الشاعر التونسي  محمد الصغير أولاد أحمد شاعر الناس وموقِد ثورتهم

الشاعر التونسي  محمد الصغير أولاد أحمد

شاعر الناس وموقِد ثورتهم

« وصاح الشهيد / سلامًا  سلامًا على من صمد…»

        تُطالعُك قسَماتُ وجهه النحيل الأسمر، ملامحَهُ البدويّة الصامتة، جرأته في الكتابة، ارتحاله في مفردات الثورة، تمرُده العنيف، وحسّه المُرهف، إيمانه بالإنسان قبل الأرض، لم يكُن مُنظّرًا يحشد الخُطب ويرميها مناشيرًا كيفما اتفق، انطلق من الشارع وِجهَتهُ الناس، تمرّد على قيود الشعر، اعتنى بالمضمون ولم يعنيه الشكل، أحبّ البلاد، كما لم يُحب البلاد أحد، لم يكتُب الشيء الكثير في الحُب والمرأة ولكنّه أنصف العبارة حين قال: “نساءُ بلادي نساءٌ ونصف”

        مسارهُ الحياتيّ والشعريّ

        وُلد الشاعر محمد الصغير أولاد أحمد في العام 1955، في مدينة سيدي بوزيد التونسية التي عُرفت لاحقًا بمهد الربيع العربي، وكانت شاهدةً على الإشارات الأولى لانطلاق الثورة من جسد البوعزيزي المُحترِق ظلمًا وقهرًا حتى الشارع التونسي الأكبر المحتقِن غضبًا ورفضًا للنظام الحاكمة، عاش في بيئةٍ فقيرة في مرحلة حرجة من التاريخ التونسي صاحبت خروج الاستعمار الفرنسي وبداية بناء الدولة التونسيّة، تعلّم في كُتّاب القرية، حفظ القرآن ودرس علم النفس  في المرحلة الجامعيّة.

         بدأ الشعر في عمر الخامسة والعشرين، صودر كتابه “نشيد الأيام الستة” 1984 قبل طباعته،  في عهد نظام  الرئيس التونسي الحبيب بورقيبة بحجّة احتوائه على جملٍ تمسّ بالزعيم، بعد سنوات قليلة وفي العام 1988  تمكّن من إصدار الديوان على الرّغم من الرقابة ومن دون تعديل يُذكر، عُرف بتهكّمه وجهوريّة أفكاره في مقاهي العاصمة التي كانت ملتقى التوّاقين إلى التغيير، تعرّض للسجن على إثر مشاركته في ثورة الخبز 1985،  طُرد من الوظيفة  كمنشّط في وزارة الثقافة، أبى وفي رأسه جوع اليتامى ويُتم الجياع، ثار على رؤوس القطيع، غادر وطنه إلى فرنسا وعاد في العام 1993 إليه بــبيت الشعر ثم أُلحق بوزارة الثقافة كمُلحق،  رفض وسام الاستحقاق الثقافي من الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي حيث رأى فيه امتدادًا للمنظومة الظالمة، حصل على جائزة قرطاج العالميّة للشعر في العام 2011، في إطار الملتقى التونسي الإسباني الأوّل للثقافة. في العام 2014 بدأ السرطان ينهش في خلاياه، ودّع السابقين واللاحقين السافل والشاهق البلاد والأوطان والأديان في الخامس من شهر نيسان 1916، في المستشفى العكسري في تونس.

        أحبّ الشاعر الشعر والموت وأبيه، أجلّ الحياة  وبنتها ومضارع الأفعال في النحو القويم، عايش القلق في بلد هشّمه الأحياء بالموت، فتاهوا وتشظّوا في أقاليم الزجاج، فلم يبكِ أحدًا سوى  نفسه وهو الحرُ في مزاجه، يقول في أحد مقابلاته أنّه اتّخذ قرار كتابة الشعر في بداية الثمانينات، لأن باعتقاده أن جزءًا كبيرًا من الشعر هو تقنيّة وصنعة،  تميّزت قصائده بمنبريّتها، وغنى نصوصه بالدلالات السياسيّة التحريضيّة والرفض للأنظمة القامعة، في نصوصه الكثير من التناص والإحالة للنص الديني القرآني.

