اصوات فلسطينية بعد المواجهات الأخيرة في غزة

كيف يعيش المرء تحت رحمة من لا رحمة في قلوبهم؟

بيروت ــ جاد الحاج

ما زالت أصداء المواجهات الأخيرة بين الفلسطينيين وبين قوات الاحتلال الصهيوني ــ خصوصاً في غزة ــ  تتدفق من أمكنة ومصادر لم تكن حتى الآن في وارد التدخل الصارخ ضد العنف الاسرائيلي، خصوصاً أن شخصيات ثقافية وأدبية وفنية أدلت بتصاريح شديدة الانحياز الى الجانب الفلسطيني. حتى رجال الدين أدلوا بدلوهم في تلك التصاريح

محمد صندوقة امام منزله المهدم

القوية والواضحة والمشيرة بالبنان والتشهير الى أفعال وجرائم سلطة الإحتلال.

في مهرجان ادنبره للمسرح استضافت المدينة فرقة مسرحية اسرائيلية لتقدم عملاً ذا  طابع اجتماعي سياسي يميل بقوة نحو تبرئة أفراد الجيش الاسرائيلي من الجرائم البشعة التي يرتكبونها بحق الأطفال والشيوخ والنساء في فلسطين المحتلة  . ولكن هيئة المسرح الاسكتلندي التي دعت تلك الفرقة  سرعان ما اكتشفت عبر الاخبار الواردة من القدس ان  فرقة المسرح الاسرائيلية تتمادى  في  توجيه مدروس لتبييض صفحة حكومتها، وإلقاء اللوم بالكامل على الفلسطينيين العزّل.

خرجت رئيسة مؤسسة الدعم المسرحي الاسكتلندية الى تصريح تلفزيوني مطول قالت فيه: “نعم لقد كنا غير مؤهلين لمعرفة الحقيقة كما هي حين دعينا الفرقة الاسرائيلية لتقديم مسرحية ملغومة سياسياً ومليئة، لسوء الحظ، بالأكاذيب “.  وانتهت الى اعتذار صادق من الفلسطينيين الذين يعيشون ظروفاً لا تحتمل منذ اكثر من سبعين سنة . . .

 ومن الولايات المتحدة الاميركية انبرى احد الباحثين في المجال التوراتي الى عرض نسخ قديمة من التوراة تحمل في طياتها خريطة “فلسطين” بالاسم الكامل على كامل التراب الفلسطيني  قبل ان تدنسه  العصابات الصهيونية  . وأشار ذلك القس  الى مؤامرة إلغاء الأرض الفلسطينية منذ بداية الاحتلال الصهيوني. وذكر بالتحديد كيف وقفت غولدا مئير على إحدى تلال الرمل في صحراء سيناء بعيد احتلالها وقالت بصوت مرتفع: “إنني أشم رائحة يثرب” على أساس أن “اسرائيلها” لا تنتهي عند الحدود الفلسطينية القائمة تاريخياً بل تمتد وتتسع لتشمل كل مكان  قطن فيه العبرانيون على مرّ التاريخ!

 بعد قرابة نصف قرن على وفاة غولدا مئير استعار رئيس الحكومة الاسرائيلية السابق بنيامين نتانياهو حجتها المزيفة ليردد بوقاحة: “ليس هناك شيء اسمه فلسطين!” أما الصحافة الغربية بشكل عام فلم تتجاهل هذه المرة الواقع المقاوم للشعب الفلسطيني في مواجهته البطلة رجالاً ونساء وأطفالاً وسجناء. وكان مدهشاً رؤية  “نيويورك تايمز” تنشر موضوعاً طويلاً عن اشخاص عاديين عاشوا تلك المواجهات وتأثرت حياتهم وحياة ذويهم بشكل سافر ومهين جراء التدابير العسكرية التي تجعل من  حياتهم اليومية  جحيماً ليل نهار.

وهنا بعض ما جاء في ذلك التحقيق: 

 ذهب مراسلو  “نيويورك تايمز” في كل الاتجاهات على البقع الباقية من التراب الفلسطيني.  قابلوا الناس من كل الأعمار والمهن ونقلوا الى قرائهم حقائق لم يتعرفوا إليها سابقاً في سطور تلك الجريدة المعروفة بانحيازها الواضح الى اسرائيل . دخلت احدى المراسلات الى الاسوار الشرقية لمدينة القدس وتغلغلت في جبل الهيكل وجبل الزيتون. والتقت رجلاً يدعى محمد صندوقة ، تزوج وهو في التاسعة عشرة من عمره وانتقل الى السكن في ملحق قديم تابع لمنزل أبيه. مذذاك وسّع محمد مسكنه وضاعف عدد الجدران الحجرية ورصف البلاط وشاد الطوب ورفع الحدود وأسس مطبخاً أنيقاً ، وصرف على البناء ما مجموعه مئة وخمسون ألف دولار.  في تلك الاثناء رزق محمد ستة أولاد ترعرعوا جميعاً في الوادي الأخضر الذي يستقبل في عيد الفطر أفواجاً من المتنزهين فتتحول  المنطقةبرمتها  الى منتزهات تؤمها العائلات الفلسطينة في  اعيادها السنوية.

