اللغة الشعرية واتّساع الفكر

بيروت من ليندا نصار

يفكّر الشاعر بوساطة اللغة بوصفها إمكانية لفهم الذات وتعالقاتها بهوامش الواقع وتشخصياته بحثًا عن المجهول الجمالي الذي لا يدرك إلا بالرؤيات الحالمة والمحولة على جسدها، يترك الشاعر علامات التشوير في قصائده التي تحتاج إلى قارئ بليغ قادر على فك الرمز، وما يتضمنه من خطابات ثقافية مدسوسة بخفة يد الساحر في الحضور كما في الغياب. إن اللغة ترمم التاريخ المنسي فينا ومن حولنا ما دام الإنسان كائن التلاشي والثائر على كل الأنساق الثابتة، يغير الشاعر متاهات القول في الزمان والمكان ضد كل التقاليد الثائرة أوليس الشعر تفجيرًا للغة كما يقول أدونيس كما قصائده؟

  يقول محمود درويش في إحدى رسائله: “في اللغة نجد حلولنا، في اللغة نحاول أن نزوج المعلوم من المجهول، في اللغة نسافر ونعود، في اللغة نرسي للسفر قواعد سفر رمزية، وتكسر ذاتها لتبني ذاتها، أو تكسر السفر، في اللغة نصالح ما لا يتصالح في الواقع”.

فنقرأ هذه العلاقة بين درويش واللغة من خلال قصائده. ففي قصيدته المعنونة بـ “في الانتظار”  يكتب:

“في الانتظار، يُصيبُني هوس برصد

الاحتمالات الكثيرة: ُربَّما نَسِيَتْ حقيبتها

الصغيرة في القطار، فضاع عنواني

وضاع الهاتف المحمول، فانقطعت شهيتها

وقالت: لا نصيب له من المطر الخفيف

وربما انشغلت بأمر طارئٍ أو رحلةٍ

نحو الجنوب كي تزور الشمس، واتَّصَلَتْ

ولكن لم تجدني في الصباح، فقد

خرجت لاشتري غاردينيا لمسائنا وزجاجتينِ

من النبيذ”.

لا شك في أن اللغة لدى الشاعر أقرب إلى التجريد الفني عند الفنان التشكيلي يبني وبهدم لكي تتفرد التجربة ومستويات التشكيل داخلها بتوظيف كل الوصفات الدلالية المركبة تركيبًا يشبه كثيرًا بصمة الإنسان نفسه. إنّ الشاعر يربط لغته بأناه الداخلية ويعمل على تجسيمها في سيرورات الفهم والتفسير والتأويل لبناء حداثة تسعف في تخييل الجسد والذاكرة والسلطة والحب والانهيارات، بما يعني ذلك الحفر عميقًا في هذا الداخل لصوغ الهوية المزدوجة، هوية الذات وهوية الكتابة بحثًا عن منطقة الاحتمال بينهما. لهذا تظل لغة الشاعر اليوم أكثر راهنية من ذي قبل، صحيح أنّه ابتعد كثيرًا عن ماهيته، ومع ذلك لا يزال في صلب الأسئلة العميقة التي تفكر في المابينيات، وتجربة الحدود بين الأنا والآخر، رافضًا كل أشكال الهيمنة القيميّة أو التطابقات القاتلة أو الاختزالات العبثية، يصر على الانخراط في أسئلة المستقبل جاعلًا من الحرف صورة تتجاوز اللغة لتقيم في المشهديات والبصريات لكي تصبح الكتابة متعددة المعاني والدلالات.

ففي قصيدة “الوقت” مثلًا يقول أدونيس:

حاضِنًا سُنبلةَ الوقتِ ورأسي برجُ نارٍ:

ما الدّمُ الضّاربُ في الرّملِ وما هذا الأفولُ؟

قُلْ لَنا يا لَهَبَ الحاضِرِ ماذا سنقولُ؟

مِزَقُ التّاريخِ في حُنجرتي

وعلى وجهي أماراتُ الضّحيّهْ

ما أَمَرَّ اللّغةَ الآنَ وما أضيقَ بابَ الأبجديّهْ.

