“انوار لبنان” في معهد العالم العربي

جسر ملوّن بين بيروت العصر الذهبي ولبنان المرفأ الشهيد!

باريس ـ جاد الحاج

جاء المعرض الكبير الذي افتتحه معهد العالم العربي في باريس مؤخراً تحت  ظروف مفاجئة لكنها الظروف المناسبة بحسب  مستجدات الساحة السياسية بين فرنسا والعالم العربي عموماً. لقد كان تاريخ 21 أيلول الفائت موعد إقامة معرض بعنوان “الجزائر حبي” إلا أن المناكفات السياسية التي شهدناها قبيل نهاية الصيف المنصرم والتي وتّرت الاجواء بين العاصمة الفرنسية والدولة الجزائرية أصابت المثل القائل: “رب ضارة نافعة”  … فعوضاً عن إقامة معرض تشكيلي موسع للفنانين الجزائريين، مقيمين في فرنسا أو في بلادهم، إضافة الى المنتشرين في العواصم

لوحة اسادور

الاوروبية، إرتأى معهد العالم العربي في باريس أن يتذكر يوم 4 آب 2020 تاريخ انفجار مرفأ بيروت، وبدأت  المناسبة تفسح مجالاً رحباً للأعمال الفنية اللبنانية الموجودة في مخازن المعهد، ناهيك عن تلك التي طلبها من فنانيها السيد كلود لوماند بعدما أطلق على المعرض اللبناني المستجد اسم “أنوار لبنان”.

يقول لوماند: “لقد أبقيت على ذلك العنوان في ذهني طوال سنوات. معظم الفنانين الذين عرفتهم وعرفوا لبنان يتفقون على النوعية المميزة للضوء في ذلك البلد الجميل. ولعل الغبطة ستملأهم  كونهم طليعة من أسندوا الى بيروت صفة مدينة الضوء في الشرق الاوسط. وقد أبدع هؤلاء في تصوير ذلك الضوء ونقله عبر ريشتهم الى العالم من خلال معارض عدة نظموها في باريس”. ويضيف لوماند “أن “أنوار لبنان” سوف يسمح لنا بمعرفة الوجه المشرق لبلد توالت عليه حضارات وثقافات عديدة أدركت أقطار العالم برمته. وهنا لا يسعني الا ان اذكر المزاج المتمرد على النظام الاقطاعي والمحاصصة الدينية مما يجمع بين معظم الفنانين اللبنانيين الذين عرفتهم طوال نصف قرن من الزمن. ها نحن نعرض اليوم قطعة مميزة صنعها الفنان اللبناني الكبير شفيق عبود سنة 1964 لابنته كريستين. انه صندوق الفرجة بمصباحه السحري وصوره المتتالية وعنوانه اللطيف “سينما كريستين”.

 طلب لوماند من رئيس المعهد العربي ووزير الثقافة الأسبق جاك لانغ أن يسمح له باستيراد لوحات لبنانية من صنع الفنانين اللبنانيين الشباب، فوافق لانغ على الفور. ويقول لوماند: “إنها طريقتي المثالية في التجاوب مع احداث مفاجئة حيث أحاول تحويل المآساة الى عمل إيجابي يكشف وجهاً آخرللثقافة بصورة عامة.  هكذا حصلنا على أعمال لبنانيين في المهاجر تمتد من سنة 1950 الى سنة 2021 مما يلقي بالضوء المناسب على غنى المنحى الكوني في تلك

لوحة شفيق عبود

اللوحات والاعمال النحتية. ويكشف امامنا  وجه ًبلد  صغير الحجم لكنه كبير بعطاءاته الابداعية المتنوعة على رغم الكوارث التي ما فتئت تطارده منذ عشرات السنين”.

ضم المعرض عشرين فناناً لبنانياً قدموا 47 عملاً في البداية، ثم ارتفع عددهم الى 33  قدموا 509 أعمال، الا ان العدد ارتفع الى 62 فناناً و611 عملاً من اللوحات والرسوم والمنحوتات والادوات المركبة والكتب الفنية والتصوير والافلام، إضافة الى الحفر والاقمشة والسيراميك والتركيبات الحديثة.  كما يستطيع الجمهور ان يتأمل عملين كبيرين لمعزز روضة يعودان الى مطلع ستينات القرن المنصرم.

