المُستغرق في ذاته بين التعايش والاستبعاد

ويندي بيهاري في كتابها تعرية النرجسي:

بيروت – رنيم ضاهر

لم تكن عالمة النفس الأميركية ويندي بيهاري هي الكاتبة الأولى التي تصدت لموضوع الشخصية النرجسية وما تتميز به من صفاتٍ وسلوكيات على المستويين الفردي والاجتماعي، ذلك أن هذا الموضوع كان الشغل الشاغل للكثير من الأطباء وعلماء النفس على مدى قرن ونصف من الزمن .إلا أن بيهاري استطاعت أن تُقدم إضافات نوعية مُتميزة في مجال الوقوف على طبيعة الشخصية النرجسية وانحرافاتها وأعراضها ، كونها قد أفادت إلى حدٍ بعيد من اختصاصها في علم البيولوجيا وفي العلم التخطيطي .

تستقرئ ويندي منذ بداية الكتاب، الصادر عن “دار المدى”، الذي ترجمه” محمد السعدي “،وحتى آخر صفحاته مدى تعقيد العيش مع شخص نرجسي،من خلال عبارات بسيطة،واضحة وأنيقة في الوقت ذاته .

كذلك يتطرق الكتاب للكثيرمن الاستراتيجيات والملاحظات لمساعدة الأشخاص الذين يعيشون مع شخص نرجسي،أو يتعاملون معه سواء أكان زميلا أو حبيباً أو مُديراً في العمل .

فما هو تعريف النرجسية؟وما هي التقنيات التي تساعد الآخرين على التعامل مع شخص مُغرق بذاته،قد يَتسبب  لغيره بالإحباط والأذى والعجز،إضافة إلى غياب أي شعور بالتعاطف أو التأثر لديه؟

النرجسية كلمة مُستمدة من “نرسيس” في الميثولوجيا اليونانية،الذي حَكمت عليه الآلهة بالوقوع إلى الأبد في حب صورته المُنعكسة على سطح بُحيرة جبلية،عقابا له على حب “ايكو “حورية الجبل الشابة،ونظراً لأن نرجس ما كان له سوى التوق إلى انعكاس صورته من دون القدرة على امتلاكها،انعزل ببساطة وتحول إلى زهرة جميلة .

هذا التعريف يؤكد أن الجمال الحقيقي يكمن في التخلص من حب الذات المُفرط،وفي إقامة علاقات تعاطف مع الآخرين وروابط مبنية على تبادل المشاعر العادل.

دكتور جيفري يونغ عالم الإدراك يعتبر أن النرجسيين ليسوا أشرارا ، لذلك يجب إخراج الجيد منهم واتباع مسيرة المساعدة الذاتية الموحشة والشاقة،والتي ستؤدي في النهاية إلى إحداث تغييرومواجهة التحديات في حال الارتباط العاطفي بشخص نرجسيي،من خلال موهبة التعاطف.

فالعلاقة بشخص أنانيّ هي بالتأكيد غيرمُتوازنة،فالمُحادثات والتفاعلات تدورحول ذاته ممّا قد يتسبب بالوحدة عند الطرف الأضعف،وإلى تفاقم  مشاعرالغضب والإحباط  وبروز ردود فعل عصبية بعيدة كل البعد عن السلامة العقلية.

وبالتالي فإن الانسحاب من العلاقة السّامة يصبح هوالحل الأمثل .

ويندي مُستعينةً بحكمتها وانسانيتها من جهة ، وتجربتها العيادية من جهة أخرى ،تُقدم للقارئ  المُساعدة  الضرورية ليتمكن من إنقاذ علاقته الشائكة وتَسلُحه بالأدوات القابلة للتطبيق .تُركز ويندي على ضرورة  فهم المُخططات العاطفية العميقة التي تبدأ منذ الطفولة وتقودنا إلى الانخراط في أنماطٍ حياتية مُتكررة ومُدمرة للنفس .من هنا يجب “إعادة اختراع الحياة “على حدّ تعبيرها ،فالنرجسي شخصاً يُعطي القليل ويأخذ الكثير .

” تعرية النرجسي”يُطور مفاهيم مختلفة للعلاج التخطيطي ، من خلال أفكار ووجهات نظر جديدة ، ومن خلال توضيح  مُهيب  لكيفية تأثير الخلل والحرمان العاطفي على حياتنا وكيفية التغلب على شياطيننا الدّاخلية،للتعامل مع النرجسيين، سواء أكانوا أحباءنا أم من معارفنا ،مُتجاوزين النصائح والكليشيهات البسيطة،والاطّلاع على مجموعة من الألعاب التي قد يستعملها النرجسي ليضع اللوم على غيره .