سنة 2016 فوجئ محمد بعلامة ملصقة على بوابة منزله، واكتشف للتوّ انها إشارة الى موقع المنزل  . . . غير أن ذلك لم يكن كل شيء، فقد دأبت الادارة الاسرائيلية على وضع تلك الاشارات تمهيداً لتدمير البيوت العائدة الى سكانها الفلسطينيين بحجة إضافتهم زوائد  على المنازل القديمة، أو بحجة تأخير (مقصود) لصدور الإذن الرسمي بالبناء، علماً ان محمد تجاوز حدوده بزاوية واحدة على ارض مشاع، قيل له لاحقاً ان ’الدولة‘ تنوي تحويلها الى منتزه . . . جميل!

  في تلك المرحلة تحرك المستوطنون وهاجموا قرية المغيَّر المجاورة.  أشعلوا النار في احد المساجد وخربوا سيارات السكان. وسنة 2019 أطلق احدهم النار على قروي هناك وقتله من دون ان يحاكم  حتى اليوم.

كلا، لا مصرع الفلسطيني البريء، ولا جدران بيته المهدمة، ولا مصير أسرته، مسائل تهتم لها المحاكم الاسرائيلية بصورة  حقوقية معقولة. ولذا  ادرك محمد صندوقة ان عليه البدء بهدم منزله بنفسه قبل ظهور التراكتورات ’الحكومية‘ التي لا تعير اهتماماً وجود  ادوات منزلية يمكن انقاذها .

هل ثمة اسوأ من ان تخسر منزلك وموئل اسرتك وانت على أرضك وفي وطنك؟ نعم، هناك امور  قلما تصدى لها الإعلام الغربي، لكن مواجهات غزة دفعت  “نيويورك تايمز” الى ذكر بطاقات الهوية متعددة الألوان، تصدرها سلطات الإحتلال بحسب الواقع ’الرسمي‘ لمكان الولادة بصرف النظر عن الإرتباط الأصيل لأصحابها. فالمهجّر من منطقة محتلة لا يسمح له دخول منطقة متنازع عليها، والعكس صحيح ، مما يؤدي الى شرذمة عائلات برمتها وتشتيت أسر متجذرة في ارضها منذ مئات السنين.

 نقلت “نيويورك تايمز” الى قرائها قصة ماجدة الرجبي المعلمة في احدى مدارس وكالة الغوث داخل مخيم شعفاط في مدينة الخليل، وهي مطلقة من زوجين مقدسيين يحق لهما ولأولادهما السفر والتجول حيثما شاؤوا داخل  حدود فلسطين المحتلة، اما هي فلا  تستطيع مغادرة شعفاط ، ولا يسمح لها بزيارة احدى بناتها المتزوجة في القدس، او معالجة  بنتها الصغرى رنا التي تعرضت لحادث حرق  وهي في  السابعة من عمرها.  لم تتمكن الأم من بلوغ  المستشفى لمعالجتها . لكن  جمعية  خيرية  إيطالية دفعت أكلاف المعالجة في مستشفى   مدينة بادوا  ، حيث قضت الأم وابنتها ثلاثة أشهر، خلالها   فتحت التجربة عيني ماجدة  على  المنتزهات الخضراء والأطفال في ملابس أنيقة والنساء يقدن السيارات :”كانت تلك لحظة تحرري” قالت ماجدة “إذ بدأت أفكر متسائلة: لماذا لديهم كل ذلك؟ ولماذا يفترض بالمرء أن يعيش تحت رحمة من لا رحمة في قلوبهم؟

نائل العزة يجتاز حوالى 20 كلم ذهاباً وإياباً كل يوم من منزله في بيت لحم الى مركز عمله في رام الله ، حيث يشغل وظيفة المدير لمصلحة الإسعاف والإطفاء. لكنه مسكون بهاجس عبور  الحواجز العسكرية التي تحيل الكيلومترات العشرين اكثر من ثلاثين، وترسل السيارات الوافدة والعائدة في دوامات مكوكية خانقة بحجة التفتيش عن السلاح والذخيرة . عملياً  لا ينبغي ان تستغرق رحلة نائل اكثر من ساعة لكنها تتخطى يومياً الساعتين واحياناً الساعات الثلاث، ناهيك بالإهانات  العشوائية التي يتلقاها السائقون الذين تدجنوا على احتمالها، كأن يستوعب نائل صفعة من جندية متنمرة على الحاجز، صفعة من دون سبب واضح، لكن الإعتراض على غياب اسبابها يتضمن تغييب صاحب الإعتراض الى اجل غير مسمى، ما يعني الركون الى ذهب السكوت بدلاً من فضة صوتية غير أكيدة!

المهم بالنسبة الى نائل بلوغه مكتبه وعودته الى منزله في بيت لحم واللجوء الى حديقته الخضراء ، فما هو سوى واحد من آلاف الفلسطينيين الذين وضعوا جانباً كل شيء عدا المثل القائل: مع الحيط مع الحيط تنوصل عالبيت … ولك يوم يا ظالم!

العدد 122 / تشرين الثاني 2021