مسرح الدمى اللبناني لكريم دكروب: تثقيف العقل من اجل قيم المسرح

عبيدو باشا

حين ترى مسرحيات كريم دكروب ، مؤسس مسرح الدمى اللبناني ، تجد أن ما يقدمه لا يليق فقط. تجد أن هذا المسرح لن يموت ، كما تؤكد المقدمات النظرية والرسوم العملية المرافقة . ذلك ، أن هذا الرجل ، كلما صنع مسرحية فرض المزيد من الاحترام على المشاهدين وعلى المسرح ، حتى راحت المسرحية تنده الأخرى بالاحترام . هكذا ، راح تراتب الأعمال يخرج مسرح الأطفال من زواياه الباهتة وجدرانه المتشققة الى عالم الحياة،الدائمة، المؤبدة ، بريبرتوار مبهر ، حتى لكأن مسرحياته تعرض باضوائها في ظلام كثيف . دائم ، مستمر ، لا كما حدث مع فرق مسرحية بدت زكية الوقع والرائحة ، قبل أن تندثر . كفرقة جوزيف فاخوري ، من داوم على هواء تلفزيون لبنان في ” مغامرات نبيل ” ، حتى استهلكت حلقاته . ثم فرق الحرب الاهلية ، من فرقة السنابل الى فرقة النادي الثقافي العربي وفرقة بول مطر وفرقة صندوق الفرجة وفرقة الفراشة والغدير . وعشرات الفرق الأخرى . فرق استلمت اجورها بالكامل وهي تخرج من معجزة الحياة العزيزة ذات الضياء الاستثنائي والنبيذ والذهب الجيد . لا تزال اثار هذه الفرق كآثار الاشجار. فرق ترتدي الإمعان بالنظر في علاقة مسرح الأطفال بالأطفال من جذر أو بذرة أو صخرة .تمتعت بأشد الحيويات وأفضلها وهي تقدم مقارباتها ومقترباتها الجديدة ، على شهادات اطباء هذا المسرح في العالم . كاترين داستي كمثال . هذه الإمرأة من لم تحمل الطفل الى سريره لكي يرى مسرحية متلفزة . حيث امرت أن ينهي الأطفال مسرحياتهم بأنفسهم . ثم ، تركت الفكرة ، تركتها بدون أسف ، بعد أن اعترفت بأنها وجدتها في مكانة ، لم تعد ترغب بأن تنوجد فيه بعد سنوات رسم خلالها الأطفال لوحاتهم على القماش والهواء سواء بسواء . اضحت شديدة البرودة أمام فكرة لم تجاورها ، لأنها اطلقتها ، لتصل الى قناعة تفيد بأنه لا يمكن تطويق اعناق الأطفال بالمسؤولية وهم لا يزالون في اعمارهم اليافعة . انهم مشاهدون لا مبدعون . بعدها ، دوني بوردا ، من وجد في مسرح الأطفال ، تدريب الأطفال على امتلاك اداة تعبير تقودهم الى موالدهم الجديدة لا الى اعراسهم . هرع البعض الى العمل على مسرح ضد الألوان ، نفخت الدمى الى احجامها الواقعية في الحياة ، اخرجت الحكايات الشعبية من الجدران ، دارت النصوص المؤلفة في الغرف المغلقة وفي صالات المسارح ، زينت الاعمال بالإخراجات ذات الأعناق الطويلة والأكحال ومجموعات من الشبان النضرين والشابات النضرات .

