتباً وأخباراً متفرّقة كانت توقعنا بدهشةٍ واستغرابٍ فاضحين تصل حدود تقاذف سياسيين فلسطينيين وعرب اتّهامات بالعمالة لإسرائيل وبأقذع النعوت.

استمرّت بل تستمرّ تلك الظاهرة بموجات مريبة وفجّة بأخبارها وأسرارها في لبنان، مع الإشارة إلى أن القانون اللبناني يجّرّم المتواصل مع الإسرائيلي حتى ولو عبر وسائل التواصل الإجتماعي. احتلّت تلك الظاهرة مؤخّراً فضائح طاولت العديد في وعلى رأسهم البطريرك الماروني بشارة الراعي. تلك الظاهرة، تدفعني إلى تفكيك عقدٍ شكلية لها تداعياتها في لبنان تجرفه أصناف العنف والكوارث.

كان يكفي الرئيس نبيه برّي مثلاً، الشاب الخارج الى السياسة من معارك مثلث خلده مع العدو الإسرائيلي في ال1982، أن يتلفّظ بكلمة اسرائيل، وذلك في تصريحٍ له مهّدت للمفاوضات اللبنانية الإسرائيلية المتعثرة في ترسيم الحدود البحرية بين لبنان واسرائيل للتنقيب عن ثروات النفط والغاز. تناسى الناس الثروات والمفاوضات، وتعلّق باللفظة التي تحوّلت حدثاً للتداول سرّاً وجهاراً و بارتجالية. لقد فات الجميع مسار تحوّلات اللفظة شعبيّاً ودبلوماسيّاً بين الباطن والظاهر في ما يجرح مقدسات العرب ومحرماتهم، ويفتُتح الجرح الفلسطيني العربي الكبير على الجراح والحروب والفصائل والمواقف العربية المتناقضة والمتعددة قديمة وحديثة. هكذا تداخلت الزوايا والأضلاع والنوايا وتشوّهت خلال عقودٍ سبعة تقدم خلالها مصطلح “إسرائيل” في نصوص العرب ومواقفهم وسياساتهم عبر ست محطّات تُنير بالتطبيع أطراف النجمة السُداسية العربيّة الأصل، لكنها المنقوشة في قلب العلم الإسرائيلي منذ سبعة عقود.‏

كيف تمّ ذلك؟

1- عن طريق استباحة الغرائز عبر وسائل الإعلام والشاشات المغرية التي أشاعت الإنجذاب العام بالأشكال والتحولات لا بالمعاني والمضامين. وبدت الأخلاق والقيم الدينية مرذولة في ساحات الانهيار التي لم تجد من ينهرها أو يضبطها في عصر تداخل الشعوب والثقافات وإشباعات الأعين والآذان والنفوس بمشاهد المتعة المفتوحة لدمغ المحرّم في الأذهان والنصوص. هي المحطّة الفاصلة التي زُج فيها بالأديان والأوطان، بعد شحن القوميات في أتون الصراعات الحافلة بالنيران والحروب الداخلية المستوردة المفتوحة.

2- لم يكتب العرب كلمة اسرائيل لكنهم كتبوا وما زالو يكتبون كلمة فلسطين أو “فلسطين المحتلة” أو “المغتصبة” أو “الأراضي المحتلة” احتراماً للمألوف الوطني والقومي إلى تسميات وتوصيفات أخرى مثل “العدو الغاصب”، و”المغتصب الصهيوني”، و”العدو المحتل  والغاشم”.

 3– راح بعض العرب يكتبونها “إسرائيل” مصطلحاً مجرداً من كل الصفات السلبية أي تسميةً لدولة اعتادوا على سجنها بين مزدوجين تدليلاً على عدم اعترافهم بها، ليصدّرون المصطلح أحياناً بتعبير دولة، فيقولون ويكتبون: “دولة العدو الإسرائيلي” أو “دولة إسرائيل”.

4– تترسّخ المرحلة الرابعة من التطبيع، منذ أن فتح الرئيس السادات بمبادرته أبواب مصر السلميّة مع اسرائيل التي أفضت إلى تبادل التمثيل الدبلوماسي بين الدولتين، وبعدها اجتاحت “إسرائيل” لبنان ووصلت العاصمة بيروت في العام 1982، لتنسحب عبر بطولات المقاومة في ال2000 التي هزمتها بعد حربها الشرسة على لبنان في ال2006.

5- يُسقط معظم العرب القوسين من حول كلمة “إسرائيل” ليسري التطبيبع اللغوي بها دولة كباقي الدول في الألسنة والنصوص .

6– نحن في المرحلة السادسة من التطبيع العربي الإسرائيلي الذي جاءت نتيجة “صفقة العصر” التي قادها الرئيس الأميركي دونالد ترامب وقد اُجهضت ليتّخذ التطبيع صوراً قديمة جديدة ظاهرة ومكتومة لكنها مرحلة إنزال الستائر والأقنعة الكثيرة.

منذ كامب دايفيد وتداعياته في أوسلو ومؤتمر مدريد وصولاً إلى الغزو الأميركي للعراق 2003، تستيقظ الأفكار عن تجدد الأساطير الكثيرة المرسومة في الخط الممتد بين النيل والفرات. إنه الخط الممطوط  نحو اليسار أو نحو اليمين وأقصى هندساته رسم المثلثات فوق رقعة الشرق تتشابك فتؤلف “موزاييك” من النجوم تكتمل بها الحلقات، وتبدو اسرائيل وقد انخرطت في نسيج البساط الدولي المفلوش فوق رقعة الشرق العربي.‏ هكذا تغيب بسرعة غريبة المصطلحات المرتبطة بالقومية العربية أو الأمة العربية والوطن العربي والوحدة العربية والتي غدت، عبر بعض الفضائيات العربية،مادة تراشق واتهام النخب والمحللين العرب الذين لا ينقصهم سوى شهر مسدساتهم في وجه بعضهم بعضاً لتثبيت آراءهم وأفكارهم ومجادلاتهم وانقساماتهم الساخنة فوق الجادات المستوردة.‏ بات العديد منهم يخجلون بمصطلحاتهم و‏فاتهم أن دور النشر العالمية والكتب والجامعات والخرائط، تبدو وكأنها تُخرج الأوطان والمصطلحات القديمة من أدبياتها، فيبدو المستقبل مفلوشاً فوق رقعة عالمية للحريّات والأعمال والأسواق العالمية ينخرط فيها الخبراء ورجال الأعمال حاملين الحقائب في أرجاء الدنيا بحثاً عن الأرزاق والأرباح الخيالية والثروات الضخمة.‏ هكذا تنطوي مراحل التطبيع اللغوي في سبعة قرون، ونستيقظ عرباً أمام أمام مشاريع وأفكار تروّج لتشكيل القناعات اللاواعية في مستقبل مغاير وجديد وكوكبي للأوطان والأجيال الآتية.

سقوط الأقنعة في سبعة قرون