إن اللغة الشعرية لغة غير مهادنة مشاكسة إن لم نقل إنها مزعجة لكل الذين يحلمون بالاطمئنان أو الذين يصرّون على تضييق الفكر عبر فتح مساحات للتشكيك في اليقينيات عن طريق فكر السؤال ضدّ كل أشكال الرقابة. يستطيع الشاعر أن يبني بلغته حقيقة ذاته أو ما يسميه رامبو ب”الحياة الحقيقية”؛ إنها تلك الحياة التي تنحو نحو الخالص والإقامة في الصفاء وتجنب التضليل الجمالي الموغل في الخديعة. إن اللغة الشعرية الخالصة تتجه نحو الإنساني في رحابة المحلية، لا إلى بناء صورة مرضية عن الذات المنتفخة بكل أشكال العاهات المتمركزة حول الأنا، ولا كتابة لسيرة ذاتية تتطابق وذات الشاعر على هذه الأرض. إنه بحث مجنون باستمرار عن صوته الذي يتماهى مع كل أصوات المهمشين في معاناتهم مع من يشعرون بلوثة الغرابة والاغتراب والضياع والآمال الخرساء… إنه أصواتهم جميعًا تلتقي فيها الذوات سواء أكانت فردية أم جماعية في اللغة التي تجمع في كينونتها المعلوم والمجهول. ويدعو  رامبو الشعراء إلى العثور على لغة شعرية جديدة، يقول “ينبغي أن نطالب الشعراء بأن يأتوا بشيء آخر جديد، شكلاً ومضموناً، ذلك أن اختراع المجاهيل، يتطلّب منّا استخدام أشكال لغوية جديدة”. هذه الرسالة تؤسس لحداثة اللغة الشعرية.

يكتب الشاعر بلغة رمادية يلتقي فيها البياض بالسواد ما دامت بحثًا عن سيرة خاصة كما يقول عباس بيضون: “ليست عبادة ما هو ذاتي بل رؤيته وكأنه ليس ذاتيًّا وتسوية بما هو أخروي وعام (…)، فما يهمّ منها هو المألوف والمشترك”؛ فالقول الشعر يمنح للذات عبر اللغة القدرة على إنتاج الأثر المفتوح لتذويت التجربة الإنسانية وفتحها على العالم، ويصير بذلك اللغة شكلًا من أشكال مقاومة البشاعة التي من حولنا، وتحويلها إلى لغة تسائل حضورنا الوجودي في أقصى لحظات هشاشته وموته. إن اللغة تماشى مع هذا التصور، لا شك أنها تعيد اكتشاف مناطق غامضة في علاقتها ليس بذواتنا فحسب، وإنما في قدرة هذه الذات على تمزيق كلّ مسلّماتها عن طريق نقد القوالب الجاهزة وإبداع ما هو جديد. وهذا ما يجعل الحالة شكًّا وقلقًا ومحاولة اختراق كما تحدّث عنها بورخس في كتابه “صنعة الشعر”؛ وكأنّ لغة الشاعر تشبه ما يقوم به حفار القبور، وباعث مآسي العالم، ومنقذنا من التلاشي داخل هذا الفضاء المضطرب، ليستنبط ما يخدم نصّه مستعينًا بالتخييل وبرؤى جمالية خاصة في تعدديتها التي تشكّل بصمة تميّزه عن غيره. وهكذا إذا التفتنا إلى تمثلات موريس بلانشو في كتابه “أدب الفاجعة” نلمس أنّه يعبّر عن خاصية الانفتاح وأنّ غاية الكتابة ليست فقط لنفسها بل هي داخل هذا الفضاء الرحب المبني على التشابكات بين العالمين الداخلي والخارجي وارتباكاتهما. إن هذا النوع من الكتابة الشعرية يختلف عن الأنواع الأخرى لكونه يترجم صرخة مدوية نابعة من مجاهل الألم، ويعيد ترميم الصوت المبحوح الآتي والصاعد من الأنقاض. إنه صرخة من وسط الدمار ومن داخل الحدث بأسلوب جميل ولغة شفافة تهمس علنًا لكي تحاصر الشظايا. كل ذلك يؤسس لهذا النوع من الأدب الذي سيبقى قادرًا على “كتابة الفاجعة” ولو بعد حين.

