وتتابع الأعوام

نافذة على الحياة.

يستعد العالم لوداع عام واستقبال آخر جديد، رغم ان الحدث لا يشكل اهمية تذكر لدى بعض الناس وانا منهم، فتلك اللحظة الزمنية التي تعلن انتهاء عام وبدء عام جديد غالبا ما تمر مثلما تمر سواها من اللحظات الاخرى وقد لا يشعر بمرورها الكثيرون. الحياة تستمر على نفس منوالها بالنسبة الى الكثير من الناس، فلا ينقلب الحال من الشدة الى الرخاء بمجرد مرور تلك اللحظة التي تعلن مع دقات ساعة منتصف الليل بزوغ عام جديد.

عادة ما يبدأ الاحتفال باستقبال عام جديد عشية يوم الحادي والثلاثين من شهر كانون الاول (ديسمبر)، ويستمر حتى الساعات الاولى من اليوم التالي، الا ان استقبال الاعوام الجديدة بالاحتفال ليس تقليدا حديثا، فقد مارسه الانسان منذ القدم، وأقدم ما هو مسجل عنه لدينا حاليا يعود تاريخه الى اكثر من اربعة آلاف سنة، حيث احتفل البابليون القدماء باستقبال اعوامهم الجديدة و التي كانت تبدأ مع ظهور اول هلال بعد يوم الاعتدال الربيعي الذي يتساوى فيه عدد ساعات الضياء مع عدد ساعات الظلام. ذلك الهلال لدى البابليين كان يمثل اعلان قدوم عام جديد فيبدأ حينها احتفال اكيتو وهو احتفال ديني كبير كان يستمر لاكثر من عشرة ايام تتعد خلالها الطقوس التي كانوا يمارسونها فلكل يوم من ايام العيد طقوسه الاحتفالية الخاصة.  اكيتو هو اسم الشعير باللغة السومرية، اتخذها البابليون تسمية لطقوس احتفالهم باستقبال كل عام جديد حيث تزامنت تلك الاعياد مع موسم حصاد الشعير في الربيع. كذلك كانت اعياد اكيتو مناسبة لتتويج اي ملك بابلي جديد.

غالبا ما حدد الانسان في مختلف حضارات العالم القديم بدايات الاعوام الجديدة وفقًا لأحداث فلكية او ربطها بمواسم الزراعة والحصاد وما يتعلق بهما من ظروف طبيعية. فيضان نهر النيل على سبيل المثال كان يؤشر بداية عام جديد لدى قدماء المصرييين، كان ظهور نجم الشعرى في فصل الصيف ينبئ ببدء فيضان ذلك النهر العظيم الذي شكل عصب الحياة للمصريين القدماء والمورد الاول لارزاقهم، فكانت حياتهم تعتل ويصيبها الضرر ان تأخر الفيضان او زاد عن حده.

تألفت السنة الرومانية القديمة من ثلاثمائة واربعة ايام موزعة على عشرة اشهر، وكانت كل سنة جديدة تبدأ مع الاعتدال الربيعي، ثم أضاف اليها احد الملوك شهرين هما الاول والثاني في تقويمنا الحالي. ظلت السنة وفقا للتقويم الروماني لا تتوافق مع دورة الارض الكاملة حول الشمس مما كان يؤثر على مختلف المواقيت؛ فلا يحل موسم الحصاد مثلا في نفس التاريخ من كل عام. استمر الحال كذلك حتى عهد الامبراطور يوليوس قيصر الذي اوعز عام ٤٦ قبل الميلاد الى كبار علماء الفلك والرياضيات انذاك الى التفكير في ايجاد حل لتلك المشكلة، فكانت النتيجة تقويما مقاربا الى حد كبير الى التقويم الشمسي المستخدم في الكثير من بلاد العالم هذا اليوم.

اختار يوليوس قيصر اليوم الاول من جانيوري (كانون الثاني) بداية لكل عام جديد، تكريما للاله جانوس الذي اشتق اسم الشهر من اسمه. الاله جانوس كان اله البدايات في الاساطير الرومانية القديمة، و كان له وفقا لتلك الاساطير وجهين احدهما ينظر الى المستقبل و الاخر ينظر الى الخلف او يواجه الماضي دوما. كان احتفال الرومان باستقبال السنة الجديدة انذاك يتضمن تقديم النذور و القرابين الى الاله جانوس، و تبادل الهدايا بينهم و تزيين منازلهم بأغصان الغار مع اقامة حفلات صاخبة.

حاول بعض كبار رجال الكنيسة في العصور الوسطى في اوروبا استبدال يوم بداية السنة الجديدة بيوم آخر له اهمية دينية، فاتخذوا ولو بشكل مؤقت يوم الخامس و العشرين من شهر ديسمبر؛ يوم ولادة السيد المسيح، تاريخا لبدء كل عام جديد، و كذلك يوم الخامس و العشرين من شهر آذار وهو عيد البشارة حيث بشر جبريل السيدة مريم بالمسيح. استمر الحال كذلك حتى اعاد البابا غريغوري الثامن يوم الاول من كانون الثاني تاريخا لبداية كل عام جديد، و كان ذلك عام ١٥٨٢.

كان الانسان قديما يربط الكثير او ربما كل الاحداث في حياته، المهمة منها و الاقل شأنا، بالآلهة و عوالم الغيب، فكان الاحتفال بقدوم سنة جديدة يحمل قيمة روحية كبيرة، و لا اشك ان الانسان حينذاك كان يمارس طقوس الاحتفال بصدق و عمق ايمان طلبا لرضا الالهة لاجل دوام الخير و استمرار الرفاهية في الحياة و دفعا للكوارث الطبيعية و الشر الذي قد يحل مع غضب الالهة. الحال يختلف مع الانسان المعاصر طبعا، فالتطور العلمي يقدم الينا في غالب الاحيان الاسباب الحقيقية لما يحصل في الطبيعة، فطفلنا الان يفهم اسباب وقوع الزلازل و انفجار البراكين، و يدرك ان ذوبان الثلوج المتراكمة على الجبال في الربيع يرفع مناسيب المياه في الانهار مما يسبب فيضانها احيانا. صار بامكان الانسان الان الذهاب في رحلة سياحية الى الفضاء. كل ذلك افقد المجهول الكثير من الرهبة التي كانت تلفه، فلم تعد الكواكب و النجوم و الاحداث الطبيعية آلهة تُعبد او انها تسير بحكم الالهة.

رغم ان التطور العلمي خدم الانسانية الى ابعد الحدود، فصار الانسان يعيش لسنوات اطول متمتعا بصحة افضل، و زال الكثير من الخوف الذي كان يشعر به حيال المجهول، لكنه من ناحية اخرى افقدنا الكثير من الدهشة التي لا اشك ان الانسان كان يشعر بها عندما يستجيب الاله لدعائه فينزل المطر او يفيض نهر، تلك الدهشة التي كانت تدفعه لممارسة طقوس الشكر و العرفان.

لا يزال الكثيرون يحتفلون باستقبال العام الجديد، و لكن يبدو لي انه احتفال لمجرد الاحتفال، تحول العيد الى مناسبة تجارية يتبارى فيها التجار بتقديم بضائعهم للمستهلكين، و لا ادري ان كانوا يشعرون بالدهشة او العرفان ان حققوا أرباحا كثيرة! و لكن رغم ذلك فالاحتفال بقدوم السنة الجديدة تقليد سائد في يومنا هذا لا املك حياله الا ان اقدم اليكم التهنئة و ارجو لكم عاما سعيدا مكللا بالخير و الرفاه والبركة.

العدد 123 / كانون الاول 2021