هل تؤسس ازمة نهر النيل لقواعد جديدة في تقاسم المياه؟

  الصراع هو القانون الحاكم الأزلي في هذا العالم،تلك هي الحقيقه المجرده في ذلك الكوكب،مع الاقرار  

بتعدد انواع ذلك الصراع،وتفاوت حدته،عبر زمانه ومكانه،فالحروب التي شهدها التاريخ عبرمسيرته الطويله ،لم تكن ناشئة من فراغ،وكل حرب نشبت اواندلعت كانت لها باليقين اسبابها الموضوعية، حتى وان تلازمت مع اندلاعها البيانات او التصريحات المصاحبه التي تتسم بالنوايا الطيبه او الخيرة، او تعبر عن شفافية التدخل ،ومبررات الغزو ،كما شاهدنا في الغزو الفرنسي لمصر عام 1798 ،او تذكرنا الغزو البريطاني لمصر عام 1881،وكل تلك البيانات والتصريحات التي صدرت في تلك الازمان تنفي تماما اي اطماع للدولتين في الاراضي المصريه ،ثم مازال الغزو الامريكي للعراق عام 1991 ساكنا في ذاكرتنا بل و في وجداننا ، فقد اعلن انه وقع من

سد النهضه

اجل تخليص العراق والعالم من اسلحة الدمار الشامل التي انتجها نظام صدام ،وفي النتيجه لم يعثر على اي سلاح ،وكانت كذبة دولية فاضحه .وكانت الحقيقة المرعبه  هي الرغبة في تدمير النهضة التي شهدها العراق، وتجريده من كل تقدم حققه،بل والعودة به الى العصر الحجري،والعبث بتراثه التاريخي ان لم يكن بتمزيقه  .  ونذكر قبل ذلك مؤامرة عام 1956 على مصر، ثم حرب عام 1967 ، كلها حروب تضمر اهدافا محددة ومكاسب لدول العدوان ، ولكنها دائما ايضا مغلفة  بدواعي تدغدغ العواطف وتلتحف بالأمان والرغبة في تعزيز قواعد السلام . يقينا ليست هناك حربا عبثية،كما لا توجد هناك حرب ،كان يمكن تلافيها ،وان كان ثمن الحرب كبيرا، كما خبرنا وعاصرنا ،فالسلم ايضا ليس بضاعة رخيصة أو هينه ،فهو على الاقل في حاجة الى قوة وبأس ليحميه، ويرسي دعائمه،ويرد كيد المغامرين والطامعين معا  .

 مشكلة المياه

المياه هي الحياة ،وهي اكثر من كونها  مجرد عنصر اساسي لأستمرارها ،ولا يمكن تصور وجود نبض على وجه الارض دون وجود المياه،فهي ضمان وجود كل الكائنات الحية، الانسان والحيوان والنبات ،لذلك فان كان الجنوح للأستحواذ علي المياه بتأميم المصادر او الينابيع  يشكل حافزا عند بعض قادة الدول ،فان الذود عنها بالمقابل لا بد أن يكون جارفا الى حد الأستشهاد من اجلها عند القادة الآخرين ، فالمياه قضية وجود ، وهي ادعى واقوى من كونها قضية حدود . ولقد طرحت على العالم منذ اكثر من عقدين من الزمان قضية اخرى اثارت جدلا ان لم يكن ارباكا ،وهي قضية ( تغير المناخ ) وما يمكن أن يحمله في تأثيراته على مشكلة المياه، وقد أثار ذلك العديد من المخاوف ،فنقص المياه ،يمكن ان يترجم الى توفر الأسباب والدواعي لأشتعال الحروب، فالخيارات امام تلك الأزمة محددة .والمشكلة في العالم العربي أن مصادر المياه العربيه تتمثل في الانهار الكبيرة التي تنبع او تمر في دول غير عربيه ،والمثال على ذلك نهرالنيل بمنابعه الأثيوبيةوالأوغندية ،ونهر دجلة بمنابعه في تركيا وايران ،ونهر الفرات بمنابعه التركية( أعلن وزير الموارد المائية العراقي، مهدي رشــيد الحمداني، أن الزيارات المســتمرة إلى تركيا أسفرت عن نتائج إيجابية منها دخول مذكرة التفاهم التي وقعت عام 2009 حيز التنفيذ، ومن أهم بنودها إعطــاء حصة عادلة للعراق من المياه، وهذا جهد لم يتحقق منذ اربعين عاما) ،ثم نجد نهر الأردن ومنابعه الخاضعة للسيطرة الصهيونية في اسرائيل .لذلك توالت علينا تلك الازمات التي تتعرض لها بلداننا، تحمل معها الكثير من المخاطر،فهي بالتأكيد سوف تجعل كل خطط التنمية الأقتصادية مقيدة الى حد كبير بتوجهات تلك الدول التي تنبع منها هذه الانهار،وهو هاجس يتردد الآن في العديد من المحافل الدولية بما فيها مجلس الأمن ،حين عرضت عليه الحالة المصرية السودانيه ،وتكرار مقولة وزير الخارجية المصري (ان مشكلتنا مع التعنت الأثيوبي مشكلة وجودية في المقام الاول ).

