العولمة و الهوية

الدكتور إبراهيم الحريري

 الهوية دائماً جماع ثلاثة عناصر: العقيدة التي توفر رؤية للوجود، واللسان الذي يجري التعبير به، والتراث الثقافي الطويل المدى

ما تعريف الهوية؟

المعنى اللغوي:   لفظ “هوية” مشتق من الضمير الغائب “هو” الذي تحوّل إلى اسم “هوية” وترادف كلمة هوية في اللغة العربية عدة ألفاظ نذكر منها:

– الذاتية ليس بمعنى تدخل الذات في الموضوع  في مقابل الموضوعية بل تعني العناصر والمكونات الثابتة التي تحدد وجود الشيء، بهذه العناصر يوجد الشيء ومن غيرها ينعدم ويزول.

– حقيقة الشيء وجوهره

– ماهية الشيء

– الذات الفردي والذات الجماعية

– تعريف الشيء وحدّه

   ويُعرّف حس حنفي الهوية انطلاقا من اللفظة واشتقاقها اللغوي وما يعادها في الحرف اللاتيني ويربطها بالأنا وبمعناها لدى الفلاسفة قائلا:

“الهوية من الضمير “هو” يتحول إلى اسم. ومعناه أن يكون الشخص هو هو. هو اسم إشارة يحيل إلى الآخر، وليس إلى الأنا. وهو ما يعادل الحرف اللاتيني Id. ومنها اشتق أيضاً لفظ Identity. أما لفظ الإنية فهو يعادل الحرف اللاتيني Ipse ومنها اشتق Ipseity. وبالتالي تمنع كل أنانية وخصوصية لأن الهوية تثبت الآخر قبل أن تثبت الأنا. لا تشتق الهوية من ضمير المتكلم المفرد “الأنا” إلا بمعنى الأنانية في مقابل الغيرية. أما لفظ “الإنية” فأنه مشتق من “إن” حرف توكيد ونصب. ومعناه أن يتأكد وجود الشيء وماهيته من خلال التعريف.

 و يعرف الجرجاني في كتابه الذائع الصيت ”التعريفات“ يقول عنها: بأنها الحقيقة المطلقة المشتملة على الحقائق اشتمال النواة على الشجرة في الغيب.

   ويماثل لفظ “الهوية” لفظ “الماهية” عند الفلاسفة أي جوهر الشيء وحقيقته. الهوية تماثل بين الأنا والهو في حين أن الماهية تماثل بين الشيء ونفسه. وهو أيضاً لفظ مشتق من أداة الاستفهام “ما”، وضمير الغائب المؤنث “هي”. يستعمل في التعريف في حين أن لفظ “الهوية” يُستعمل في الوجود. أما لفظ “جوهر” فهو صورة فنية من المعادن الثمينة ويعني اللب والحقيقة أغلى ما في الشيء”.

المعنى الاصطلاحي:   لا يوجد تعريف متفق عليه لدى الفلاسفة والمفكرين وعلماء السياسة والاجتماع وغيرهم للهوية، بل توجد تعاريف مختلفة باختلاف مجالات المعرفية الإنسانية والاجتماعية، معناها يتغير من مجال معرفي إلى مجال معرفي آخر، من علم النفس إلى المنطق إلى علم الاجتماع إلى علم السياسة إلى غير ذلك من التخصصات الواسعة أو الضيقة التي تتناول موضوع الهوية بالبحث والدراسة.

– في المنطق الأرسطي الهوية أو الذاتية قانون يحكم الفكر والتفكير ويجنّبه الوقوع في الخطأ والتناقض خلال عملياته الاستدلالية، مؤداه ومفاده أنّ الشيء هو هو ثابت لا يتبدل ولا يتحول من هو إلى ليس هو، فلا يكون الشيء هو وليس هو في الوقت نفسه، إمّا الشيء هو أو لا هو.

– في علم النفس ترتبط الهوية بالشخصية التي تتحدد بجانبين أساسيين، جانب يتميز بالكثرة والتغير ويخص مكونات الشخصية البيولوجية والنفسية والاجتماعية وكل ما هو قابل للزيادة والنقصان وقابل للتغير والاندثار، وجانب يتميّز بالوحدة والثبات ويخص الأنا أو الذات الواحدة الثابتة التي تبقى هي هي لا تتغير ولا تزول، فالذات أو الأنا تمثل هوية الشخص وذاتيته. ففي الشخصية تجتمع الوحدة مع الكثرة والتغير مع الثبات من غير تناقض، بمعنى أنا أو ذات واحدة ثابتة تعيش التغير والكثرة في الأحوال والصفات.

