أولادُنا يُصادِقونَ الشّمس

الدكتور نسيم الخوري

 إلى مارك زوكربرغ

 (هذا المقال حصيلة مناقشات رصينة مع طالباتي وطلابي الذين يحضّرون لنيل الدكتوراه في علوم الإعلام والتواصل الإجتماعي، طالبوا بإهدائه إلى مارك زوكربرغ الرئيس التنفيذي لفيسبوك بعدما أعلن الخميس 28 اكتوبر 2021 عن “حصاده الجديد” بتغيير اسم فيسبوك إلى ميتا، مبشّراً بحضارة افتراضية جديدة تتجاوز تواصل البشرية الإجتماعي).

 من يرشدنا اليوم الى الحضارة أو معانيها أو هويتها أو يأخذنا إلى تلك الدولة أو مجموعة الدول التي يمكنها اختصار أو ادّعاء الحضارة؟ الكلمة لعبة أُفرغت من مضامينها وصارت وهماً معاصراً، كما صار وهماً اجترار الكلام فيها وعدم تعريتها؟

تأخذنا الأسئلة نحو استرجاع عناوين الحضارات الهندية القديمة والفرعونية وبلاد الرافدين والهيلينيّة (أفضّلها على الإغريقية) والرومانية والفارسية والبيزنطية، لنتقفّى الحضارة المسيحية الأوروبية المدموغة بحضارة الأندلس الإسلامية .

نحن، في الواقع، خارج تلك الحضارات بعدما اكتست الدنيا بالثقافات المتلاقحة. أسوق الثقافة هنا بمعناها الفرنسي أي بالمأكل والملبس والنوم وأساليب الحياة الإجتماعية المتقاربة بالشكل والعقل والفنون بين المجتمعات البشرية في عصور الفضاء وكأننا نشهد لحظات الكشوفات اللامتناهية الأولى للعالم.

نسأل: ما الفروقات بين شابات وشباب عواصم العالم سوى لحظة ابداعية ودولة؟ سؤآل رمزي مقصود ومعولم ويستفز، لكنه يخبرنا عن الكثير من التحوّلات الفردية التي تتجاوز ثوابت تاريخ الدول والأنظمة.

كيف؟  

بصرف النظر عن التوظيف المعاصر والشائع والمغرض للدين والتعصّب والتخريب المادي والفكري على المستويين العقائدي والسياسي، تتراجع الفروقات بين شرائح الشباب. أطرح هذا السؤآل وفيه شيء من التحدّي لدولنا أوّلاً كما للعديد من الكتّاب والمفكرين والإعلاميين في العالم الذين  يجلدون أنفسهم وأوطانهم وثقافاتهم الى درجة تكاد تشعر معها وكأنّ النقائص ملازمة لثقافاتهم أعني لأشكالهم.

أطرح سؤآلاً ثانياً ؟ ملذا تعني لكم كلمة حضارة اليوم؟ لا شيء على الأرجح!

 قد تعادل الموضة الحضارة، مثلاً، فنرى بدايات تمتّع كلّ طبقات البشر بثقافات تتداخل وتتقارب وتتزاوج وفقاً للزمان والمكان والإمكان هو الأهمّ ومعناه المال. تركض الأجيال نحو أوهام العصر والمعاصرة. تلك هي قوّة الظاهرة التي يتساوى فيها الصناعيون بالمستهلكين في أسواق العالم. تشتري غرضاً بمليون وتشتريه تقليداً بقرشٍ مثقوب فيبدو مقبولاً جماهيريّاً وأفضل من المليون في حركة الأسواق. يلهث الصانع اليوم خلف المستهلكين ويلعب بالسياسيين. الأغنياء أو كبار المستهلكين يفرضون ثقافاتهم عبر الشاشات على الآخرين بقدرات نفسية واقناعية هائلة. يفرضون الصناعات والتفاهات التي تروق لأذواقهم وأمزجتهم وأقيستهم ويعبرون نحو”الصناعة على القياس Sur mesure.

مثلاً، هذا الفستان لم ولن  يرتديه غيرك في الدنيا سيّدتي. هذه السيارة أو الطائرة أو اللوحة لك وحدك في الدنيا. لعبة تحوّلات فرضتها ديناميات الكساد والفساد ولم يعد مسموحاً خلطها بالثقافة. من الأفضل التفكير بإختلاط الثقافات بالحضارات الى حدود ذوبان الحضارة في مستنقعات انتاجية للشعوب وتنافس الأغنياء على تكديس الثروات.