نزاعات مائية تشكل ازمات دوليه

لم يكن (سد النهضة) هو النزاع الاول الذي ينشب بين الدول بسبب السدود المائيه التي تقام على مجرى الانهار العابره للحدود ،ومحاولة تحويل النهر الدولي الى نهر محلي ،فقد تم رصد الكثير من مثل تلك المحاولات التي شكلت نوعا من الازمات الدوليه منها أزمة حوض نهر السند التي نشبت بين الهند وباكستان عام 1948 وذلك بسبب مياه الري في اقليم كشمير المتنازع عليه بين البلدين وقد

استغرق حسم النزاع 12 عاما من المفاوضات تحت رعاية البنك الدولى، تم بعدها التوصل إلى اتفاقية نهر السند عام 1960.منها كذلك النزاع فى إقليم صحراء أوجادين بين إثيوبيا والصومال بين يونيو عام 1963 ومارس عام  1964 والذى امتد منذ  ان تم وضع موانع بين البلدين عام 1948 على خلفية مناوشات حدودية،أدت إلى ترك جانب من البدو الصوماليين تحت حكم الحبشة. يضم الإقليم موارد مائية هامة، فضلا عن الموارد النفطية التى لا يجهلها طرفا النزاع. وقد لقى بضع مئات مصرعهم فى تلك الأزمة، حتى تم التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار .منها كذلك النزاع بين السنغال وموريتانيا خلال الفترة من إبريل 1989 ويوليو 1991 حول الحقوق المائية فى نهر السنغال نشبت  المعارك بين مدنيين من الطرفين ولقى المئات من الفلاحين المقيمين فى القرى الحدودية

وزير الخارجية المصري

مصرعهم، حتى تدخلت القوات المسلحة فى البلدين لاستعادة النظام، وعادت العلاقات الدبلوماسية بين الدولتين فى عام 1991. كذلك النزاع بين روسيا واوكرانيا، بعد ان قام الاتحاد الروسي في مارس 2014 بضم شبه جزيرة القرم بعاصمتها (سيمفروبول) حيث كانت جزءا من الأراضي الاوكرانية منذ عام 1954 ضمن الاتحاد السوفيتي ،واصبحت الآن( منطقة القرم الاتحادية) ،لذلك قامت اوكرانيا باغلاق قناة شمال القرم المتفرعة من (نهر دنيبر) مما كان له اثره في خسائر جمه لقطاع التصنيع الزراعي في منطقة القرم تجاوزت( 200 مليار روبل ) بما يوازي( 2.7 مليار دولار) وفق التقديرات الصادرة عن وزارة الزراعة في منطقة القرم نتيجة لتقلص الاراضي الصالحة للزراعة والتي هبطت من مقدار  130الف هكتارعام 2013 الى 14 الف هكتار في السنة التاليه . فى المقابل يحكم تنظيم وتقسيم المياه ما يزيد على 3600 معاهدة واتفاقية (149 منها تم توقيعه فى القرن العشرين وحده) الأمر الذى يبرز أهمية الحلول السلمية فى التعامل مع الأزمات المائية. كذلك فإن الصراعات الدولية العنيفة المحدودة التى نشبت بسبب المياه العذبة لم تحسم بالحلول العسكرية، وإن كانت الأدوات العسكرية قد ساهمت فى تحريك عدد منها، وحفز المجتمع الدولى للوساطة لسرعة إنهائها.                                              

بيان اعلان المبادئ ونصوصه ومدى تكامله

ينبغي ان نطرح سؤالا في البداية،هل كانت الصيغة التي خرج بها اتفاق واعلان المبادئ حول مشروع سد النهضة ، هي اساس الالتباسات والمشاكل التي حدثت بعد ذلك بين مصر والسودان من ناحية باعتبارهما دول المصب واثيوبيا من جانب اّخر باعتبارها دولة المنبع،وأن الأمر كان يحتاج الى اتفاق مشروط وملزم ،ونصوص تدقق في كل التفاصيل، بحيث لا تقود الى اي اجتهاد او تفسير مخالف.للرد على هذا السؤال يمكن التأكيد على ان اي نصوص مهما كانت دقتها في التعبير،فانه من الممكن اختلاق رؤى اخرى للنصوص ،مادامت النوايا ليست خالصه ،لا سيما ان سد النهضة يقع في الاراضي الاثيوبيه،وليس خارجها في اي ارض محايده.فموقع السد يكسب اثيوبيا قوة طبيعية ابتداء.ثم نأتي