– في الفلسفة تعني الهوية الماهية أي جوهر الشيء وحقيقته، ومنه جاء التعريف المنطقي في الفلسفة القديمة للحدود بالماهية لا بالعرض وبالحد التام لا بالحد الناقص وبالجنس القريب والفاصلة النوعية.

ويختلف معنى الهوية من فلسفة إلى أخرى ومن فيلسوف إلى آخر ومن مرحلة تاريخية إلى أخرى، يختلف باختلاف الأنساق الفلسفية والفكرية والإيديولوجية ويكون تابعا للسياقات التاريخية التي عرفها الفكر عند الإنسان وعرفتها حياته.

– في علم الاجتماع ترتبط الهوية بالمجتمع وتتحدد به وهي ظاهرة اجتماعية تحدد ماهية المجتمع من حيث هو تركيبة بشرية مكوناتها كثيرة متداخلة ومتشابكة، تركيبة متطورة باستمرار، فيها الثابت وفيها المتحول، وهوية المجتمع وهوية الفرد جزء منه تتحدد بالعناصر الاجتماعية الثابتة في المجتمع والتي لا يوجد المجتمع من دونها، وهي عناصر اجتماعية بحتة وسياسية واقتصادية وثقافية ودينية وتربوية وغيرها، فالجانب الثابت الدائم الواحد الذي لا يتغير بتغير الأوضاع والظروف في الفرد وفي المجتمع وفي الطبيعة ومن دونه لا يقوم مجتمع ما وينهار بانهيار هذا الجانب هو هوية هذا المجتمع، مثل الإسلام في المجتمع الإسلامي، واللغة العربية في المجتمع العربي، واليهودية في المجتمع اليهودي واللغة الهندية في المجتمع الهندي، ويختلف المقوم  الذي يحدد هوية المجتمع من مجتمع إلى آخر دينيا كان أو عرقيا أو طائفيا أو غيره.

– في السياسة والإيديولوجيا يختلف مفهوم الهوية من اتجاه إلى آخر وما أكثر الاتجاهات السياسية والأيديولوجية، وبالتالي تتعدد وتتنوع الهويات بحسب مقوماتها التي هي مقومات الأمة، فتتعدد الهويات وتتباين بتعدد وتباين اللغات والثقافات والجغرافيا والتاريخ والأديان والأعراق والأوطان ووحدة الماضي والمصير المشترك وغيره، قد تتحدد الهوية بمقوّم واحد وقد تتحدد بأكثر من مقوّم، فالأمة الإسلامية هويتها تقوم على الدين الإسلامي وداخل الأمة الإسلامية توجد هويات كثيرة مثل الهوية السنية والهوية الشيعية والهوية الكردية والهوية التركمانية والهوية الأمازيغية وغيرها، ففي الغرب تتحدد الهوية بالوطن واللغة فعرفت أوربا الهوية الفرنسية والهوية الإنجليزية والهوية الإسبانية والهوية الألمانية وغيرها.

   يتضح مما سبق بالنسبة لمفهوم الهوية اصطلاحا لا يمكن حصره في جانب ما كما لاحظنا تناولها من طرف الفلاسفة وفي العلوم الإنسانية والاجتماعية، لكن المتفق عليه أنّ الهوية تعبر عن حقيقة الشيء وماهيته سواء على المستوى فكري والمنطقي قانون الذاتية أو على المستوى الفلسفي ماهية الشيء وحقيقته أو على المستوى الفردي والشخصي وحدة الأنا والشعور وثباته أو على مستوى المجتمع الأنا الجمعي أو على مستوى الإيديولوجيات المقوّم الذي تثق فيه الإيديولوجيا وتؤسس عليه هويتها مثل اللغة والعرق والدين والأرض وغيرها.

ما هي الهوية اللغوية.؟

    يتركب مصطلح “الهوية اللغوية” من لفظتين مرتبطتين على سبيل الإضافة والاقتران لضرورة وعلاقة وظيفية بين طرفي المركب، وظيفة لا تتحقق في غياب أحد الطرفين، طرف اللغة وطرف الهوية.

