رحلة مع عاشق التاريخ محفوظ عبدالرحمن

شكل من احداثه عروضا فنية كانت منارة للمعرفة والابداع

 حين يكون التاريخ مصدرا للالهام ،وتصبح فصوله ميدانا للتأمل والدراسة، فان الفن يرقى من كونه مجرد ابداع الى كونه منارة للمعرفة وللامتاع معا .التاريخ احداث متتاليه تزكيها اطماع وصراعات ،وتقاطعها طموحات وايدولوجيات وتحسمها معايير متفاوتة بين قوانين القوة والطغيان، في مواجهة قواعد المقاومة والصمود ،ولذلك فان التاريخ ميدان فسيح للموهوبين من صناع الدراما ،يجدون فيه ملعبا تتبارى على ساحته القدرات في اختيار الموضوعات ،ومن ثم نسج القصص او الروايات في اطار طرح تتداخل فيه الوقائع بسرديتها ،مع الخيال بصوره واّفاقه . لا للتزييف،ولكن للترسيخ،و ليس للتضليل، ولكن لدعم الافكار وسلاسة الاستيعاب.لذلك فان كل عمل فني،نجد له رسالة، او هكذا ينبغي ان يكون،حتى وان كانت التسلية كهدف أو الفكاهه كبسمة او ضحكة،او الدراما كتجربة تصلح درسا ،او تضحيه تقدم

الكاتب الفنان محفوظ عبدالرحمن

قيمة أو رسالة . الكاتب محفوظ عبدالرحمن واحد من عشاق التاريخ ،قدم لنا من خلاله شخصيات لعبت ادوارا الهبت فينا المشاعر،واشعلت في وجداننا الوانا من الذكريات ،وبصرتنا ايضا بمؤشرات لواقعنا ،واين نحن من تاريخنا ،وكذلك ما علينا من واجبات ،في تنمية حياتنا ومراعاة المواهب الكامنه في شبابنا .ان الاضواء حين تسلط على تراثنا بأكمله ،نستطيع ان نستشف مواطن القوة والضعف التي صاحبت مسيرتنا عبر تاريخنا الطويل ،ومن هنا تكمن اهمية هذا الكاتب وما قدمه في تراثه العريض من مؤلفات مكتوبة سواء عبر الصحف او بين سطور كتاب ، او في اعمال درامية مسلسلات كانت أوافلام ،كل منها تحمل لمحات من الابداع ،والكثير من الرؤى الموضوعية لأحداث بعض تاريخنا ،أوشموخ بعض ابطالنا .

اطلالة على مسيرة الكاتب

ولد القصاص وكاتب السيناريو محفوظ عبدالرحمن في 11 يونيوعام 1941،في مركز حماده بمحافظة البحيره في مصر ورحل عن عالمنا في  19 اغسطس عام 2017 بعد مسيرة زاخرة من الاعمال شملت عطاء مثمرا ورائعا شاهدناها على شاشات السينما أوالتلفزيون وكذلك على خشبات المسرح و عبر الأثير من خلال الاذاعة. قدم مجموعته القصصية الاولى ( البحث عن المجهول) عام 1967 ،ثم الثانية ( اربعة فصول شتاء) عام 1984، ثم نحى الى عالم الرواية وتوالت اعماله الابداعية ،وكانت الرواية الأولى(اليوم الثامن) التي نشرت في مجلة ( الأذاعة والتلفزيون)عام 1972 ،ثم رواية ( المعصومة ) ونشرت في جريدة ( الجمهورية) عام 2000 ، ثم عبر الى عالم التلفزيون، حيث تعد اول اعماله في هذا المجال سهرة بعنوان ( ليس غدا)عام 1966 ،,بعدها قدم اول مسلسل تلفزيوني يعنوان (العودة الى المنفى) عام 71 وهو عن قصة للروائي ابو المعاطي ابو النجا، لكن السيناريو والحوار كان لمحفوظ عبد الرحمن. وحين نتأمل اختياره لتلك القصة ،نجد انه بالفعل وجد فيها احتفاءا برجل له ذكرى وتاريخ .ان القصة تتناول حياة ومسيرة خطيب الثورة العرابيه الشهير (عبدالله النديم ) بكل ما فيها من ثراء ،فالرجل التحم بالثورة ،وكان لسانها

كتب سيناريو الفيلم وشاركه صلاح ابو سيف

الشعبي المعبر، وبين الهروب ثم الاعتقال والنفي ،وبعدها العودة واصداره لمجموعة من الصحف كانت تصادر على التوالي فيعاود اصدارها من جديد باسم مختلف واشهرها ( التنكيت والتبكيت).كان ذلك هو اختيارمحفوظ عبدالرحمن الاول للعمل التلفزيوني ،وهو اختيار شكل القاعدة الرئيسيه لأختياراته. اعمال تتسم بالموضوعيه ،وتخدم قضايا الثقافة وتحمل رسالة التنوير. لذلك لن تجد له اعمالا تدخل في اطار من التسطيح ،أو تتسم بالارتجال أو توصف بالهبوط أوالابتذال .اعمال محفوظ عبدالرحمن تصنف ضمن الاعمال ذات القيمة  المحترمة.