الى صياغة البيان والنصوص التي اقرها،فنجد انها مفصلة في اطار مجموعة من القيم اللازمة لدول متجاورة يجمعها الجوار الجغرافي ،والانتماء القاري،والمؤسسة الجامعة التي يمكنها ان تدير حوارا لفض الخلافات ان جدت،أو حتى اطلت بظلها وهي (الاتحاد الافريقي) الذي خلف ( منظمة الوحدة

ا الافريقية )وكانت الاهداف التي بنيت عليها:دعم حركات التحرر الأفريقية، والوساطة في النزاعات الحدودية والحروب الإقليمية والمدنية،والبحوث في الاقتصاد والاتصالات ،وتعزيز التضامن بين الدول الأفريقية والقضاء على الاستعمار في أفريقيا كما ان الديباجة التي استهلها البيان كانت نصا كالآتي تقديراً للاحتياج المتزايد لجمهورية مصر العربية،جمهورية أثيوبيا الفيدرالية الديمقراطية،وجمهورية السودان لمواردهم المائية العابرة للحدود؛وإدراكا لأهمية نهر النيل كمصدر (الحياة) ومصدر حيوي لتنمية شعوب مصر وإثيوبيا والسودان؛ألزمت الدول الثلاث

رئيس الوزراء الاثيوبي

أنفسها بالمبادئ التالية بشان سد النهضة: وكلها تنص على التعاون وعدم التسبب في ضرر ذي شأن،والاحتياجات الاجتماعية والاقتصادية ،بالأضافة الى النص على عامل السكان بالتالي ( السكان الذين يعتمدون علي الموارد المائية في كل دولة من دول الحوض؛).النصوص واضحة وصريحه،ولكن النوايا والأهداف لدي الطرف الأثيوبي ،كانت مغلفة ،وتضمر كما شاهدنا وعاصرنا مرام وتطلعات لاتتسم بالشفافية المرجوة او المطلوبه .

احتمالات الوضع الراهن في حوض النيل

كانت التصريحات الصادرة عن بعض المسؤولين الاثيوبيين منذ ان بدأ السد في الارتفاع لاتشي بنوايا طيبه ،ومن تلك التصريحات ان الاتفاقات المبرمه قبل ذلك بشأن نهر النيل تمت في عصور استعماريه ،والواجب الآن تصحيحها ،علما ان اثيوبيا لم تتعرض الى اجتياحات استعماريه الا في الفترة من عام

1935 الى عام1941حيث قامت قوات إيطاليا الفاشية بغزو أثيوبيا، واطاحت بحكم الامبراطور هيلا سيلاسي وضمت البلاد الى ايطاليا قبل ان يتمكن البريطانيون وقوات الكومنويلث وقوات المقاومة الأثيوبية من طردهم منها، يضاف الى ذلك ادعاءات وزير الري الاثيوبي ان نهر النيل اصبح نهرا اثيوبيا  متناسيا قانون الأمم المتحدة لمياه الأنهار الدولية العابرة للحدود لعام 1997 والذى حدد الملكية المشتركة للأنهار العابرة للحدود،حتى وان كانت اثيوبيا هي دولة المنبع للنيل الازرق الذي يغذي نحو 86% من المياه التي تجري في نهر النيل. يقول الدكتور نادر نور الدين استاذ الموارد المائية في جامعة القاهرة أنه طبقا لقانون الأمم المتحدة لمياه الأنهار العابرة للحدود، فالحصص ترتبط بوجود مياه أخرى تستفيد منها دولة المنبع، حيث هناك أحواض لستة أنهار إثيوبية أخرى بخلاف أنهار النيل الثلاثة، وتعطى لإثيوبيا وفرة مائية تغنيها عن أى احتياجات لمياه النيل الأزرق الذى يجرى بين جبال

الباحث الاكاديمي الدكتور نادر نور الدين

وأخاديد عميقة للغاية، وكأن الخالق والطبيعة يحميانه من الأطماع الإثيوبية،ومع ذلك فقد انتظروه على الحدود مع السودان قبل أن يغادر مباشرة من أجل تعمد إحداث الضرر بالجار، وهى مخالفة بحد ذاتها يجرمها القانون الدولى، وهدد البنك الدولى بتطبيقها عام 2010 إذا امتنعت الدول المصدرة للقمح من حجبه عن الدول الأخرى أثناء أزمتى الغذاء العالميتين الأولى والثانية، فحتى فى أشد الأزمات لا ينبغى للإنسانية أن تسمح لأحد بأن يتناسى جيرانه ويتعمد الإضرار بهم. فلو تخيلنا أن إثيوبيا سوف تخزن من كل حوض من أحواض أنهارها التسعة 70 مليارا مثلما تريد من مياه النيل الأزرق، فإن هذا يعنى أن هذه الدولة تريد تكوين مخزون هائل من المياه على أراضيها، وهذا ما لا ترتضيه الدول المتشاطئة مع إثيوبيا فى باقى الأنهار مثل كينيا والصومال وجيبوتى والسودان ومصر.