وعدُ كريم دكروب أن لا ينتهي مسرح الدمى اللبناني ، بعد أن وجد أن ماهو خلف المشهد أهم مما هو في المشهد . أي أن يرتبط المسرح بسيرورته واستمراره ، لا بنشل المسرحيات ، مسرحية مسرحية ، حين اقام شغله على نظرات مفعمة بالرؤى . أولها ارتباط التجربة بالنظام ، بالمنهج . ما سوف يُري المشاهد الصغير صفوفاً من الأشجار في الشجرة الواحدة . لن يساعد المسرح سوى نظام ” الريبرتوار”. هذا خيار ، هذا خياره .هكذا ، لم تعد المسرحية راعية نفسها . هكذا ، أصبحت المسرحية جزءاً من طبيعة ممتدة مع عشر مسرحيات ، لا تزال عروضها هادرة في لبنان والعالم من اوروبا الى الصين .

لم يحدث الرجل ضحيجاً وهو يكسو مسرح الأطفال ببشرته الجديدة ، إثر خطو فرق الحرب الاهلية الى الخلف . بقي بعضها كعجوز ، لا يستطيع أن يساعد أصدقاءه . لا بل ينتظر مساعدة الأصدقاء . لم تعد ” صندوق الفرجة ” مع نجلا جريصاتي خوري تتذكر نفسها ولا ” فرقة بول مطر”. لم تنبطح ” فرقة السنابل ” أمام الوقائع الجديدة . نزلت درجات عن سلمها، غير أنها لم تنبطح مع استمرار غازي مكداشي تدثره بذكرياتها وأجوائها وحرارتها السالفة . كأنه لا يريد أن يشعر بالبرد وهو يواصل الارتباط بالسنابل ، الفرقة المِعلم ، الفرقة المُعلِم . فتح كريم دكروب فتح عينيه وتفتح ، على مسرح الأطفال من خلال مسرحيات فرقة السنابل على ما يصرح دوماً ، هو العضو في النادي الثقافي العربي منذ طفولته ، في فرقتها المسرحية مع مهى نعمة . لا يزال يردد ، أنه لم يمتلك عينيه الحقيقيتين إلا من سؤاله نفسه عن ما بوسعه أن يفعل ليصل الى ما تعرضه السنابل . لا تشابه مسرحياته مسرحيات السنابل . ولكنه لا ينفك يردد بأن السنابل طبيبه وقائده الى أعماله ، الى ما نفذه وابدعه وانجزه ، الى ما انتهى اليه . خرج الطفل الصغير من التمييز ليصل الى المثول . انه الأبرز ، إنه الأوحد من لم ينته من رسم مسرحه بالحمى ، برأس السكين حتى يقطع أكثر وأعمق . وجد سبب الألوان في فرقة السنابل ، غير أنه تخطاها ، بعد أن تعلم بأن كل لون في مشهد ، في مسرحية ، جاء من حجر، من سفر ، من كير .

لا يزال يرغب بالإنتاج ، لأنه لا يضع اللوم على الحياة ، بعد أن ضربها الزلزال الاقتصادي والسياسي والاجتماعي . لا يزال يقول ، كلما التقينا ، أنه قدم الصقل على الإبهار . الريبرتوار هو المهم ، لا المسرحية / الإكليل . الفكرة في رأسه منذ البداية . فكرة الريبرتوار . منذ المسرحية الأولى . هكذا ، أحيا أكثر مما انتج . لأن مسرحياته كائنات في مشهد كامل لا في مشاهد تنتهي اثر عرضها . وراءه ، يا قمر ضوي على الناس ، ألف وردة ووردة ، فراس العطاس ، يا دنيي شتي صيصان ، الطمبوري لابس حافي ( عن حذاء الطمبوري ) ، شو صار بكفر منخار ، يالله ينام مرجان، القنديل الصغير .ومسرحيات اخرى . وحين رأى أن بعض القصص سقوفها عالية ، اقام تعاونه مع مجموعة من المؤلفين لكي يرتفع المؤلفون ولا ينخفض السقف . طارق باشا ، طارق شومان ، فاروق سعد وغيرهم . اذرعه الأخرى . ولكن ملحن اغنيات مسرحياته المفضل : احمد قعبور . كما أنه ترك تنفيذ بعض المسرحيات لغيره من المخرجين . كفائق حميصي .

