المسيّرات الإيرانية أداة لحسم صراع السلطة في العراق

د.ماجد السامرائي

السلاح أداة المهزومين في السياسة 

في السابع من نوفمبر فوجئ الجمهور العراقي والمتابعون بحدث توجيه مسيّرتين لاغتيال رئيس الحكومة العراقية مصطفى الكاظمي في مقر سكنه بالمنطقة الخضراء المُحصنة بالعاصمة منذ احتلال القوات الامريكية للعراق . كانت التوقعات تتحدث عن استمرار المناكفات الإعلامية بين القوى الشيعية والحكومة هدفها الضغط على رئيسها الكاظمي لتلبية مطالب الخاسرين لإعادة النظر بنتائج هزيمتهم في الانتخابات التي جاءت مبكّرة في توقيتها الزمني كواحدة من مطالب ثورة شباب أكتوبر ( تشرين ) رغم وجود سياقات قانونية اتفقوا جميعاً عليها مثل مفوضية الانتخابات والمحكمة الدستورية.

ما حصل من نتائج هزيمة القوى المليشياوية انتخابياً أدى الى انكشاف قوى السلاح المليشياوي بعد سنوات طويلة من آثار التخريب النفسي والاجتماعي والاقتصادي التي سببتها تلك القوى في البلد التي جعلت من السلاح الأداة الوحيدة للحوار مع الخصوم حتى داخل المكوّن السياسي والطائفي القائل بأن لديه الأحقية بحكم العراق من دون سند دستوري

شعب العراق يبقى هو الضحية الكبرى لما يجرى على مسرح السياسة والسلطة

وفي تجاوز فض على عناصر ومقومات الديمقراطية التي استلوا منها الجانب الانتخابي فقط لاستمرارحكم طبقة سياسية فاسدة وسارقة لأكثر من 500 مليار دولار من ثروات العراق منذ عام 2003 في حين إن المواطن محروم من الحد الدني من الخدمات كالأمن والكهرباء والصحة والتعليم .

للعراقيين ميراث وسجل مأساوي مع الممارسات الاجرامية لتلك المليشيات غير القانونية التي استثمرت فتوى المرجع الشيعي السيستاني بمحارية داعش عام 2014 والانتصار عليه لكي تتحول الى قوة نافذة في المؤسسات الرسمية السياسية والاقتصادية وفي الشارع العراقي بفرض ” الأتاوات ” على الناس وإرهابهم وترويعهم واختطاف بعض أبنائهم والمساومة المالية والاخلاقية عليهم .

لم تنفع فِتاة الأجور التي كانت تقدم لمنتسبي تلك المليشيات بسبب حاجتهم لاستمرار معيشة عوائلهم من قول الحقيقة الرافضة لتلك الزعامات ووضعها في صناديق الانتخاب التي ذهب اليها نسبة لم تتجاوز العشرين بالمائة من العراقيين . كانت ردّة الفعل جنونية من هذه الخسارة أمام تغيير دراماتيكي في خارطة الفوز الانتخابي داخل المكّون ” الشيعي ” نفسه حيث فاز تيار مقتدى الصدر الموصوف بالشخصية الكارزمية الشعبية وصاحب دعوات الإصلاح والاستقلالية العراقية , وهي شعارات تبدو جاذبة في مناخ عام من التبعية السياسية والعقائدية لإيران .

كان من الطبيعي أن تُلقى تبعات التدهور العام في العراق الى حكامه من الطبقة السياسية , وكان من الطبيعي أيضاً أن يتم الرفض الشامل لتلك القوى من خلال صناديق الاقتراع الوسيلة الوحيدة الموجودة في العراق رغم إن وسيلة الاحتلال العسكري الأجنبي الأمريكي هي التي كانت وسيلة هذه الطبقة في الوصول الى الحكم عام 2003 . لكن معطيات الحاضر العراقي جعلت من الأسلوب السلمي هو الخيار الوحيد وهذا ما قدمته ثورة شباب أكتوبر ( تشرين ) عام 2019 . لكن هزيمة المليشيات المسلحة قد وضعها في مواجهة مباشرة أمام الحكومة الشرعية التي يمثلها مصطفى الكاظمي الذي عبّر في مناسبات عدة عن وظيفة حكومته بأنها لإنجاز الانتخابات المبكرة .