   ولما كانت اللغة هي كل نظام من الإشارات والرموز يمكن أن تكون وسيلة للتعبير والتواصل، واللغة خاصية إنسانية لما فيها من جوانب عاقلة ونفسية واجتماعية وحضارية، فاللغة لها هويتها تتحدد بخصوصيتها الرمزية والدلالية والنسقية، وتتعدد اللغات وتتباين على أساس هوية اللغة ذاتها وذاتيتها التي تتميز بها وتتحدد مكانتها بين أقرانها من اللغات، واللغة كهوية رمزية نسقية خاصة ترتبط بالهوية في معناها العام على سبيل التأثير والتشكيل والتمثيل.

   ولما كانت اللغة أداة تفكير وتعبير وتخاطب وتواصل وتفاهم بين أفراد بني البشر باعتبارها خاصية إنسانية، تعبر عن أي حراك تاريخي ثقافي أو حضاري وتخزن منتجاته في الذاكرة الفردية الجماعية، وهي وسيلة نقل التراث والثقافة والحضارة من جيل إلى آخر ومن مرحلة تاريخية إلى أخرى وبين الأمم والشعوب، فهي تشكل أحيانا المقوّم  الوحيد الجوهري والأساسي وفي أحيان أخرى تمثل أحد المقومات الجوهرية والأساسية  التي قامت عليها العديد من القوميات والأمم مثل اللغات الأروبية واللغة العربية واللغة الهندية وغيرها.

   اللغة الواحدة بنسقها الرمزي والعلمي والمنطقي والدلالي وبأبعادها العقلية والنفسية والاجتماعية والثقافية والحضارية والدينية وغيرها وفي سياقها التاريخي توحّد الشعور بالانتماء المزدوج إلى اللغة وإلى كل من يحملها ويتكلّم بها بعد تشكّل هذا الشعور وتقويته، الشعور بالانتماء إلى اللغة وإلى الجماعة البشرية التي تتحدث بها، هذه الوحدة وما تنطوي عليه من ترابط وتماسك تقوم في الذهن أولا كفكر ونظر ثم تتحول إلى ممارسة وواقع وعمل، هكذا تشكلت الهويات اللغوية البشرية في عالمنا الحديث في أوربا الغربية وفي غيرها، مثل الهوية الألمانية والهوية الإنجليزية والهوية الإسبانية والهوية الهندية والهوية العربية …إلخ. وكل هوية من هذه الهويات قامت على لغة ما.

   ولما كانت الهوية هي كل ما يتميز بالوحدة والثبات والدوام لا يتعدد ولا يتغير ولا يزول في الكائن البشري على المستوى الفردي والاجتماعي وفي غيره من الكائنات على اختلاف أنواعها مادية كانت أو فكرية أو روحية، فالهوية تعبّر عن حقيقة الكائن وماهيته، وفي غياب الهوية غياب للحقيقة غموض الماهية على مستوى الأفكار والأشياء والأشخاص، ومن هنا تقوم أهمية الهوية لدينا وحاجتنا الملحة إلى اكتشافها في الموضوع أي موضوع، مثلما هو الحال في تحديد هويات الأفراد وهويات الشعوب وهويات الطوائف وهويات الأعراق وغيرها.

   عندما تتقابل اللغة مع الهوية  بوصف كل منهما مفهوما وظاهرة إنسانية، تأخذ اللغة على صعيد المفهوم مستويين، مستوى الهوية اللغوية ومستوى الهوية الثقافية، أي اعتبار اللغة كنسق رمزي لفظي ودلالي وكمنظومة لسانية قائمة بذاتها لها هويتها وذاتيتها تمثل انتماءا قائما بذاته مستقلا عن غيره له خصوصيته يرتبط ويتمسك به أهله ويعتزون ويفخرون. ومستوى اللغة كنسق في سياق ثقافي وحضاري وتاريخي ما يمثل هوية ذاتية مندمجة في هوية ثقافية وتاريخية أكبر وأعم سواء كانت هذه الأخيرة من إنتاج الهوية اللغوية كمقوم أساسي أو من غيرها، وفي الحالين معا تعبّر اللغة عن هوية أي هويتها الذاتية وعن غيرها ثقافيا وحضاريا وتاريخيا.

