ولادة جديدة لجبران “هذا الرجل من لبنان” ووثائق عنه جديدة 2-3

يصعب على من ينظر في سيرة جبران أن يصدق “كل” ما جاء في كتاب يونغ، وأن يكون جبران ذلك المغتّر. كذلك من الصعب التسليم بقول هنري زغيب أن جبران كان ينسج روايات عن نفسه لعلمه أن يونع وهاسكل ستضعان كتبا عنه في المستقبل. في رأينا أن جبران كان متصالحاً مع نفسه، وليس في حاجة إلى أن ينسج روايات مغلوطة عن طفولته ليرفع من قدر نفسه، ولا سبب يدعو إلى عدم تصديق يونغ أنه لم تكن لوالدة جبران مربية تعينها على تربية أولادها الأربعة، علماُ أن المربية في جبال لبنان، في الزمن الذي عاش فيه جبران قد تكون ابنة الجيران، أو فتاة يتيمة تعمل في البيوت، مقابل قروش معدودة لتأكل وتشرب، لا كما نفهمه اليوم من كلمة مربية في مُدننا. من الصعب تصديق يونغ أن أم جبران كانت تتقن لغات عدة، لكن يصعب أيضاً، التسليم بأنها كانت أمية كما يقول زغيب. كانت كاملة رحمة ابنة رجل دين هو الخوري أسطفان رحمه، ولا بد ان رجل الدين هذا قد أرشد أبناءه في داره، قبل أن يرشد الرعية في القرية، وعلمهم مبادئ القراءة والكتابة، لا ليغتنوا أو ليتسلموا المراكز، بل ليفهموا “الكتاب المقدس” في أقل تقدير!

نفهم من الكتاب أيضاً، أن جبران الذي عشق لبنانه وطلب أن يدُفن فيه، وان تنقل مقتنياته من صور ورسوم إلى بلدته بشري، لم يلق من موطنه إلا الجفاء. عارضته الكنيسة واتهمه بعض رجال الدين، أو بعض دجاّلي الدين بالإلحاد. في جلسة مع أندرو غريب، مواطن من لبنان كان يترجم بعض نصوص جبران العربية إلى الإنكليزية، يقول له جبران:” في لبنان ينشرون لي ولا أعرف. ينقلون مقالاتي وكتاباتي ولا يستأذنونني. يطبعون مؤلفاتي العربية ولا يرسلون إليّ قرشا واحدا، بينما أنشر هنا بالإنكليزية فيأتيني مردود من مقالاتي وقصائدي في الصحف والمجلات، ومن كتبي لدى دار “كنوف”، ولولا بيعي بعض رسومي ولوحاتي، لكنت الآن في عوز”. لقد عرّفنا هنري زغيب، نحن القراء اللبنانيين والعرب، بالكثير عن جبران، بقدر ما عرّفتنا يونغ وعرفت قراءها من الأميركيين، لكن ما يؤسف له حقاً، أن لا أحد من الكتاب والصحافيين اللبنانيين، بدءاً من ثلاثينات القرن الماضي، إلى نهاية الستينات منه، من كلّف نفسه وسافر إلى بوسطن للقاء مريانا شقيقة جبران (توفيت في العام 1972)، ليستطلع منها معلومات عن شقيقها جبران، ما كان يمكن نشره في سلسلة مقالات أو كتاب مستقل، أو إلى ولاية جورجيا ويلتقي ماري هاسكل، وهذه توفيت في العام 1964. من حسن الحظ أن ميخائيل نعيمة اجتمع إلى ماري هاسكل، في محطة قطار “غراند سنترال” في نيويورك عام 1931 بعد عودتهما من مأتم جبران في بوسطن. دام اللقاء ساعات معدودة، أمدته هاسكل خلالها بمعلومات عن جبران، كانت كافية لتساعده على وضع كتابه عن جبران. أربعون سنة من الإهمال ويا للأسف، وحكومات لبنان مشغولة بالسياسة والخلافات وطق الحنك. لا مسؤول لبنانياً كلف نفسه الاهتمام بجبران وإرث جبران، ولا صاحب دار نشر لبنانية، أرسل مندوباً عنه إلى الولايات المتحدة لهذه المهمة. هذا مظهر آخر من مظاهر جفاء لبنان نحو جبران، يجعلنا فعلا نقّيم ما يقوم به هنري زغيب و”مركز التراث اللبناني” من أنشطة تحفظ تراث هذا الفنان العظيم من الضياع، وتُخّلده عبر الأزمنة.