رغم إن مصطفى الكاظمي قد جاء للوزارة كخيار اجماع الأحزاب ” الشيعية ” لكنهم ارتدوا عليه ثمّ خوّنوه في مناسبات عدة وعبرّوا عن استهزائهم به ودوس صوره داخل أسوار بنايات الحكومة وبجانب مقر عمله أو بدعوات قطع أذنيه عقاباً على ما يدعونه تورطه بالمساعدة على قتل زعيميهم قاسم سليماني وأبو مهدي المهندس العام الماضي .

كانت على الكاظمي مسؤوليات أمام شعب العراق بفرض سيادة القانون ونزع سلاح المليشيات والقبض على مرتكبي جرائم قتل 800 شهيد من شباب العراق بفترة أشهر وجرح أكثر من خمس وعشرين ألف شخص بعض اصابتهم أدت الى العَوَق الجسدي , لكن النزعة الشخصية الوسطية المسالمة للكاظمي دفعته الى حلول ما سماها في شعاراته الإعلامية بالاحتواء بعد ان تعرّف على عمق المشكلة والمسافة العميقة لتغوّل المليشيات بما كان يعتقده الحل الوسطي السلمي غير الحاسم , كانت حوادث كثيرة خلال الستة عشر شهراً الماضية من حكمه أثبتت تراخيه وسلميته فهمته تلك المليشيات ضعفاً رغم انه يمتلك امكانيات الجيش والأمن وأجهزة الحكومة .

الذي دفع قوى المليشيات الولائية الى فقدان السيطرة واللجوء الى السلاح في الصدام مع رمز الحكومة العراقية ليس حدثاً عرضياً يومياً اسمه مقتل شخص في تظاهرات محاصرة المنطقة الخضراء في السادس من نوفمبر إنما لتراكم تراجع قوة تلك المليشيات السياسية واحتمال غيابها النهائي عن المشهد .

ثلاث حوادث سياسية بارزة أدت الى الصدمة والانهيار , أولها الخرق الكبير الي احدثته ثورة شباب أكتوبر في جدار الطائفية المقيتة حيث شكلت هذه الثورة وعياً مشرقاً في حياة العراقيين في رفع شعار ” نريد وطن ” أهمية هذا التحوّل إن الانتفاضة والثورة انطلقت من مدن الوسط والجنوب ” الشيعية ” وليست المدن الغربية ذات الأغلبية العربية السنية التي وصفت احتجاجاتها بالإرهابية ثم الداعشية .

الحدث الثاني تبلور حركة الزعيم الشيعي مقتدى الصدر الى قوة فاعلة بعد فوزه الانتخابي الأخير في أكتوبر 2021 وهو المعروف بمعاداته للاحتلال الأمريكي للعراق ومناهضته له , فلا يستطيع رافعوا شعار ” محاربة أمريكا ” المزاودة عليه , وهذا ما يشكل اختراقاً في وحدة ما سمي ” الكتلة الشيعية ” التي دائماً ومنذ ثمانية عشر عاماً ما تتوافق مع الأكراد والسنة على تسمية رئيس وزراء منفذ لإرادتهم وحامي لمصالحهم .

الحدث الثالث هو سياسة الكاظمي التي اخذت تقتص شيئاً فشيئاً من أجنحتهم ونفوذهم الاقتصادي بما سمي اللجان الاقتصادية للأحزاب ومحاصرة نفوذهم الأمني داخل مؤسسات الحكومة رغم إنها عميقة ومتشعبة .

هيأت القوى المليشياوية واستحضرت امكانياتها للوثوب الى السلطة العليا بعد توقع فوزها في الانتخابات بعد أن تقدمت قوائم انتخابية علنية لانتخابات 10- 10-2021 وكانت فد قدمت تقاريرها ومخططاتها الميدانية الى الولي الفقيه في طهران بواسطة مكاتبه الخاصة أبرزها مكتب قائد فيلق القدس اسماعيل قآني الوريث الضعيف للمقتول الجنرال قاسم سليماني ومستشار الأمن القومي علي شمخاني , فأدت انتخابات الصدمة الى حالة الهيجان والذهاب الى خيار مظلم في استهداف مسكن مصطفى الكاظمي لقتله بالطائرات المسيّرة .