شجاع ، تليق شجاعته بمسرح الأطفال . لأنه مسرح يحتاج الى شجاعة . ولكي يصل الى العمق ، بازالة الملاط، وجد أن من الضرورة الاستعانة ببعض الوجوه ، ما لبث نصفها أو ربعها أن أضحى جزءاً من الاسم الرائج لمسرح الدمى اللبناني . مجموعة تعتقد ماتحب وتحب ما تعتقد .ابرزهم وليد دكروب ( شقيقه ورئيس قسم المسرح في معهد الفنون الجميلة / الجامعة اللبنانية ) السينوغراف المعروف. جماعة احتراف . ذلك ، أن مسرح الدمى اللبناني فرقة محترفة ، حين أن الهواية كنيسة الفرق الأخرى . الاحتراف يُطعم بكل المعاني . الاحتراف يرسم الوجوه على كل الشهور ، على كل الفصول . لتضحي الأشياء معتادة ، على فكرة بناء جيل بتقديم المسرحيات اسبوعياً في مسرح دوار الشمس في منطقة الطيونة / بيروت . مسرح بلا بواب . للأمر أهمية ، حيث يدخل الأطفال والأولاد ويخرجون كما يدخلون وهم يتحدثون عن ما شاهدوا .وهم متيقنون بأنهم رأوا وجوهم فيما رأوه وسمعوا ما سمعوه وكأنه طلع من أفواههم . كل شيء هنا ، الرواية المكومة كجبل صغير ، الجماليات ، الدمى ، التحريك كما لو أن التحريك أعمال جر ونقل ونقش ، يعمل ابطاله كما لو انهم يشرفون على حياة جديدة ، جديرة . لن تجد الرائج، اذ تجد الجديد . تقديم المسرحيات في الخارج ، لا نقل امتعة فقط . احترام للفعل . كما حدث بأحد عروض مسرح الدمى اللبناني في الصين . ترجم النص باشراف مباشر من كريم دكروب من سيدة صينية بوساطة مترجمة صينية ، ساهمتا في رسم انعطاف النص من العربية الى الصينية . من بيروت الى الصين ومن بكين الى لبنان . لم يجتز النص الفضاء الى الفضاء الآخر الابعد تفقد شديد للمشاهد في مصوغها الجديد . وحين لم يعد ثمة من مزيد ، اذ وجد دكروب أن ما شاهده سره واخبره باعجابه به ، تم تقديم العرض في سبع مدن صينية وكأنه يقدم بمدن وقرى لبنان . وجود نص على جانب اخر لايحشره ، بل يغنيه . ذلك أن المسرحية ليست كرسياً. إنها جبل من التفاصيل والاحتمالات . أولاً ، العبور من الاحترام الى الاحترام . احترام المسرح والمشاهد والعمال والجدران والألوان واللوحات والفكر . لا اجلال بلا فكر عند كريم دكروب من لا يزال ينصب فخاخ الأمل ، للصغار والكبار.