 ويؤكد لوماند ان “دورنا الاساسي هو دعم الفنانين اللبنانيين في هذه الفترة الصعبة ، فإلى جانب تنظيم المعرض دعوت عدداً من الفنانين العرب للمساهمة  ايضاً  على اساس طرح اعمالهم في مزاد علني كبير موعده الثامن عشر من تشرين الاول/ اكتوبر الراهن. وقد تجاوب اكثر من ستين فناناً باندفاع تضامني مميز. من جهة اخرى اطلقنا النداء باتجاه الفنانين اللبنانيين الشباب   وحصلنا على 130 مشتركا اخترنا من اعمالهم 11 عملاً سوف تشكل اضافة ثمينة الى مجموعة “معهد العالم العربي”.

وتجدر الاشارة هنا الى ان “بيروت العصر الذهبي” جذبت اليها عدداً كبيراً من فناني العالم المعروفين. من فرنسا: الاختصاصي بالآثار وجامع القطع القديمة اندريه ماسون، والفنان الكبير ماكس إرنست وجورج ماتيو، ومن فلسطين منى السعودي، ومن العراق ضياء العزاوي ورافع الناصري وشاكر حسن واسماعيل فتاح… كلا، لبنان ليس لبنان

لوحة ايتيل عدنان

فحسب، لأنه يتجاوز حجمه وأصداؤه تدرك أربعة أقطار العالم، على رغم كل السلبيات التي تجتاحه هذه الأيام.

تشكل المعرض حول مفهوم متواتر واضح بالنسبة الى الزائرين الذين وجدوا انفسهم امام ثلاثة أجيال من الفنانين: أولئك الذين انتموا تاريخياً الى بيروت العصر الذهبي، ثم الذين رسموا سنوات الحرب الاهلية، وأخيراً اولئك الذين وفدوا الى الساحة مع أولى بشائر العولمة منذ العام 2000. بناء عليه بات بالإمكان أن نقيم تواصلاً إبداعياً وتاريخياً بين الأزمنة الثلاث. بديهي أن نشهد مسافات مختلفة بين اللوحات والتماثيل المعروضة ،إلا أنها تكشف أيضاً انشغالات متعددة عاشها أولئك المبدعون في مراحل متباعدة لعل قاسمها المشترك ذلك الضوء المميز الذي تحدثنا عنه  سابقاً.

ويقول لوماند: “ان اللوحات المرتبطة بزمن الحرب قلما تضم مشاهد حافلة بالدمار والقتلى والفجائع، خذ مثلاً نموذجاً من احدى لوحات شفيق عبود الذي رسم المقاهي البيروتية القديمة على شاطئ البحر وقد كان احد روادها اليوميين تقريباً. صحيح ليست لوحات فرحة إلا أنها تحتفي بذلك الضوء الجميل الذي يضفي املاً واضحاً على الناس والاشياء. وقد جاءت لوحة “الفجر” آخر أعمال عبود سنة 2003 شاهدة على الأمل الذي لم يفقده   حتى رمقه الأخير”.

كلود لوماند

من الجيل التالي نتعرف على فاطمة الحاج التي عاشت الحرب الاهلية  وعانت منها كثيراً جسماً وروحاً ، إلا أنها لم ترسم الدمار والخراب والحرائق.  بالعكس تراها رسمت عوالم تتخطى سطوة الموت. فحين ترسم حديقة تدفعنا تلقائياً الى لوحات الفنان الفرنسي الكبير مونيه، أو لو رسمت قريتها فكأنها رسمت   حديقة ذاتها الداخلية التواقة الى  النقاء والضوء.

تشارك  في هذا المعرض الكبير أجيال من الفنانين اللبنانيين القدامى والجدد واليافعين: هنيبعل سروجي، زاد ملتقى، أناشار بصبوص، هلا متى، هبة كلش، مازن كرباج، أيمن بعلبكي، جوزف الحوراني، تغريد ضرغوت، عبدالرحمن قطناني، عابد القادري، طارق القاصوف، سارة شعار، سارة ابو مراد، هلا عز الدين، ليال نخلة، نادر بشون، مارك غيراغوسيان … والفتى المولود سنة 1997 الياس نفعة وغيرهم.

العدد 123 / كانون الاول 2021