   وترتبط الهوية باللغة ارتباطا وثيقا، ارتباط العلة بالمعلول، وعلى سبيل التأثير والتشكيل والتمثيل، فالواحدة منهما تؤثر في الأخرى وتُشكّلها وتمثلها، فالهوية حالّة في اللغة لأن كل لغة لها هويتها الخاصة بها، وتعبّر اللغة عن الهوية كما تعبّر الهوية عن اللغة، وقد تكون اللغة إحدى المقومات أساسية أو غير أساسية في بناء الهوية، وتنتج اللغة الهوية وتحافظ عليها وتنقلها من جيل إلى آخر ومن وقت إلى آخر، وتقوم الهوية بتنشيط اللغة وتحريكها وتحافظ عليها وتؤمن وجودها من الاندثار، وتتأثر اللغة بالهوية إذ تقوى بقوتها وتضعف بضعفها وتنصهر بانصهارها وتندثر باندثارها، وانطلاقا من العلاقة الوثيقة بين الظاهرتين الإنسانيتين الهوية واللغة يتحدد مدلول الهوية اللغوية باعتبارها أحد المفاهيم الرئيسية في الفكر المعاصر. ويقول حسن حنفي محددا العلاقة بين الهوية واللغة في الوطن: “الهوية واللغة موضوعان مرتبطان يتفاعلان في السلوك الفردي والاجتماعي داخل الأوطان، يؤثر كل منهما على الآخر، قوة وضعفا، إذا قويت الهوية قويت اللغة. وإذا ضعفت الهوية ضعفت اللغة. اللغة تعبير عن الهوية طبقا للقول المشهور (تحدث حتى أراك). وقد تحدث الله في الوحي حتى تُعرف ذاته العلية. وكلمة (لوغوس) في المسيحية كما هو الحال في إنجيل يوحنا تعني الكلمة والهوية والوجود في آن واحد”.15

   استنادا إلى مدلول الهوية وإلى مدلول اللغة وبالإضافة والاقتران والتركيب بين المدلولين قام مصطلح “الهوية اللغوية” المركب من لفظتين لفظ الهوية ولفظ اللغة، ويعني المصطلح كل ما تتميّز به لغة ما من خصائص ورموز وإشارات ودلالات وعلاقات فكرية ومنطقية ونفسية واجتماعية خاصة بها تميزها عن غيرها من اللغات الأخرى، وتمثل لسان جماعة بشرية ما قد تتميز بها الجماعة عن غيرها من الجماعات البشرية الأخرى. والهوية اللغوية بهذا المعنى تظهر بمظهرين مظهر ذاتي تعبر به عن كيانها اللغوي ووجودها وحقيقة هذا الوجود بين اللغات ومظهر آخر موضوعي تعبر به عن القوم الذي ينطق بها ويعبر بها عن أغراضه وعن هويته الثقافية والتاريخية والدينية وغيرها. فاللغة العربية علوم ونسق من الألفاظ والاشتقاقات والأساليب والعلاقات والروابط المنطقية والسيكولوجية والقواعد لها أصلها وتاريخها ودورها ومكانتها، علوم اللغة ونسقها يُعبّران عن هوية اللغة العربية، ويحملان ثراث وثقافة وتاريخ وتطلعات الجماعة البشرية في الحاضر والماضي، فهي ذات هوية مزدوجة هوية لغوية ذاتية وهوية اجتماعية وإنسانية.

ما هي الهوية الثقافية؟

   يتركب مصطلح “الهوية الثقافية” من لفظتين مرتبطتين على سبيل الإضافة والاقتران لضرورة وعلاقة وظيفية بين طرفي المركب، وظيفة لا تتحقق في غياب أحد الطرفين، طرف الهوية وطرف الثقافة مثلما هو حال مصطلح “الهوية اللغوية”.

   لضبط مفهوم “الهوية الثقافية” نحتاج إلى تعريف الثقافة وإلى مراجعة تعريف “الهوية”. – بالنسبة للثقافة لغويا فهي لفظة جذرها في اللغة العربية ثلاثي الأحرف “ث، ق، ف”، ويرد الجذر بصورتين ومعنيين، الصورة الأولى “ثقَف” الشيء بمعنى صادفه وأدركه وظفر به وأخذه. والصورة الثانية “ثقف” بمعنى صار حاذقا فطنا كيّسا.