جبران والنساء

أمر آخر بقي سراً من حياة جبران لم يكشفه الكتاب، وهو ما إذا كانت لدى جبران علاقات جنسية مع النساء. لا تشير يونغ إلى أي علاقة غرامية. لكن في الفصل الذي عنوانه “بأقلامهم” في القسم الثاني من الكتاب، مقال لفؤاد أفرام البستاني نشر في مجلة “المشرق” سنة 1939، يقول البستاني فيه إنه سأل يونغ، في أثناء زيارتها لبنان عن جبران والنساء، فأكدت له أن جبران “كان في جميع علاقاته روحياً ساميا يترفع عن الشهوات البشرية”، وأضافت:” لا أعرف له علاقة غرامية واحدة. لم يطلعني قط، وهو أطلعني على الكثير من شؤونه، على أنه أحب حب شهوة في حياته”. مهما يكن، ليس في كل ما قرأناه عن جبران إشارة إلى علاقة جنسية بينه وبين امرأة، باستثناء ما يرويه نعيمة في كتابه عن جبران، من أنه تعرف في مطلع صباه إلى سيدة اميركية أعجبت برسومه، وكان يتردد إلى بيتها، إلى جاء يوم ودع معها عذريته، أو “عفة الصبا وطهارته” على حد قول نعيمة. يقول نعيمة أيضاَ إن ميشلين، المعلمة الفرنسية التي تعرّف إليها جبران في مدرسة ماري هاسكل، لحقته إلى باريس، فلا يُعقل أن جبران الذي عرف نسوة كثيرات في حياته، ما كانت له علاقة جنسية مع إحداهن. في الكتاب ذكر لسيدة استفّزت جبران وسألته إن هو عشق امرأة في حياته، فأجابها بغضب” اسمعي ما قد لا تعرفين. أكثر الرجال رهفة جنسية هم المبدعون. حياتهم الجنسية هبة عذبة رائعة يتمتعون بها، إنما في جو من الألفة الحميمة”. عليه نتساءل، ألم يكن جبران ذلك المبدع؟! ألم يعرض على ماري هاسكل الزواج؟ لقد عرف جبران فتيات شاعرات مرهفات، أُعجبن به، ولا نشك في أنه قد وجد مع إحداهن ذلك الجو الحميم الذي تألفه روحه. لا يُعقل ألا يكون جبران قد أغرم بامرأة، وكانت له معها علاقة جنسية. كيف لا وقد أتحفنا بتلك الفصول العذبة الحارة عن الحب، وهو القائل” حتى الروح المجّنحة إلى أقصى الحدود، يصعب عليها أن تهرب من ضرورات الجسد”!

جبران والجنسية الأميركية

أمر آخر لم يجل الكتاب سره، هو موقف جبران من الجنسية الأميركية، فهو لم يقدم طلبا لنيلها كما فعل معظم رفاقه في “الرابطة القلمية”، إن لم يكن كلهم، ومنهم نعيمه الذي التحق بالخدمة العسكرية في الجيش الأميركي في باريس لمدة سنة مع بدايات الحرب العالمية الأولى، وقد حدثنا نعيمة عن تلك التجربة من حياته في مذكراته “سبعون”. قد يكون ان روحانية جبران ردعته عن طلب الجنسية الأميركية، لعلمه أن ذلك سيفرض عليه خدمة عسكرية لا تنسجم ومعتقداته، أو أنه أراد أن يبقى لبنانيا صرفاً، أو لبنانياً – سورياً بدافع من حمّية وطنية قومية، أو أنه كان ينوي أن يرحل عن أميركا كما دخلها، أو بدافع خفي من الوفاء لأمه التي كان يحبها حتى العبادة، والتي جاءت به إلى أميركا بشراويا، فآثر أن يعود إلى بلاده بشراوياً كما ولدته أمه، ويُدفن في مسقط رأسه بشرّي.