بالنسبة إلى مالارميه “إنّ اللغة موجودة وجاهزة للخدمة ، وإن “الأشياء موجودة ، ولا نحتاج إلى إنشائها فنحن نحتاج فقط للاستيلاء على العلاقات فيما بينها “

وقد كان مالارميه يدعو إلى خلق لغة شعر جديدة وتحريرها من كل ما يقيّدها، يمكننا الحديث هنا عن الصراع الذي يعيشه الشاعر مع اللغة والتحدي إلى أن يجعل منها طيّعة بين يديه فيعيد صياغتها وتأليفها.

يكتب مالارميه (ترجمة عبد القادر الجنابي):

“سماءٌ شاحبةٌ، فوق عالم من الهَرَم يتوارى، قد تمضي مع الغيوم: خِرقٌ من أرجوان المَغيبات البالي تنحلُّ في نهر راكد عند أفق تكتسحه الأشعّة والمياه. الأشجار تضجرُ، وتحت أوراقها المبْيَضّة (لا بغبار الطرق بل بغبار الزمن)، ترتفعُ خيمةُ عارض الأشياء الفائتة: فوانيس عدة تنتظر حلولَ الغسق فتنعش وجوهَ حشدٍ من رجال تُعساء، غلبتهم الأمراض الأبدية وخطايا القرون، بالقرب من ضالعات معهم سقيمات حَبَالى بثمار بائسة ستفنى معها الأرض. في الصمت الجَزوع، صمت كلّ العيون المتضرّعة هناك إلى الشمس التي تغور، تحت الماء، يائسةَ الصرخة، كلامٌ يملك القلوبَ”.

    أمّا الشاعر البحريني قاسم حدّاد، فيدعو في دراساته، الشعراء إلى تحريك اللغة وتطويعها كي تسعف القصيدة. بالنسبة إليه اللغة هي مصدر الشعر وباتت حقّ للشاعر الذي يؤمن بتطوّرها. ويتابع بأنّ اللغة هي مصدر الشعر وأفقه ومداه،  ولكل شاعر لغة خاصة. فهذه اللغة هي إحدى تجليات الفكر الإنساني التي يتجلى فيها الشعر. وعلى الشاعر أن يسهر على أبجديته وهي تتماثل للنص لكي يتسنى للغة إنجاز عملها بجدارة. هذه اللغة وحدها التي تستحق العشق لا التقديس، وهي لا تتوقف عن النمو ولا تكفّ عن الولادة، كذلك تعتبر اللغة خلاصنا من أسطورة الصمت.

وهذا ما ندركه من اشتغال على اللغة عندما نتعمّق في كتاباته. ففي القصيدة المعنونة بــ “الشاعر” يكتب حداد مثلًا:

“يكتب كما لو يجلس على صهوة حصان

تسمع صهيل نصوصه

ويطفر في وجهك صهده النازل

قدماه تخبّان في رمل

ورأسه منتعشٌ في الرماح

يتطوّح

والكلامُ يفيض ويتطاير ويشهق

يناديه غيمٌ

فلا يسمع،

رئتاه مشرعتان لصوت الأقاصي

ليس لاسمه حروفٌ ولا يفهم اللغة،

يكتب، وكعبه في خاصرة الخيل

فرسٌ تهشل به وتطير

وذراعاه ريشٌ شاهقٌ.

سميناه مثلما يأخذ النبيّ الحكمة

مثلما ينهر الماءُ وحشة الأرض

سميناه،

وأخذنا أخطاء الحقل لمأدبته.

كلما تقدمتْ به الخيلُ توغل في نصه،

وأفضى بنا إلى التيه

يضيع فيضئ بنا عتمة الكون

قناديله في سفرٍ وإقامة.

العدد 124 / كانون الثاني 2022