نقول ثَقِفَ الكلام يعني حذقه وفهمه بسرعة وثَقَّفَ الرمحَ يعني قوّمه وسوّاه وثقَّف الولد يعني هذّبه وعلّمه.وثاقفه مثاقفةً: غالبه فغلبه في الحذق.

“ويبين ابن منظور في “لسان العرب” أن معنى ثَقَفَ: جدّد وسوّى، ويربط بين التثقيف والحذق وسرعة التعليم. ويعرف المعجم الوسيط الثقافة بأنّها (العلوم والمعارف والفنون التي يطلب فيها الحذق”.16

ترادف كلمة ثقافة في اللغة العربية في المعنى عدة مفردات منها الظفر بالشيء وإدراكه وأخذه، والفطنة وشدّة الذكاء والحذق والحذاقة والكيّاسة، والتسوية والتقويم، التأديب والتهذيب والتربية وغيرها.

   وكلمة ثقافة تشير إلى لفظة culture في اللغتين الانجليزية والفرنسية وإلى كلمة cultural في اللاتينية التي تترجم إلى العربية على أنّها الثقافة والتهذيب والحداثة وقد تأخذ معنى الحضارة، “هذه الكلمة جذرها cult ومعناها:العبادة والتدين، ومن مشتقاتها cultivation  ومعناها: حراثة، تعهد، تهذيب، رعاية، و culturalومعناها ثقافي مستولد، ونلاحظ أن معناها في الإنكليزية لا يخرج عن معناها في العربية غير أنه يضيف مصداقاً آخر من مصاديقها وهو حراثة الأرض، ورعاية الزرع، والاستنبات والتوليد، لكنه بشكل ما يربط مفهوم الثقافة بالدين والعبادة، فهما من جذر واحد، فالدين كان المنبع الأول إن لم نقل الوحيد للثقافة قديماً. وأظن أنه حتى الآن لا يزال المنبع الأساسي والمرتكز الأهم للثقافة”.17

   تناول مفهوم الثقافة العديد من المفكرين والعلماء، فتعددت تعاريف الثقافة بتعدد اتجاهاتهم وأرائهم، منهم “تايلور” الذي يعتبرها الكل المركب من المعارف والمعتقدات والفنون والأخلاق والقانون والآداب والأعراف والعادات وغيرها، يكتسبها الفرد باعتباره أحد أفراد المجتمع. و”مالك بن نبي” الذي يحددها بالصفات الخلقية وسائر القيّم الاجتماعية التي يتأثر بها الفرد طيلة حياته منذ ولاته حتى وفاته وتربط سلوكه وحياته عامة بأسلوب الوسط الذي ولد فيه. وتُعرّف الثقافة في المعجم الفلسفي “لجميل صليبا بما يلي: “والثقافة بالمعنى الخاص هي تنمية بعض الملكات العقلية أو تسوية بعض الوظائف البدنية، ومنها تثقيف العقل وتثقيف البدن، ومنها الثقافة الرياضية والثقافة الأدبية أو الفلسفية. والثقافة بالمعنى العام هي ما يتصف به الرجل الحاذق المتعلم من ذوق وحس انتقادي وحكم صحيح، أو هي التربية التي أدت إلى إكسابه هذه الصفات…ومن شرط الثقافة بهذا المعنى أن تؤدي إلى الملائمة بين الإنسان والطبيعة وبينه وبين المجتمع وبينه وبين القيّم الروحية والإنسانية وإذا دلّ لفظ الثقافة على معنى الحضارة civilisation كما في اللغة الألمانية، كان له وجهان: وجه ذاتي وهو ثقافة العقل، ووجه موضوعي، وهو…طريقة حياة الناس وكل ما يملكونه ويتداولونه اجتماعيا لا بيولوجيا…والأولى إطلاق هذا اللفظ على مظاهر التقدم العقلي وحده. تقول بهذا المعنى: الثقافة اليونانية، والثقافة العربية، والثقافة اللاتينية والثقافة المدرسية (الكلاسيكية)، والثقافة الحديثة. وتقول أيضا امتزاج الثقافات، والنشاط الثقافي، والعلاقات الثقافية، والتخلف الثقافي الخ…”.

