أوميكرون والتضخم وتنامي الديون خناجر في قلب التعافي

الاقتصاد العالمي لن يعود إلى طبيعته في 2022

هلا صغبيني

أفل العام 2021 ولم تأفل معه التصدعات التي خلّفها فيروس كورونا على الاقتصاد العالمي والتي يبدو أنها ستتعمق مع ظهور سلالة أوميكرون الجديدة من فيروس كورونا سريع التفشي. فالتوقعات كانت تشي بتحقيق إنتعاش بعد التوصل إلى لقاحات مضادة تعيد الحياة إلى القطاعات الاقتصادية المشلولة وتفعّل معدلات النمو الاقتصادي بعد أكثر من عام ونصف على إعلان حالة الوباء العالمية لتفشي الفيروس في مارس (آذار) من العام 2020. إلا أنّ حسابات الحقل لم تتطابق مع حسابات البيدر. فكل ما توقعته المؤسسات المالية الدولية لاسيما صندوق النقد والبنك الدوليان، لم تتحقق تماماً كما كان مأمولاً منه، لأسباب عديدة نفصّلها أدناه.

آفاق إيجابية واسعة استُشرفت في العام 2021 بعد البدء التدريجي للتعافي من جائحة كورونا التي تسبّبت بدمار هائل للاقتصاد العالمي نتيجة تقييد السفر والإنتاج في العالم وخنق سلاسل التوريد وزيادة معدلات البطالة. إذ كان يُتوقع أن يشهد الاقتصاد العالمي التعافي الأقوى في 2021 بعد كساد عميق. لكنّه لم يتمكن من تجاوز صدمة كورونا على رغم التقدم المحرز في مواجهته من خلال العمليات المكثفة للتلقيح. فالمراجعات الاقتصادية الأخيرة للعام الماضي عكست

الارتفاع الكبير للأسعار سيهدد تحسن النمو والتعافي

انحداراً، وإن طفيفاً، في تصنيف الاقتصادات المتقدمة والناشئة، ما جعل مسار التعافي المرجو أكثر اضطراباً – لا سيما في ظل التباطؤ الحاصل في الولايات المتحدة والصين تحديداً – ومحفوفاً بعدد من المخاطر التي تهدد بأزمات اقتصادية جديدة على المدى القريب.

العام 2020 كان الأسوأ اقتصادياً من عقود طويلة نتيجة كورونا، حيث تم تسجيل انكماش حاد بلغ 3.5 في المئة وفق صندوق النقد الدولي. وهو ما دفع بالحكومات وبمصارفها المركزية الى إطلاق برامج تمويلية تحفيزية واسعة من أجل دعم الأسر المحظورة من الخروج من منازلها والشركات المتوقفة عن العمل، ما ساهم في تحفيز الطلب الاستهلاكي العائلي وفي تحقيق نمو إيجابي عالمي. لكن هذه التطورات الإيجابية لم يصاحبها نمو في العرض نتيجة زيادة الطلب في الولايات المتحدة والعالم، ومع اضطرار العديد من القطاعات الى الإقفال مجدداً جراء الموجات المتتالية لفيروس كورونا ومتحوراته. وهو ما خلق حالة من عدم التوازن بين مسألتي الطلب والعرض، حيث القدرات الانتاجية غير ملائمة للطلب المرتفع مقابل نقص كبير للأيادي العاملة خلقته الحوافز السخية التي وفرتها الحكومات للموظفين والعاملين مقابل مكوثهم في منازلهم.

وكان من الطبيعي أن يتسبب هذا النقص في العرض والطلب الاستهلاكي المرتفع بعد إنفاق آلاف مليارات الدولارات على شكل حزم تحفيز ضختها الحكومات والمصارف المركزية لمواجهة تداعيات كورونا، في ارتفاع خيالي لمعدلات التضخم. إذ بلغ في الولايات المتحدة ذروته متجاوزاً نسبة الـ6 في المئة على أساس سنوي، وهي نسبة لم تسجل طوال العقود الثلاثة الماضية منذ العام 1990. والسبب الأساسي في زيادة أسعار السلع والخدمات هو ارتفاع أسعار الطاقة. كذلك الأمر في الصين، ثاني اقتصاد عالمي، والتي تواجه خطر ركود تضخمي مع استمرار ارتفاع الأسعار في مقابل تباطؤ الإنتاج الذي تدنى مؤشره إلى أدنى مستوى منذ نشره عام 2005 وارتفاع مؤشر سعر الإنتاج إلى أعلى

طفلة تحمل تحمل قوارير مياه في احدى الدول النامية التي تعاني عبئاً من الديون

مستوى منذ نشره عام 2016. وفي منطقة اليورو، بلغ التضخم ذروته نهاية العام 2021 متخطياً عتبة الـ4.2 في المئة وهو ما يزيد على التوقعات السابقة البالغة 3.6 في المئة.