اعماله السينمائية

  • كان عمله السينمائي الاول هو فيلم (القادسية) عام 1981. وتدور احداثه حول معركة ( القادسية) التي دارت بين المسلمين بقيادة سعد بن ابي وقاص ،وبين الفرس قيادة رستم  فرخزاد،والتي انتهت بهزيمة الفرس،وتم على اثرها فتح بلاد فارس.السيناريو كتبه محفوظ عبدالرحمن ومعه الكاتب على احمد باكثير، وشارك فيه المخرج صلاح ابو سيف . اهمية الفيلم تكمن في تصويره لملحمة قتالية قدم فيها المسلمون عطاءا زاخرا بالبطولات كان من شأنه فصل كامل بين مرحلتين تاريخيتين،وشكل بداية لأحراز المزيد من الانتصارات،وهكذا كان اختيار محفوظ عبدالرحمن لأولى انجازاته السينمائيه

2 – كان عمله السينمائي الثاني هو فيام ناصر 56 ،وهو عمل يتسم بالمخاطرة الشديده ، فهو يتحدث عن زعيم في تاريخ قريب نسبيا ،ومازال حاضرا في الذاكرة العربيه ،وسيرته محل جدل بين انصار يتحمسون له بشدة ،وخصوم يتصيدون انكسارته بعنف ،وقد تم اختيار فترة زمنيه حفلت بالكثير من الأحداث ،واحتدم فيها الصراع على نحو مثير ، وارتجت لها المنطقة ،وكانت لها اّثارها المدوية.قد كتب القصة والحوار ،واضاف لها بعض المواقف الرمزية مثل (الصعيدية) التي جاءت بباقي ملابس الفلاح الذي سقط قتيلا من خلال عملية (السخرة ) التي مورست في حفر قناة السويس، وتتساءل عن من يأخذ بثأره.اخرج الفيلم الفنان محمد فاضل.

 3 – كان الفيلم الثالث هو عن ( حليم) عام 2005. وعبدالحليم حافظ قصة درامية من ناحية المرض الذي طارده ،وهو ملحمة تاريخيه من جانب انه ارخ لمعارك ثورة يوليو انتصاراتها ومثالها انشودة ( السدالعالي) وتأميم القناة والوحدة ،وانكساراتها ومثالها (عدى النهار) بالأضافة الى صوته الحالم بأغانيه الرومانسية ،ثم مرض بطل الفيلم (احمد زكي)  ووفاته قبل نهاية الفيلم ولذلك فالفيلم قضية مركبة بظروف مضطربه ،صاغها ايضا محفوظ عبدالرحمن بقدر من الحرفية .كان الفيلم اول ظهور للفنانه السورية (سلاف فواخرجي) على شاشة السينما المصريه ، وقام بدور حليم في شبابه ابن احمد زكي الفنان الراحل هيثم احمد زكي ،واخرج الفيلم الفنان شريف عرفه .

اعماله التلفزيونية

يحتل محفوظ عبدالرحمن مكانة مرموقه بين كتاب الأعمال التلفزيونية خاصة في مجال المسلسلات وقممه الكبيره مثل اسامة انور عكاشة،ومحمد صفاء عامر،ويسري الجندي ،وقد تألق بالفعل في مسلسل(بوابة الحلواني) الذي شاهدناه عبر اربعة أجزاء، وقد تناول فترة يكثر تداولها بين مؤرخي التاريخ ،وكتاب السياسة،وهي مرحلة حكم (الخديوي اسماعيل ) ومدى التطور التاريخي الذي جرى فترة حكمه خصوصا في مجال الحركة الثقافيه والفنيه وابرز

كتب مسلسل ( أم كلثوم ) محفوظ عبدالرحمن

نجومها،كذلك يرجع الى ذاكرتنا فترة وجود قرية (الفرما) التي اصبحت مدينه لها مكانة خاصة

عند المصريين وهي مدينة (بورسعيد) نسبة الى الوالي المصري(سعيد باشا) الذي أعطى    فرمانا الى المهندس الفرنسي (فرديناند دليسبس) لحفر القناة( لقب الخديوي كانت بدايته مع

الخديوي اسماعيل).المسلسل قدم الاربعة اجزاء اعوام 1992،1994،1997 2001 ،و

ظهرت فيه شخصيات كانت لها مكانتها الفكريه مثل علي مبارك ورفاعة الطهطاوي ومحمود والوطنيه مثل احمد عرابي وكذلك فنية مثل المطرب عبده الحامولي وقدم شخصيته الفنان علي الحجار،والمطربه الشهيره (المظ) وقدمت شخصيتها  المطربه شيرين وجدي.اما العمل