هل تؤسس ازمة نهر النيل لقواعد جديده ..؟

لجأت مصر والسودان لمجلس الأمن، لحل تلك القضية التي يمكن ان تتفجر مع تداعياتها منطقة الشرق الاوسط وكذلك القرن الافريقي، لكن القوى الكبرى في المجلس لها حساباتها الخاصة مع الانهار،ولذلك ارتأت ان مجلس الامن وقواعد قضاياه لا يتعرض للقضايا الخلافية التي يمكن ان تحل عن طريق التفاوض ،ولكن الامر- بعيدا عن مجلس الامن –  بالتأكيد سيختلف لو حدث الاشتباك بعد ان استنفذت المفاوضات اغراضها خصوصا بعد عشر سنوات من الطرح والعرض والتفاوض الصعب بحيث تحول  الحوار الى مجرد جدل عقيم .لقد طرحت مصر القضية بأنها (قضية وجود )،وأن(الحياه) قضية لاتحتمل الجدل فماذا بوسع مصر ان تفعل ،بعد ان صدت اثيوبيا كل المحاولات والنداءات ،ولقد طافت مصربكل المؤسسات الدوليه عبر منابرها الدولية والاقليمية ،ولم يعد في الامكان عمل شيئ سوى اللجوء الى (الأختيارات المفتوحه) . ويسترعي الانتباه تصريحات وزير الري المصري مؤخرا وقوله (إن الوزارة تعمل على جميع الاحتمالات الخاصة بسد النهضة ، بإنشاء بنية تحتية حول السد العالي في أسوان لاستيعاب كميات كبيرة من المياه تصل إلى بحيرة ناصر فى وقت قصير من  سد النهضة . وأشار وزير الري خلال فعاليات اليوم الثالث لأسبوع القاهرة للمياه، إلى أن البنية التحتية التي تسعى الحكومة لإنشائها حول السد العالي، تراعي كذلك احتمالية عدم وصول المياه إلى بحيرة ناصر في الوقت المحدد،مضيفا لذا فنحن كوزارة نستعد لكافة المخاطر  وكان وزير الري حذر خلال مقابلة تلفزيونية قبل أيام من أن “انهيار سد النهضة  سيشكل مشكلة كبيرة نتمنى ألا تتحدث”، مؤكدا أن بلاده لديها إرادة سياسية وجاهزة للتفاوض وفقًا لآليات محددة معلنة للجميع بمدة تنفيذ وتفاوض محددة ووجود مراقبين دوليين؛ لوضع كل شخص أمام مسؤولياته.ان الوضع اصبح قابلا  للانفجار ،فمصر والسودان لا يملكان التفريط في مبدأ ( الحياة) لشعوبهم ،ومصر ان كانت تنشط الآن في ميدان الحصول على مياه اضافية من خلال تحلية مياه البحرأو اعادة التكرير لمياه مستهلكة من قبل فهي لا تسعي الى ذلك تعويضا عن حقوقها المائيه التي تريد اثيوبيا مصادرتها ،ولكن لأن مصر بالفعل دولة فقر مائي ،وتعدادها السكاني يتزايد ،ولا يكفي لسد حاجتها الحصول على حصتها المقررة سلفا في مياه النيل ،ولذلك وهي تجتهد لتوفير قدر اّخر من المياه ،وان اصرت اثيوبيا على موقفها المتعنت ،فكل الخيارات ستظل مفتوحة ،وبمافيها العمل العسكري. ان تكلفة الحرب عاليه ،ولكن ايضا السلام ليس رخيصا،،والبحث عن الاستقرار يظل مطلب الجميع ،وحتى  يمكننا ان نوفر الاستقرار،فعلى المجتمع الدولي ان يرعى شروط الاستقرار، بأن يدعم الحقوق المشروعه قبل ان تقع الواقعة ،ومن ثم يعود للتفكير بفرض حلولا  مناسبة تتكافئ مع القواعد المؤسسه للسلام الحقيقي بين الشعوب

أمين الغفاري

العدد 123 / كانون الاول 2021