كل من يدخل الى عروض كريم دكروب ، يردد في نفسه أنه أتى الى صالة العرض اكثر من مرة . لأن دكروب لا يرفع سقالة ولا ينزلها . الطفل في المسرح عصفور لا يصيبه سهم ، حين يرى صوره تغطي جدران المسرح . المسرح منزل لا قصر . هذا ليس تفصيلاً. هذا من خبب مسرح الدمى اللبناني على ارضه المنبسطة تحت طيران العصافير ، من لا يرون غبار الخيول لأنها تخب ولا ترمح . لم يسر احد بسرعة ، لا لكي لا تنقطع الأنفاس ، بل لاجتياز بوابات العروض للوصول الى مسقط الرأس . هكذا ينصب الطفل نفسه امام الدمى الاكثر اضاءة ، بحيث يمكن له رؤيتها بفتحة عين بعد غمضة عين . لا متاع قديم هنا . لا زبائن . اصدقاء ، اصدقاء اكثر . لأن الدمى تلعب بعيداً من الأبراج ، بعيداً من الكاستوليه أو قصر الدمى . لا قصر ولا فاصل ولا عازل . العرض بساقيه الطويلتين ، لا يسعل سوى سعال الأفراس . العرض على أعين الأطفال . العلاقة مباشرة ، اذا لم تتكلم دماه تستعد للكلام . لأنها تلعب على متنها ، متن صلب ضد الضآلة المعنوية وضد الإستراتيجية المادية ، اذ لا ترتفع المنصة سوى لتفسح المجال للسهل ليمتد من امام ومن وراء . لا تقدير للخسائر ، لأن الفكرة الأساسية في ان يتحول العرض الى معطف ، بعد دراسات رتبت نفسها من الأطراف المدببة الى المركز ، ما جرى الكلام عليه .كل عرض يزهر بنفسه ، ليذكر بالعروض الأخرى . كما حدث في اخر العروض ” يا قمر ضوي عالناس” . يذكر العرض بالعروض الأخرى وهو يفترق عنها . بكل منها مكيدة أمل جديدة . مكيدة فن . لا تكتفي بالتحولات الثقافي . ذلك أن كريم دكروب لا يدور العمل على العمل ، اذ يضع كل ما هو حديث وكل ما هو مثقل بالذكريات ، ما هو كامن بالتراث بكوب واحد ، كوب الاختبار . الدمى وخيال الظل ، الواقعية ، التعبيرية ، الفنون الشرقية والفنون الغربية . كل ما يسند يوظف . بعيداً من النط المجاني وبعيداً من صرير التفكير المتشدد. هكذا يتكلم بلغته ، يتكلم بلهجته. عنده العقل قمة القيم. وحيه الأول ، ما أبدعته الثقافات ذات المبادئ المفعمة بالجماليات العالية بتحويلها الى حاضرة مسرحه . تمكنت منه، ثم تمكن منها. هكذا، يغط بالتراث ، بدون تمَّنع ٍ عن استعمال الأدوات التقنية والمعارف الغربية، الحديثة، بدون أن يعتبر الأمر ابتعاداً عن تراثه. لأنه يُسخِّرها في مسرحياته.حدث الأمر في ما مضى ، ولا يزال في المسرحية الأخيرة”يا قمر ضوي عالناس” اذ وظف كل شيء بخدمة قصة يوسف ( كما هي بالقرآن الكريم والعهد القديم) . يحييها بتحديثها ، لا بوصفها قصصاً دينياً فقط. باعتبارها مدينة وسيطة بين الماضي والحاضر . يحقق ، من خلالهاالمعنى بالمعنى. تقوم أنظومته الثقافية ، هنا، على قراءة النبهاء للقصص، بعيداً من التحريم والتجريم، قريباً من غنى الوجود. لن يضطر المسرحي ، إبن التجربة الروسية ( خريج روسيا ) إلى شرح تأثيرات خروجه على المدرسة الروسية ( تجربة كراسندار/ ما بدأ به) ولا على التجربة اليابانية( البونراكو/ ما لا يزال يداخل فيه على نظرياته الوجودية . او اللعب على المكشوف أمام جمهور لا تخفى عليه تقنيات التحريك من ممثلين يرتدون ثيابهم السوداء ويذوبون في سواد الخلفية ). لأن الخروج ، لا يؤدي إلى هباء، ولا يشكل خيبة أمل، مع تسجيل الحضور الخاص ، إثر العيش بتجارب الآخرين والتفكر بها والتكلم عليها. لا أل تعريف بعد، لفن من الفنون. لأن روح الفنون تسبق أشكالها في ” يا قمر ضوي عالناس”. اذن ، لم تعد تأثيرات الأساتذة بائنة على التلميذ، لأن التلميذ أصبح أستاذ نفسه، منذ سنوات طويلة .

