الحداثة الزائفة ولعنة الشعر

بعد أكثر من خمسة قرون على بروز مصطلح الحداثة في أوروبا، ومسار التقدم والتطوّر الذي سلكه، مروراً بعَولَمته وتداخله في الفكر الإنساني واتجاهاته الاجتماعية والسياسية والفلسفية والأدبية والعلمية والفنية، وصولًا إلى مفهوم ما بعد الحداثة (Postmodernism) والذي يُعدّ تطوّرًا طبيعيًا، لا بل استمرارية لمفهوم الحداثة إنما بمناهج أخرى، لا تزال فئة واسعة من “الأنتلّيجنسيا” العربية غارقة في التفسيرات والشروح والتأويلات لمصطلح يتضمن حمولة ضخمة من التدفقات المعرفية.

اقتصر فهم الحداثة المحدود لهذه النُّخب، على سباق محموم مع زمنٍ أصبح اللحاق به مستحيلاً. فيما فئةٌ أخرى من النخبويين الجدد تعتقد أنها في صلب الحداثة عبر تجريب المجرّب، فتقبع في وسط الفكرة رافضة القَطع مع الماضي وغير قادرة على التماهي مع الحاضر. بينما فئة ثالثة من أنصاف المثقفين، تتقاذفها أعاصير الحداثة وما بعدها بفعل غياب المفاهيم القديمة والنظريات المطلقة، وذلك لافتقارها إلى القدرة المعرفية والعلمية والثقافية للعصر الما بعد الحداثوي الذي يصفه الفيلسوف الفرنسي جان فرنسوا ليوتار Jean François Lyotard (وهو أول من أدخل مصطلح ما بعد الحداثة إلى الفلسفة والعلوم الاجتماعية)، بأنه عصر التشكيك وموت التعاريف المنطقية.

دُوار المتاهة الحداثوية أصاب المجتمعات المضطربة جرّاء الصدمات الحضارية والثقافية التي تتلقاها من المجتمعات المتقدّمة، فلم تتمكّن من مجاراتها وفهمها وبالتالي منافستها والتفوّق عليها، ولا استطاعت تقديم أي منتج فكري حضاري لإثبات كينونتها التي تكاد تضمحلّ، لولا التغنّي بأمجادها والبكاء على أطلال حضارتها.

المجتمعات العربية هي أبرزها، وهي كالشريدة على أرصفة الزمن الجديد، بين ضياع هويّتها وغيابها فكرياً عن خريطة العالم، وهي في تحدٍّ مضطّرد لإثبات مكانتها وتاريخها في مستقبل لا مكان للمتخاذلين وغير المبتكرين فيه، ولا مساحة لتاريخ لا يأتي بالمجدّدين والحداثويين الحقيقيين ممّن يؤمنون بمحورية الإنسان، الذي ينبثق عبره كون جديد.

هذا الكون الذي يظن البعض أنه محوره، وحوله تدور الكواكب، صار بالمستطاع التجوّل في أرجائه افتراضياً، وأنت في غرفتك من خلال نظارات Oculus المتطورة، وما زال هذا البعض يعتقد أنه يكتب شعرًا حديثًا سيغيّر وجه العالم، وهو لا يفقه من الحداثة سوى كلمات متناثرة على أسطر مبعثرة يظنّ أنّها تتوّجه شاعراً و… حديثًا.

ماجدة

العدد 123 / كانون الاول 2021