   يتضح مما سبق أنّ الثقافة تمثل سائر المعتقدات والعلوم والمعارف والفنون والآداب والقانون والأعراف والعادات والصفات الخلقية والقيّم الاجتماعية وغيرها التي تؤثر في تكوين الفرد وفي حياته منذ الولادة حتى الوفاة باعتباره عضوا في المجتمع. والثقافة ذات طبيعة مركبة جدّا، تتعدد وتتباين بتعدد وتباين الشعوب والأمم، تتطور وتتجدد بتطور وتجدد ظروف الحياة، وتنتشر وتنتقل من جيل إلى جيل ومن مرحلة تاريخية إلى أخرى ومن جماعة بشرية إلى أخرى بواسطة اللغة وبغيرها كاتجاره والأسفار والغزو والاستعمار وغيره، وهي تقوى وتضعف وتتخلّف، وترتبط الثقافة بالحضارة وتعبّر عنها وعن مكانتها وقيمتها في التاريخ وبين الحضارات، كما تحدد الثقافة الهوية القومية أو اللغوية أو الدينية أو الطائفية أو العرقية أو الوطنية وغيرها للجماعة البشرية صاحبة الثقافة المعنية.

    تقوم علاقة الثقافة بالهوية على طبيعة ودور كل منهما في حياة الإنسان وعلى التأثير المتبادل بينهما، والهوية تدلّ وتعبّر عن ماهية وحقيقة الكائن إنسانا كان أو غيره، فردا كان أو جماعة، وتحدد المكونات والخصائص التي تميّزه عن غيره، ولا توجد في غيره ولا يوجد من دونها، والكائن المقصود هنا الثقافات والهويات الثقافية، وهي متعددة بتعدد المقومات التي تقوم عليها الهويات مثل الدين واللغة والعرق والتاريخ والماضي والمصير المشترك وغيره، والثقافة بحكم تركيبها قد تحتوي العناصر المذكورة جميعا وغيرها في انسجام وتآلف وتوحيد، وداخل الكل المركب المنسجم يوجد من العناصر ما هو جوهري وأساسي ورئيسي وما هو فرعي ومكمل وإضافي، فالهوية العربية الإسلامية تتشكل من اللغة العربية والإسلام كمقومين أساسيين وما سواهما من العناصر فهو فرعي ومكمل.

   إذا كانت الهوية تدل على الماهية والثقافة تدل على ماهية الإنسان فكريا وثقافيا وحضاريا فإنّ الهوية تدل على الثقافة وتعبر عن مكوناتها وعناصرها ومتضمنة في الثقافة فلكل ثقافة هوية وثقافة من غير هوية عدم ولا وجود لها، وبمقدار تعدد وتباين الثقافات تتعدد الهويات وتتباين، بما أنّ هوية الثقافة هي الثابت من الخصائص والمكونات لا المتحول في الثقافة المميّز لها عن غيرها من الثقافات الأخرى، ومن جهة أخرى تتصل الثقافة بالهوية اتصالا علّيا، اتصال المعلول بالعلة، فالثقافة علّة وجود الهوية، لأنّ الثقافة تصنع الهوية، ولولا الثقافة ما ظهرت الهويات الثقافية أصلا،  ففي مسعى الهوية الثقافية نجد الثقافة أسبق من الهوية، والهوية لدى بني البشر في كل المستويات تتضمن دوما الثقافة والعناصر الثقافية وتعبر عنها وعن التعدد الفكري والتباين الثقافي، والثقافة تنتج الهوية وتصبغها بخصائصها ومميزاتها وتتطور الهوية بتطور الثقافة أي تتأثر الهوية بالثقافة أي الهوية الثقافية سلبا وإيجابا، تضعف وتقوى وتتلاشى بضعف أو قوّة وتلاشي الثقافة، فالهوية الثقافية العربية في عزّ قوّتها بفعل التقدم الذي حقّقه الغرب حديثا ومعاصرا أما الهوية الثقافية العربية الإسلامية في حالة ضعف وتخلف وانحطاط، الكثير من الهويات الثقافية التي قامت واندثرت مثل الهوية الثقافية المصرية الفرعونية القديمة والهوية الثقافية الزرادشتية، وغيرها.