الآخرالذي احدث ضجة كبيرة،وبنسبة مشاهدة عاليه بشكل لا يتكرر كثيرا على الساحة الفنية الجماهيرية فهو المسلسل الأشهر(أم كلثوم)وقدم في شهر رمضان الموافق ديسمبر 1999. قامت بدور (أم كلثوم) الفنانه صابرين ،وقد اثارت دهشة كبيرة في البداية لأختيارها لتمثيل هذا الدور ،نظرا لكونها ليست نجمه من الصف الاول ،ولكنها استطاعت ان تجسد الشخصية التي كتبها محفوظ عبدالرحمن،والحوار،الذي ابدع في صياغته بشكل قفز بها الى نجوم الصف الاول . استطاع محفوظ عبدالرحمن ان يضع السيرة الشخصية والفنية لأم كلثوم في قالب من الحبكة التاريخية للسيرة الذاتية والدراما الفنية أثارت الأعجاب والتقدير الجماهيري على نحو كاسح من المشاهدين . ظهرت شخصيات كثيره في

احد مشاهد مسلسل ( بوابة الحلواني ) للمؤلف

المسلسل ابتداء من الأسرة او العائلة لأم كلثوم الى الأسرة الحاضنه لموهبتها ابتداء من استاذها الأول الشيخ محمد ابو العلا الى رفاق رحلتها الفنية وفي مقدمتهم محمد القصبجي وزكريا احمد ورياض السنباطي،الى مراحل تطورها مع الأستاذ محمد عبدالوهاب ومحمد الموجي وبليغ حمدي وكمال الطويل . الخطأ الذي وقع فيه المسلسل ،يتماثل مع نفس الخطأ الذي يقع فيه المؤلفون حين يتعرضون لكتابة السيرة الشخصية لفنان اوكاتب او لعالم او مفكر، فهم يقدمون شخصية شفافة تقترب من سير الملائكه أو الأنبياء ،وليست سير الشخصيات العادية بما فيها من طموحات ذاتية أو بتعبير اّخر أضواء وظلال  ،أو برسم معالم الايجابيات والسلبيات، حتى ولو لديها بعض المبررات .

من ابرز المسلسلات التي عالجت هذا النقص في الكتابة مسلسل ( اسمهان) عن قصة سعيد ابوالعينين بعنوان ( اسمهان لعبة الحب والمخابرات) ،وسيناريو وحوار نبيل المالح وبسيوني عثمان . بطولة الفنانه ( سلاف فواخرجي) . يذكر في هذا الصدد أن ( سلاف فواخرجي) كانت مرشحة لفيلم عن السيده (روزا اليوسف ) التي بدأت حياتها فنانة مسرحيه ،ثم تحولت الى الصحافة ،وأنشأت مجلة ( روزا اليوسف) المصرية ،وكانت مجلة رائده في عالم الصحافة ،وحين تم الحوار مع العائلة بخصوص رسم الشخصية ،اصرت الأسرة على تقديمها بنفس الصورة الملائكية التي تقدم بها الاعمال الفنية عادة ،وحين طلبت الفنانه ان تكتب الشخصية بكل طموحاتها ، في اطار من الصور الواقعية للبشر من ايجابيات وسلبيات ،رفضت الأسرة ،وكذلك رفضت الفنانه ان يتحول العمل الفني الى ترسيخ المفاهيم الايجابية في صورة دعائية اكثر منها انسانية،واعتذرت عن الأستمرار في طرح الموضوع ،او القيام بذلك الدور.

محفوظ عبدالرحمن اقتحم ميدان صعبا ،حين اّثر ان يلجأ الى التاريخ ،يستعرض فصوله ،وينهل من بطولاته ،ليقدمها للناس في صورة تخلو من الابتذال ،وتعلي من شأن العطاء لمفاهيم الحرية والاستقلال . كانت الاعمال التي قدمها عبر مشواره في فن الكتابة تبحث في عمق المضمون ،وتروي سلاسل المحاولات التي خاضتها الشعوب من اجل تثبيت حقوقها في الحرية ،وايضا تضع تفاصيل الحروب التي خاضتها بلا تزوير أو تضليل . وكانت اعماله لاتحظي بشعبية جماهيرية فحسب ،ولكنها ايضا تنال احترام النقاد والمتخصصين . لذلك حصدت اعماله الكثير من الجوائز والشهادات الفنية المختلفة .

حصل محفوظ عبدالرحمن على جائزة الدولة التشجيعية عام 1972 ثم حصل على جائزة احسن مؤلف عام 1983 من مؤسسة ( الثقافة الجماهيرية) . كذلك حصل على الجائزة الذهبية من مهرجان الاذاعة والتلفزيون عن مسلسل ( أم كلثوم) الذي حقق جماهيرية عالية من حيث المشاهدة،ثم حصل على جائزة الدولة التقديرية في مجال الفنون عام 2002 ،وجائزة العقد لأفضل مبدع خلال 10 سنوات من مهرجان الإذاعة والتلفزيون.

ولعل تلك السطور تعد اضافة لما حصل عليه من تكريم ،وشهادة ايضا لنبوغه الفني،ولتقديره ان الاعمال الجادة تنال دائما حقها من المشاهدة ،كما انها تبقى للزمن تحمل عطر الموهبة ،وأصالة الفكر،وجمال العرض.

                                                                                أمين الغفاري