تكشف الوثائق التي عرضها هنري زغيب أن جبران دخل أميركا مع امه وأخيه بطرس وشقيقتيه، مريانا وسلطانة تحت الاسم العائلي رحمة، وهو الاسم الثاني لأخيه غير الشقيق بطرس رحمة، من زواج امه السابق من عبد السلام رحمة. أما اسمه الأول، فقد غيرته له معلمته في مدرسته الأولى في بوسطن من جبران إلى خليل، وهو الاسم الذي اشتهر به في الغرب، بينما بقيت كتاباته العربية ممهورة باسمه الكامل الذي نعرفه، أي جبران خليل جبران. كان جبران معروفا بالأديب السوري، إلى أن أسست دولة لبنان الكبير سنة 1920، فصارت اللبنانية جنسيته، لكنه بقي يُعّرف عن نفسه بأنه سوري، وفي حالات أخرى بأنه لبناني. هذا في الظاهر، أما ما كان في وجدانه، فمزيج فريد من مكونات لبنانية وسورية وعربية وهندية واميركية وكونية، ذلك ما تفيض به كتاباته لمن يعرف كيف يقرأها.

كثيرة هي المعلومات  التي يحفل بها القسم الثاني من الكتاب، منها ما هو جديد لم ينشر من قبل، ومنها الذي لا يعرفه إلا القلائل، من ذلك مقال فيه وصف دقيق لمحتويات “الصومعة “، محترف جبران في الشارع العاشر غرباً في نيويورك، بقلم ميخائيل نعيمه، ومقال آخر للمونسنيور منصور إسطفان، وكان زغيب قابله في لبنان في العام 1983، وحفل تكريم جبران في “ديترويت ” أقامها على شرفه، “النادي التقدمي السوري الأميركي” مع صورتين نادرتين، إلى جانب وثائق وصور كثيرة، عن مأتم جبران المهيب في كنيسة سيدة الأرز في بوسطن، ومأتمه في بيروت، ونص وثيقة شراء دير مار سركيس في مسقط رأس جبران في بشري، وهو الدير الذي طالما تمنى جبران أن يمضي فيه بقية عمره، ونفذته له شقيقته مريانا بعد رحيله. هناك أيضاً نصوص وقصائد لباربره يونغ عن جبران لم ترد في كتاب يونغ، حصل عليها زغيب من دوريات أميركية وصاغها عربيا، من بينها مقال في مناسبة مرور سنة على وفاة جبران، نُشر في مجلة “العالم السوري” لصاحبها سلوم مكرزل، كما قدم لنا صفحة عن حياتها ونشأتها، وصفحات أخرى مما كتُب عنها بأقلام نعيمه واسكندر نجار، ورياض حنين، وفرجينيا حلو، وجين وخليل جبران في كتابهما الذي وضعاه بالإنكليزية عن جبران، تحت عنوان “خليل جبران – أبعد من الحدود”.

هناك ايضا مقال ليونغ عن مأتم جبران في بوسطن، وآخر عن مراسم وداع جبران على مرفأ “بروفيدنس” في رحلة العودة إلى لبنان، تلاه فصل آخر عن وصول جثمان جبران إلى بيروت، والرحلة الأخيرة إلى بشري، ومقالات رثاء من رفاق جبران في “الرابطة القلمية”: إيليا أبو ماضي، نسيب عريضة، ندرة حداد، رشيد أيوب، وليم كاتسفليس. من الصور أيضاً، صورة نادرة لغلاف كتاب عنوانه “السنابل”، يضم منتخبات من مؤلفات جبران، وهو هدية تكريمية من رفاقه في الرابطة القلمية”، إلى جانب لقاء مثير بين زغيب والنحات اللبناني الأصل خليل جبران، وكان والد هذا الأخير، ابن عم جبران. يحكي زغيب لنا وبمسحة عاطفية، كيف التقى الرجل، وكيف زاره في البيت ووجد عنده كتاباً بالإنكليزية عن مسرحيتين لجبران، “لعازر وحبيبته”، ومسرحية “الأعمى” نقلهما زغيب إلى العربية. في الحديث معه عرف أن جبران كان عرابه في المعمودية، وعنه يقول زغيب “أنه وضع مع زوجته جين، أهم بيوغرافيا مفصّلة وموثقة عن جبران”.

العدد 124 / كانون الثاني 2022