– نستنتج من مدلول الثقافة ومن مدلول الهوية ومن العلاقة بين الهوية والثقافة هذه العلاقة التي أنتجت مصطلح “الهوية الثقافية” على سبيل الاقتران الوظيفي في الزمان والمكان وفي إطار التحولات التي عرفها تاريخ الإنسانية منذ القديم حتى الآن، مصطلح “الهوية الثقافية” الذي يعني سائر الخصائص والمميّزات والمكونات الفكرية والاجتماعية والتاريخية التي تنفرد بها ثقافة ما، تمتلكها جماعة بشرية ما، تتميّز بها هذه الثقافة عن غيرها من الثقافات الأخرى، وتحدد ماهية الجماعة البشرية وتُميّزها عن غيرها من الجماعات البشرية الأخرى، هوية طائفية كانت مثل طوائف لبنان المعاصر، أو هوية دينية مثل الأمة الإسلامية والأمة المسيحية والأمة اليهودية والأمة البوذية في الهند وغيرها، أو هوية لغوية مثل أمم أوربا الغربية الحديثة والمعاصرة، أو هوية عرقية مثل الهويات التي تعرفها بعض بلدان إفريقيا كأوغندا وغيرها، أو هوية وطنية تقوم على الوطنية كمبدأ وفكر ووجدان وسلوك وعلى تساوي المواطنين داخل الوطن والدولة في الحقوق والواجبات وهو المسعى الذي تنشده الدول المعاصرة.

ما بين الاختلاف و الترابط والتعارض :

بعدما وقفنا بالضبط والتحديد اللغوي والاصطلاحي على المفاهيم الثلاثة الرئيسية: اللغة والهوية والعولمة، وعلى المفاهيم الفرعية المنبثقة عنها إضافة واقترانا وهي الهوية اللغوية والهوية الثقافية والعولمة اللغوية والعولمة الثقافية، وبعد الوقوف على الجدل القائم بين هذه المفاهيم في صورة معركة فكرية وفلسفية يستهدف كل طرف فيها إثبات الذات وفرض الوجود، من خلال علاقات شتى حصرتها في أربع رئيسية تقتضيها طبيعة الجدل في معركة المفاهيم وهي:الاختلاف والترابط والتعارض والتداخل.

1الاختلاف: تختلف المفاهيم عن بعضها البعض كما يلي:

اللغة: في اللغة تعني التحدث والتكلم والتلفظ والنطق أما في الاصطلاح فهي نسق ونظام من الرموز والإشارات تُستعمل للتواصل، ويقترن هذا النظام بالفكر والوجدان والاجتماع والحضارة في الإنسان. اللغة خاصية إنسانية.

الهوية: في اللغة تعني حقيقة وماهية وجوهر الموضوع وفي الاصطلاح تعني الثابت والدائم في الموضوع من خصائص ومكونات وعناصر، والمميّز له عن غيره، الموجود به الموضوع والمنعدم من دونه.

العولمة: الكلمة في اللغة تعني جعل الشيء عالميا ومنه جاء تعريفها الاصطلاحي: تعميم نموذج حضاري واحد على جميع شعوب العالم، وتنميط العالم بنمط واحد فكري وثقافي واقتصادي وسياسي واجتماعي، النمطية لها سلبياتها وإيجابياتها.

الهوية اللغوية: الثابت والدائم في لغة ما، يميّزها عن غيرها، به توجد اللغة وبدونه تغيب، ويتمسك به أصحابها ويعتزون ويفخرون. اللغة العربية لها ما يميّزها عن غيرها من اللغات الأخرى، مثل الحروف والألفاظ والاشتقاقات وعلومها… الخ.

الهوية الثقافية: الثابت والدائم في ثقافة ما تملكها جماعة بشرية ما به تتمسك وتتميّز عن غيرها. مثال الهوية الثقافية الإسلامية، الفكر الإسلامي تاريخه وجذوره، سلوك المسلم ونمط حياته، البيئة الإسلامية وما يميزها عن غيرها فكريا وسلوكيا وروافد هذا الفكر وهذا السلوك.

العولمة اللغوية: هي أن يكون للعالم أجمع لغة واحدة للتواصل والتخاطب وللتعامل في جميع مجالات الحياة سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا وتربويا وإداريا وإعلاميا. ولغة العولمة في عصرنا هي اللغة الإنجليزية لغة بلدان المركز وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية.