لا لياقات ثقافية بعد، لا خطوط مرسومة، حين يكتب كريم دكروب عرضه ، بالصورة. لا يتمتع الكلام ، عنده ، بمظاهر العظمة. لا يتسلط على العرض، ولا يقيم عليه نوعاً من أنواع العنف. للكلام نطاق معين. النطاق الأوسع، الأشمل ، للمشهد. السينوغرافيا والإخراج ، يشخصان المسرحية أولاً بأول. الأفق ، بالسينوغرافيا والإخراج وصناعة الدمى. الأخيرة، حضور ناضج بفعل تراكم التجارب. مقال ٌ أول. لا براءة، بصناعة الدمى، لأن دكروب تحرر بالمسرحية الجديدة، من المسبقات والأوهام والإيديولوجيات . إنه بقلب واقع التجربة، بدون تزيين . التوقف أمام العلل السابقة ، الكامنة في مجال مسرح الأطفال الثقافي ( ومجمل نواحي الحياة السابقة له ) قاده إلى نفض التجربة والتخلص من كل ما هو زائد .

دمى عزيزة، دمى تتألق ، كما يتألق بشري على المنصة( تحريك أدون خوري وفؤاد يمين و…) . ذئاب، كبيرة. ذئاب صغرى. أناثٌ . ذكورٌ. شجرٌ. بشرٌ. جبال ٌ. بيوتٌ. سماءٌ. أرض. كل شيء وظيفي. السلوكيات ، تكثف المعتقدات. هكذا ، يبان فن خيال الظل والفنون الحسية على الإدراك العميق لأدوارها . لا شيء يباعد بين الحياة المسرحية والتنظير المسرحي. لا ألاعيب بالتحريك. لأن التحريك، يحقق متطلبات فلسفة العرض. أو كشف تقنيات العرض على جمهور العرض. لا علاقة للتغريب البريشتي بذلك. ذلك، من قيم العرض، أن يقدم العرض شخصياته الفردية ، من خلال الجماعة بلعب مكشوف . جماعة تقود الدمية الواحدة، بفضائها المفتوح على الإحتمالات والتأويلات. واقع الفرق بين القديم والجديد. كلما نضج الفريق عاد إلى الطفولة. روح الطفولة ، من عمق العلاقة بالذاكرة . ما حدث، تثقيف العقل، على مدى سنوات ، نشَدت ما وصلت إليه. ريبرتوار حاشد بالأعمال النوعية. كل مسرحية ، تعبر عن حالة شخصية ، لا تلبث أن تتقدم باضطراد الى التحول الى مصطبة الجماعة . لا حالات عابرة. وإذ يقال أن العقل يتشكل أشكالاً مختلفة باختلاف الأشخاص العاقلين والأقوال والأفعال،ان الأمر منحة الشغل الجماعي .

لا كلام ميتافيزيقي، حين نتكلم على شراكة كريم دكروب الباهرة مع أحمد قعبور. جزء من جوهر مسرح كريم دكروب، في هذه الشراكة. بيد أن الشراكة بين الإثنين، بانت بالعرض الأخير، كأنها استنفدت غاياتها وأهدافها. لا لأنها ما عادت ، ذات شخصية، بل لأنها بنت الشخصية ، هذه. بحيث ، باتت حاضرة، فاخرة، بصفة المطلق. تلك صفة، تخلخل مزاج المسرح/ الأساس/ حيث تصنع التجارب شراكات ، ثم لا تلبث أن تخرج عليها، لكي لا تقع بالغرار. على غرار كذا، يقال . التجربة الجديدة مع أحمد قعبور ، على غرار التجارب القديمة. لا انتقاص من قوته الدرامية بالتأليف الموسيقي والتلحين، لأن الفرق بين الإثنين فرق. يسحب القول الموسيقي نفسه، على الفضاء المسرحي، بتكرار الهوية القعبورية، ذات الروح المدينية الواضحة والمفاتيح الأوضح . انسحابه المتكرر يقيمه كطباعة لا كإبداع. أو يجعل الإبداع شيئاً نسبياً مع تكرر الإبداع بروحه وعوامله الشخصية الأخرى.المثال يمتنع حشره في واقع مهما بان ناجحاً. لعل ذلك يفسر ما ترمي الإشارة اليه .