لنقل معاً، أنّ عصر العولمة والإلكترونيات والشهرة والتواصل واليوتوب، يكنّس الحضارات عن مقاعدها العالية نحو السباحة في الثقافات المتنوّعة الغريبة والضحلة والفجّة لكنها المرغوبة والمقصودة حتّى ولو في أقاصي الأرض. هكذا تذوب الفروقات بين المجتمعات المتصالحة مع التكنولوجيا السهلة التي منحت الإنسان المعاصر حاجة الأسفار بحثاً عن الملامح الرقميّة العالمية التي لم ولن تتوقّف.

يتشكّل المجتمع العالمي الرقمي، إذن، عبر أجيال التقانيات الاتّصالية المتفجّرة أبداً. إنّها السماء المفتوحة لتعارف البشر وتصالحهم وتكثيف المشترك بينهم، خصوصاً بعدما أخفقت الأفكار والحضارات والفلسفات القديمة ثمّ الأديان وبعدها العلوم والتكنولوجيات العسكرية عن جمع شمل البشر. صارت الدنيا سوقاً أون لاين ومعرضاً يُغري البشرية تدس المحمولات تحت الوسائد حاجةً بشريةً جديدة تسابق الهواء والماء والغذاء والنوم والجنس في عالمٍ رائع من الرموز والأرقام والأصوات والنصوص والصور المكتوبة والمنطوقة تقوده الصدف والعشوائية والمشاعية ونحر الأزمنة التي كابدتها الأنظمة والمؤسسات وحشت بها المدارس والجامعات والأذهان. يشغل حراك هذه الكرة كلّ الناس المزوّدين بقدرات وطاقات إتّصالية من دون أن يكونوا أصحاب إختصاص أو كفاءة إذ غابت المعارف المعقّدة وحضرت الخبرة البسيطة لاكتساب التواصل.

قالت: كنت أذهب الى باريس أو لندن أو… فينتابني شعور بالدونية أحياناً والإشفاق أحياناً على البؤس والإنتحارات البطيئة الظاهرة في المدن الزاهية العظيمة و”المتوحشة” التي لا تنام ولا تهدأ. هذه المدن مأهولة بخليطٍ هائل من جنسيات الأرض الراكضين كما الجرذان في الأنفاق والساحات خلف لقمة الأكل. سحبونا جميعاَ ركضاً وقلقاً نحو الإتّصال بالآخر سواء أكان من جنسك أم لا مدفوعين باستبداية لذيذة لتلك الرغبات  الرقمية في الزجاجات الصغيرة المضيئة.

أمس، كان الإنسان الرقمي أو الإنترنتّي غربياً في سلوكه وملامحه، نراه في تجمعات واضحة في عواصم العالم، لكنّه صار اليوم عالميّاً يحمل هويّة متحرّكة يجوب بها العالم مستهلكاً ما تحتضنه “الفاست فود” بالماكدونالدية والشاشات العملاقة والتلويح بالأيدي الى فوق مرتدياً الجينز الممزّق ويديرأضخم الشركات بين عواصم العالم بالقمصان التي لا ياقة لها تيمّناً بأغنى البشر مثل “بيل غيت صاحب مايكروسوفت  أو مارك زوكربيرغ وغيرهما كثيرون من كلّ الجنسيات.

يبدو طموح الإنسان بمعناه الحضاري الفارغ اليوم، في الإنتساب الى هذا اللحاء البشري الجديد الساحر والمرعب، خصوصاً وأنّه إنتساب يعني في أقصى ما يعنيه، أنّه موصول بالبشرية صامتاً أو هامساً أو مهدّداً أو مفجّراً ليسمع صداه أو صدى الآخر ويفرح بالإبهامات المرفوعة.

في ضوء ما تقدّم، تنقشع الظلمات، وتنكشف مواقع الجماعات والشعوب وأولادنا بين من هو مسترخٍ بعد على ضفاف الأرض ومن يسابق الشمس أو يُصادقها وقد باتت وكأنّها لا تغرب على الإطلاق بالمعنى التواصلي والإبتكاري التحديثي في مختلف المجالات. حضارة التحوّلات الهائلة التواصلية وأجهزة الإتصال الشبابيّة التي لا حدود لآفاقها وإبداعاتها وأجيالها في إختصار رقعتي الأرض والفضاء ملعباً للأجيال تُعلّق بأعناقها الهويّات المائعة.

العدد 123 / كانون الاول 2021