شماعة الفشل الانتخابي بدت هزيلة في توقيتها للمواجهة المباشرة مع الكاظمي ومقتدى الصدر , في تهديد مباشر للنظام السياسي القائم الذي يبدو في قراءات طهران انه سيتجه الى قدر من الاستقلالية والتحرر من الهيمنة والنفوذ الإيراني وهذا التطور غير مقبول . فسياسات الكاظمي المنفتحة على المحيط العربي والدولي أكدتها حملة التأييد الكبيرة له بعد حادثة محاولة اغتياله في السابع من نوفمبر .كما إن تحالف الصدر والأكراد وسنة تكتل تقدم لمحمد الحلبوسي والمستقلين الذين فازوا من الحراك الشعبي يمكن أن يشكلوا قوّة برلمانية جديدة برئيس وزراء  قد يأتي الكاظمي مجدداً لرئاسة الوزارة من خارج الإطار الولائي الذي ضمّه ما سمي ” الاطار التنسيقي الشيعي ” .

خطورة مؤامرة اغتيال الكاظمي تتجاوز التصفية الجسدية الشخصية الى السينوريوهات اللاحقة لو نجحت هذه المؤامرة الى مصير دموي مظلم للعراق ووقوعه تحت ظروف الانهيار والمذابح والحرب الأهلية واحتمال تدخل ايران المباشر تحت عنوان ” حماية المذهب ” , أو فرضية تدخل الولايات المتحدة الأمريكية وفق اتفاقية الاطار الاستراتيجي لحماية النظام السياسي المتمثل بحكومة الكاظمي وقيام حكومة طوارئ برئاسته .

السيناريوهات المقبلة المحتملة بعضها يتناول الجزئيات اليومية المتعلقة بإعلان نتائج الانتخابات ودعوة الأطراف الشيعية الى التهدئة وطي صفحة محاولة اغتيال الكاظمي ونسيانها تحت مبررات الحفاظ على السلم ” الشيعي ” ودعوة مقتدى الصدر الى بيته الطائفي وتقاسم السلطة ومنح الفاشلين مكافأة أعمالهم الاستفزازية التخريبية مناصب في الحكومة المقبلة .أو ذهاب الصدر الى مشروع كتلة الأغلبية الوطنية وأطرافها جاهزة ( التيار الصدري والأكراد وسنة كتلة تقدم والمستقلين من الحراك الشعبي ) وبذلك تسقط مرة واحدة جميع إمكانيات القوى الولائية.

رسائل عديدة وجهها مدبرو محاولة اغتيال الكاظمي بالمسيرات والمتورطون التنفيذيون  معروفون ليسوا بحاجة الى أدلة جنائية , تصريحات قادة المليشيات التهديدية قبيل ساعات من الحادث , كما ان هذا السلاح التقني ” المُسيّرات ” مصدره ايران الذي يدخل لأول مرة لحسم صراع سياسي داخلي ببلد يفترض أن توجه إمكانيات وقدراته لحماية حدوده وبناء تنميته وتصفية مافيات الفساد التي دمرت شعبه .

الرسالة الأولى للكاظمي إذا ما نجا وهو نجا بالفعل من الموت , بأن يد المليشيات تطاردك . والرسالة الثانية الى مقتدى الصدر بالتراجع عن مشروعه الاستقلالي والعودة الى ” البيت الشيعي ” وإلا فإن السلاح متوفر بأعلى المستويات الفنية التي تتجاوز سلاح الجمهور المتظاهر بالشوارع . وهكذا هي رسالة تأكيدية الى الأكراد لأن المسيرات سبق أن وجهت الى مواقع في أربيل قيل أنها الى القواعد الأمريكية لكنها ضمناً موجهة الى رئاسة إقليم كردستان .

رسائل الخارج متعددة الاتجاهات أهمها من إيران الى واشنطن باننا موجودون في العراق وهو لنا وليس لكم فيه شبر واحد .

العدد 123 / كانون الاول 2021