التضخم يقوض النمو المرجو

في العام 2022، تتجسد مخاطر حدوث المزيد من تسارع التضخم مع استمرار اضطرابات العرض وارتفاع الطلب لفترة أطول من المتوقع. وبالتالي، من غير المتوقع أن يعود الاقتصاد العالمي، إلى طبيعيته في 2022 في ظل استمرار هيمنة العديد من المشكلات عليه والتي تحول دون تعافيه من ضربة كورونا.

وقد أدى ظهور متحور أوميكرون إلى زيادة عدم اليقين حول الآفاق الاقتصادية العالمية بشكل حاد، بحيث بات سبباً رئيسياً لخفض التوقعات كما حصل مع مصرف “غولدمان ساكس” مثلاً الذي خفّض توقعاته للنمو الاقتصادي في الولايات المتحدة في 2022 إلى 3.8 في المئة مقارنة بتوقعاته السابقة بأن يصل النمو إلى نحو 4.2 في المئة على أساس سنوي. وكتب محللو “غولدمان ساكس” في توقعاتهم العالمية: “كانت المفاجأة الكبرى عام 2021 هي ارتفاع التضخم”. فالمعدلات المرتفعة التي بلغها التضخم جاءت أعلى بكثير من أهداف سياسات الدول النقدية.

ومشكلة التضخم المتوقع استمرارها طويلاً، خطيرة على رغم أن المسؤولين عن السياسات المالية والنقدية الاقتصاديين كانوا يؤكدون أنه سيكون مؤقتاً. وهو ما حصل فعلاً في 2021. فرئيس الاحتياطي الفدرالي جيروم باول المجددة ولايته، أكد مراراً أن التضخم سيكون مؤقتاً وأن مشكلات التوريد ستخف كثيراً، وأن العمال في الدول الغنية سيعاودون مهامهم، وأن أسعار الطاقة ستنخفض. لكن هذا المشهد لم يتحقق. فباول أقر مع نهاية العام أن الوقت قد حان لإسقاط هذا المصطلح لدى توصيف الارتفاع في الأسعار. فيما دعاه صندوق النقد الدولي إلى التركيز بدرجة أكبر على مخاطر التضخم.

وقد أدركت العديد من المصارف المركزية في العالم خطورة التضخم واتخذت خطوات لمواجهته عبر زيادة معدلات الفائدة، على رغم أن وقع هذا الاجراء على لجم التضخم ليس فورياً بل هو عملية منسقة تتطلب حوالي العام لتلمس انعكاساتها. فقد رفع أكثر من 12 مصرفاً مركزياً أسعار الفائدة كالنروج، والبرازيل، والمكسيك، وكوريا الجنوبية، ونيوزيلندا. إلا أن الفدرالي الاميركي والمصرف المركزي الاوروبي لم يقدما على ذلك وآثرا إبطاء وتيرة برنامج شراء الأصول من دون البحث في مسألة الفائدة راهناً (والتي يتوقع أن ترتفع في 2022). أما المصرف المركزي البريطاني الذي كان محافظه واضحاً في إرساله إشارة مفادها أن “مصرف انكلترا” يستعد لرفع أسعار الفائدة للمرة الأولى منذ بداية أزمة فيروس كورونا مع تصاعد مخاطر التضخم، فقد فاجأ الأسواق بإبقائه معدل الفائدة عند نسبتها لمنخفضة (0.1 في المئة) مع إشارته في المقابل إلى احتمال رفعه في الأشهر المقبلة لتخفيف مستوى التضخّم في المملكة المتحدة.

لاشك أنّ مخاطر ارتفاع معدلات التضخم كبيرة جداً كونها تمثل تهديداً جدياً لمسار التعافي الاقتصادي العالمي. فارتفاع الأسعار، لاسيما أسعار المدخلات الصناعية والطاقة والمواد الخام، سيتسبب في تراجع الطلب العالمي، وبالتالي النمو الاقتصادي المرجو تحقيقه في الدول المستوردة لها. أما في الدول الزراعية، فسيؤدي ارتفاع أسعار الطاقة الى إرتفاع في أسعار السلع الزراعية، ما يهدد بنشوء أزمة أمن غذائي حادة.