إن فهم أفكار ويندي واتباع أساليبها وأدواتها ستُرجح الكفة  في العلاقة إلى المُتضرر،وتَمنحه الثقة للردعلى الإهانات التي يوجهها الأخيرإليه .

تنتقل ويندي إلى “النرجسية “كمصطلح شائع في وسائل التواصل والمدونات الالكترونية، تصف فيه فظاظة الشريك أو الحبيب النرجسي . فالنساء النرجسيات هن السيدات الباكيات ، عاشقات الأضواء ، المُغويات والسّاحرات .ومع ذلك فقد يلجأن إلى إيذاء أنفسهن لإشعار الطرف الآخر بالذنب. وهن مهووسات بمظهرهن الخارجي وبالموضة  وشعارهن” مرآتي يا مرآتي”.إن عالم التواصل الاجتماعي أتاح لهن فرصة الإغواء والظهور ونشر الصور التي تُثير الإطراء،من خلال صفحات مدونات الموضة وتلفزيون الواقع التي تُظهر طبائعن النرجسية ،بينما يُتابع الجمهور حياتهن المضطربة كفيلم طويل وشيّق .

النرجسي هو شخص غيرمُستعد للتغيير،وهويُثير الرُهاب من جهة والإعجاب من جهة أخرى . فهو ساحر الحضور ، مُخادع ، يُجهض العلاقات طويلة الأمد ، دون ندم أورادع أخلاقي .

وقد يكون المريض مُدللاً في طفولته أو اتكالياً، أووحيداً محروماً أومزيجاًمن هذه الصفات . فهو يسعى إلى المركز الأول في سباقه نحو الاستقلالية العاطفية ، يُخفي معاناته وأشواقه ، يتباهى بسرد القصص المثيرة للإعجاب وقد ينسحب في حال مر شريكه بمشاكل خطيرة. أمّا العبارة الأشهر التي يُردّدها الشخص النرجسي  فهي ” لا أحتاج إلى أحد ” ، في حين تُردد المرأة النرجسية ” أنت مدين لي”.

يتسم الشخص النرجسي بصفات عدة من بينها التنمر والمباهاة والفوقية وغيرها .إنهُ بارع بارتداء الأقنعة بغية التأقلم مع بعض السلوكيات السلبية . فهو يبدو سليما في ظاهر ذاته الزائفة، لكنه قادرمع ذلك  على إخفاء مشاعر النقص وكره الآخرين له.

تلجأ ويندي ، التي تستعمل فلسفتها الخاصة في العلاج النفسي، إلى علم البيولوجيا .فالمشاكل العاطفية التي تُقاربهاهي على صلة وثيقة بالدماغ، الذي يُعتبر مقراً للتجارب ولانفتاح الذاكرة على الأحداث المؤلمة ، لذلك فإن المريض يُصبح أقل دفاعاً عن نفسه عند نعته بالجنون.

تطرح ويندي ضرورة دمج نظريات العلاج النفسي ووضع طرق عملية حيال المشاكل العاطفية الصعبة، التي نواجهها أثناء التعامل مع النرجسي ، ومنها المخططات التي تستطيع الإحاطة بطفولة النرجسي المبكرة ومساعدته،مثل /الهجران /عدم الاستقرار / سوء الظن / الاساءة/ الحرمان من الرعاية وغيرها من المصطلحات التي تساعد على كيفية التعاطي معه. وهي تعرض على من يُعايش النرجسي استراتيجية الهبات السبع ،وهي تتلخص بطريقة صياغة الكلمات وإرهاف  السمع ونبرة الصوت وسرعة الحديث والتواصل البصري ،و تعابير الوجه ولغة الجسد ،الأمر الذي يُساعدنا على معرفة ما نُريده من الآخر ، والتوصل بالتّالي إلى تجربة حياتية مُرضية.

وتؤكد ويندي أخيراً على ضرورة وجود الاختصاصي الذي يساعد الطرفين على عدم الاستسلام ، من خلال أسلوبي  الحكمة والتعاطف أو من خلال إبراز الخطوط التي تسمح بالحوار الداخلي مع الذات أو تحرير النسخة السليمة والحكيمة منا بأقل الخسائر الممكنة .

العدد 124 / كانون الثاني 2022