        آمن بأن للشعر جمهور يرى في الشاعر أملاً كان هو فاعله، عُرف بجماهيريته التي قرّبت الشعر للناس، فكان المثقف العضويّ، الذي حوّل شقّته إلى مقر للقيادة الشعريّة في الثورة التونسيّة فكان يكتب يوميّات الشارع التونسي ما قبل الرابع عشر من كانون الثاني 2011، وضمّن كتابه مقالات تحريضيّة وقّعها في كتاب القيادة الشعرية للثورة التونسيّة الذي طبعه في العام 2013، كان كاتبًا يساريًا يرى أن دور المثقف هو التنديد بالسلطة والانتصار للناس، ودعا الشعب للتصويت لنفسه في اللحظة الحاسِمة.

        كتب النثر والشعر،  لم يُلغ وضوح قصيدته ومباشريّتها وجماهيريّتها من  قيمته الشعريّة، فالفكرة  عنده أو الإحساس حين يُصاغ في الذهن يجِد أداوته اللغويّة، امتازت لغته بشعريّتها وكثافتها، ضمّنها ألاعيب لغويّة، كما وصّف أحد النقاد، تمثّلت في لغة شعريّة وسطى قريبة من الوجدان الشعبي ولا تتعالى عليه، وهو الموقن بأنّ على الشاعر أن يكون له أعداء ومعجبين، قيل عنه شاعر في نصه وناثرٌ في شعره.

 اعتبر أنّ الثورة التي لم تكتمل ولم تصل إلى مطالبها الحقيقيّة في الكرامة والحريّة والديمقراطيّة، هي مسودّة في قصيدة لا يزال الشاعر يكتبها ويشطبها ويُضيف.

                الشاعر الصعلوك

        سُمي بالشاعر الصعلوك، والذي يعني أنّه الشاعر الذي يُزعج المجتمع ويُخلخل ثوابتها،  ثار في “نشيد الأيام الستة” ثم طوى تجربة السجن طيّا في “ليس لي مشكلة”، وولّى وجهه صوب “جنوب الماء”، متأمّلاً في “تفاصيل” و “حالات الطريق”، دُبّرت له المكائد حتى طُرِد من بيت الشعر الذي بناه بعرقِ القصيدة، هو الذي كان يُشاكس النظام ويستقبل الجمعيات لتنظيم لقاءات حواريّة سياسيّة المضون ثوريّة الأهداف في ذلك البيت.

كان على تضاد مع الفكر السلفي المُتطرف الذي يدعو لدولة الخلافة وهو الطامح للدولة المدنيّة، رأى أنّ الشعراء وحدهم قادرين على فضح السياسيين. سخر من زيف ما يُدعى بالديمقراطية التي أوصلت المتشدّدين الإسلاميّين للحكم في تونس بعد الثورة: ” ذهبنا جميعًا إلى الانتخاب/ ولم ينتخِب أحدٌ من نجح”.

لم يعشق الرؤساء ولكن لم يكن لديه مانع من أن يمشي في جنازتهم قليلا، فهو لا ثقة له بالسياسيين، الذين يُبدلون كلامه ويُغيرون مقاصد القصيد يما يلائم معاييرهم البوليسيّة: ” هذا أنا الذي يقرأ البوليس نصي في الجريدة ناقصًا/ بل يقرأ المخطوط حذو مديره في الليل قبل توجعي وصدورها/  وإذن سأكتب لمن أريد وما أريد”.

انتقد سيطرة الإسلام السياسي في قصيدة ” اللهم أعني عليهم”، سمّاهم وزراء الله، يحتكرون الله لأنفسهم ويوزعون المغفرة والرحمة كيفما شاءت أهواؤهم، كان يعتقد أن الدين مسألة شخصيّة وحاجة روحيّة، تعرّض للكثير من حملات التكفير والتنديد والتشويه بشخصه، واعتبر يوسف القرضاوي قصيدته تطاوُلاً على الذات الإلهيّة:

“إلهي / لقد تمّ بيع التذاكر للآخره/ ولم أجد المالَ والوقتَ والعُذر/ كي أقتني تذكرة/ فمزّق تذاكرهم يا إلهي/ ليسعد قلبي/ ألم تَعِد الناسَ بالمغفرة”.

        وعلى الرّغم من تشرذُم أحوال الشرق ومن مليون طائفة تمزقها السياط، ومن ضياع الهنا والهناك، ظلّ وفيّا لبلده تونس مسكونًا بأمل التغيير، وهو القائل أبدا: ولو قتلونا/ كما قتلونا/ ولو شردونا/ كما شرّدونا/ ولو أبعدونا/ لبرك الغماد/ لعدنا غزاة/ لهذا البلد”.

العدد 122 / تشرين الثاني 2021