ولكي يستعيد الاقتصاد العالمي بعض عافيته، يحتاج المستهلكون إلى إنفاق المزيد من أموالهم الوفيرة المتأتية من الرزم التحفيزية شديدة السخاء، على الخدمات. لكن هذا أمر متعذر حصوله راهناً. فاستعادة القطاعات الخدمية حياتها يحتاج الى يد عاملة ناقصة اليوم بفعل استمرار العمال في إجازاتهم التي فُرضت عليهم خلال انتشار وباء كورونا.

هل سنواجه أزمة ديون؟

كذلك، تبرز مشكلة لا تقل أهمية عن مشكلة تنامي التضخم لا بل توازيها. وهي تلك المرتبطة بالنمو الكبير لحجم الديون والتي يصفها الامين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش بأنها “خنجر في قلب التعافي العالمي”. ومن المتوقع أن تتفاقم الديون في العام 2022 مع سلوك خيار زيادة معدلات الفائدة والتي ستزيد بالطبع من المخاطر المرتبطة بارتفاع مستوى الديون.

وقد فاقمت هذه المشكلة من المخاطر التي تعانيها أصلاً الدول النامية. إذ أدت إلى تراجع كبير في احتياطاتها من العملات الأجنبية،كما إيراداتها من النقد الأجنبي المتأتية من مصادر متعددة كالتصدير والاستثمارات أو الايرادات المتأتية من قطاع السياحة. وهو ما دفع بها إلى اللجوء الى مزيد من الاقتراض الخارجي لتمويل موازينها التجارية أو لسداد التزاماتها القائمة.

يقول البنك الدولي في أحدث تقرير له عن “شفافية الديون في الدول النامية”، إنّ الديون في اقتصادات الأسواق الناشئة والبلدان النامية قفزت إلى مستوى قياسي منذ تفشي جائحة كورونا وارتفعت بنسبة 12 في المئة لتصل إلى 860 مليار دولار عام 2020، وإنّ 44 في المئة من البلدان منخفضة الدخل تواجه من مخاطر عالية من ضائقة الديون، و12 في المئة تعاني منها فعلاً.

ووفق الارقام المرصودة من التقرير الصادر حديثاً عن معهد التمويل الدولي، فان موضوع الدين  يشكّل مثالاً آخر على كيفية نمو الفجوة بين الدول الغنية والفقيرة. إذ إنه بعد بلوغه مستوى قياسياً في الربع الثاني من عام 2021، انخفض الدين العالمي – ديون الحكومة والشركات والأسر مجتمعةً – إلى 296 تريليون دولار في الربع الثالث أي بزيادة 36 تريلويم دولار عما كان عليه قبل تفشي الفيروس. لكنّ هذا التحسن جاء بكامله تقريباً في الاقتصادات المتقدمة، التي تواجه تعافياً اقتصادياً أقل تعقيداً من كثير من بلدان العالم النامي. ويقول التقرير إن ديون الأسواق الناشئة بلغت أعلى مستوياتها على الإطلاق عند 92.5 تريليون دولار في أكتوبر (تشرين الاول)، بزيادة 5.7 تريليونات دولار.

وبالتالي، فإن التفاوت في المديونية بين الدول النامية والمتقدمة سيؤدي الى حدوث انتعاش اقتصادي عالمي غير متوازن مما سيفاقم المخاوف من أن عالم ما بعد الوباء سيكون أكثر تفاوتاً مما عليه اليوم.

ولكن هل نحن أمام أزمة ديون جديدة؟ الاجابة عن هذا السؤال غير جلية بعد. إلا أن هذا لا يمنع من استشراف عبء إضافي ستتحمله الدول النامية على المدى الطويل من الاقتراض المرتفع. فمن المتوقع أن يرتفع الانفاق على خدمة الفوائد في الأسواق الناشئة خلال السنوات الخمس المقبلة، بما يعنيه ذلك من خفض للانفاق على التعليم والخدمات الاجتماعية وغيرها من الخدمات الاساسية لتحسين معيشة الشعوب.

ختاماً، لم ينته وباء كورونا بعد، ويبدو أنّ دول العالم سوف تعاني منه ومن متحوراته لفترة طويلة بسبب المشكلات التي أحدثها الوباء والتي لم تنخفض تبعاتها. وقد يؤدي انتشار الفيروس بقوة مرة جديدة، إذا ما تراجعت قوة اللقاحات وظهرت متغيرات جديدة لا تستطيع أن تتعامل معها اللقاحات، إلى تعطيل الاقتصادات مرة أخرى. وإذا لم تعد الحياة إلى طبيعتها عام 2022، فهل يكون البديل نموذجاً اقتصادياً أشد إيلاماً على الدول وشعوبها؟

العدد 124 / كانون الثاني 2022