بالفلسفة ، العالم في ” يا قمر ضوي عالناس” صحراء مترامية. الذئاب أكثر إنسانية من البشر. لا سستمة ، هنا. هنا، لا تشاؤم. رمزٌ أو إشارة إلى راهن العيش. ولأن الغاية، توجيه الساعي إلى مسار السعي، نخلص إلى أن شخصيتين بالعرض ، أفضل من شخصية واحدة. شخصية للكتابة وشخصيةٌ للإخراج. كتابة كريم دكروب، صناعة خلق العالم الأول على الورق ، بانتظار عالم المسرح. جمال التركيب ، على المنصة، يتضاعف بحضور النغم الآخر، من الشخصية الأخرى. دور ٌ على دور ، يتسع المحيط بذلك وتثرى البيئة وتتميز السمات أكثر. لأن الكاتب، على قدر ما يتقن الكتابة، يبقى بعيداً عن ما تخيله. الإكتمال ، بالفرق. بالفرق بين الكاتب والمخرج.

ملاحظة أخرى. صنع الخيال، من لقاء خيال الكتابة بمخيال الإخراج. لا مثال. لأن المثال، عبرة لا مغامرة. المسرح مغامرة. لا بأس ، من ملاحظات أخرى. لم يبق كريم دكروب داخل حدود عقله. يضع يده بالنار، بدون أن يحلم بالجنة. ما عاد يأخذ التجربة من زاوية، بعد أن باتت تجربة زوايا. ضوء المسرحية الأخيرة ، يغمر وجه التجربة. ضوء كاشف. ضوء موضعي باهر، يُبين موضع التجربة ويوضح قسماتها، بحيث يصبح بمستطاع الناظر إليها ، أن يسأل :من بالواقع ، ينظر إلى الآخر. وضعية تشق الستائر، بدل أن تتركها مدلاة. الضوء يحدد درجات الجسد ، وحاجات الجسد لكميات الضوء. لا لحظات هاربة هنا. التجربة بالذروة. كبر صبي النادي الثقافي العربي، بعيداً من كاميرات المراقبة. إيقاظ وعيه، مرة أخرى، يكشف له بعض عيوب التجربة. عيوب نادرة ، لا علاقة لها بالجسد التعبيري. عيوب كسوة الفضاء، بِمَا بات يقلص العلاقات بالخارج إلى حدود التوقع. أسماء تتكرر. عجت التجربة بالأسماء هذه. حققتا شروط الشراكة. أصعب الأشياء الإنقطاع عمن نحب. الثراء هنا، بالقليل أو الكثير من الألم.

منذ فهم كريم دكروب تجربته ، استولى عليها . مذ فعل ، ربت على تجاعيد التجارب الأخرى . تجاعيد كشفها شباب مسرح الدمى اللبناني الدائم . ولكي يستولي عليها اكثر يعمل في العلاج النفسي . هكذا ، يضمن حريته ، هكذا يضمن ما يراه لا ما يراه الآخرون . ذلك أن السيطرة على الاعمال الفنية تبدأ من سيطرة قوى الانتاج على السوق . اربعة عشرة ساعة باليوم الواحد ، امام المرضى المستقلين امامه على الكنبة الطويلة ، الى ساعات العلاج أونلاين ، لأجل أن يبقى مسرح الدمى اللبناني في ايدي اصحابه لا في ايدي الآخرين . هذا زمن القسوة ، زمن الحي القيوم .

العدد 123 / كانون الاول 2021