العولمة الثقافية:  هي أن يكون للعالم أجمع ثقافة واحدة هي ثقافة المركز والثقافات التي تتوافق معها في سائر أنحاء العالم. وثقافة المركز هي الثقافة السائدة في الولايات المتحدة الأمريكية وفي الغرب الأوروبي، وأهم ما تتميّز به هذه الثقافة المادية والبراغماتية والعلمانية والاستهلاكية والعلمية والتكنولوجية وغيرها.

2الترابط: تترابط المفاهيم المذكورة فيما بينها في عدة نقاط أهمها:

– اللغة تعبر عن نفسها وعن اللهوية بشقيها اللغوية والثقافية.

– اللغة تعبّر عن العولمة بشقيها اللغوية والثقافية وهو الدور المنوط باللغة الإنجليزية في العولمة المعاصرة.

– اللغة تنتج الهوية جزئيا أو كليا.

– الهوية قد تكون لغوية وقد تكون ثقافية وقد تكون هما معا.

– العولمة لها هويتها ولها لغتها.

– هوية العولمة تتحدد بما هو لغوي وبما هو ثقافي.

– لا تقوم العولمة من غير هوية ومن غير لغة.

– لا تقوم اللغة من غير هوية.

– لا تقوم الهوية من غير لغة.

3التعارض: تتعارض المفاهيم المذكورة في عدة نقاط أهمها ما يلي:

– الهوية واللغة تعترضان على العولمة لكون العولمة لغوية كانت أو ثقافية تقصي اللغة والهوية، وتعطل التعدد والاختلاف في الهويات والألسن وبذلك فهي تعطل سنن الكون.

– تعترض العولمة على اللغة والهوية لكونهما يفرضان الخصوصية التي تمنع انصهارهما  وانتشار العولمة.

– الهوية لغوية كانت أو ثقافية قد تنتهي إلى الانغلاق والتقوقع أمام انفتاح العولمة، ولا تسمح لأصحابها بالمشاركة في تحريك التاريخ وتحقيق البناء الحضاري.

– الثنائية أو الثلاثية اللغوية كثيرا ما تضر بتماسك المجتمع وتضر بهويته التاريخية والثقافية، فينتهي الأمر إلى الذوبان.

4- التداخل: تتداخل المفاهيم المذكورة مع بعضها البعض في عدة نقاط أهمها:

– الهوية تلازم اللغة والعولمة بصورة دائمة، للغة هوية وللعولمة هوية ولا قيام لإحداهما من غير هوية.

– اللغة تدل وتعبر عن الهوية والعولمة، كما تعبر عن نفسها، ولا تقوم أية هوية وأية عولمة من دون لغة، طبعا لغة واحدة أو أكثر

– العولمة حقيقة ثابتة وتحدّ قائم في الواقع  تتعاطى معه اللغة والهوية مدا وجزرا إيجابا وسلبا.

خلاصة:

جدل المفاهيم أو معركة المفاهيم الثلاثة (اللغة والعولمة والهوية)وما انبثق عنها من مفاهيم أخرى لها دورها في النسيج المفاهيمي والثقافي في ظل العولمة، تتحدد طبيعته ويتحدد دوره وتأثيره السلبي أو الإيجابي  بحسب تدخل الإنسان بجميع أبعاده من غير استثناء، فالأمر يتوقف بالدرجة الأولى على تفكير الإنسان وإرادته واختياراته وأخلاقه في إنتاج مواقفه من اللغة والعولمة والهوية.

لم يعد الناس مقيدين بالمواقع المكانية وأصبحوا قادرين على التفاعل خارج الزمان والمكان مع أولئك الذين يتشاركون الثقافة أو اللغة أو الدين المشترك. يمكن للأشخاص السفر حول العالم في غضون ساعات ، ولكن يمكنهم أيضًا الاتصال بالآخرين عبر الهاتف أو الإنترنت في غضون ثوانٍ. هذه التطورات في التكنولوجيا والاتصالات تغير ما يراه الناس على أنه قريب وبعيد. إن ترتيباتنا الاجتماعية والثقافية في عصر العولمة تتكيف وتغير طريقة تفكيرنا وتصرفنا.

العدد 123 / كانون الاول 2021