معادلة تركيا المستحيلة: فائدة متدنية وليرة مستقرة

استمرار الضغوط على العملة يهدد احتياطيات “المركزي” في 2022.. والتضخم يواصل تحليقه

هلا صغبيني

تدهوُر سعر العملة المحلية الى أدنى مستوياتها على الاطلاق والارتفاع الخطير في معدلات التضخم والمرشح الى المزيد من التصاعد هذا العام، لم يدفع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى التراجع قيد أنملة عن نظريته الاقتصادية غير التقليدية القائمة على أن أسعار الفائدة المرتفعة هي التي تسبّب التضخم فيما تلك المنخفضة ستوّلد نموذجاً اقتصادياً جديداً لتركيا. على العكس تماماً. بقي مصمّماً بشدة على تحدي كل المبادئ الاقتصادية العالمية المعروفة في حالات مشابهة لوضع اقتصاد تركيا. ويبدو أنه سيواصل تشبثه بمواقفه لسببين، الأول ديني له علاقة بأن الفائدة ربا تحرمه الشريعة الإسلامية، والثاني سياسي وهو أنه يتّخذ هذه الإجراءات ترقباً للانتخابات المقبلة المقررة في العام 2023 بعدما أظهرت استطلاعات الرأي تراجع شعبيته في فترة ما قبل الانتخابات. وكثرت تساؤلات

الاتراك تهافتوا على تحويل ليراتهم الى العملات الاجنبية لتقليص خسائرهم

الأتراك والمستثمرين على حد سواء حول نسب الفائدة وقيمة الليرة ومصير التضخم والأسعار في العام 2022.

في العام الماضي، حرص أردوغان على تكثيف طلاته وخطاباته شارحاً منطقه الاقتصادي الذي يركز على أن أسعار الفائدة المنخفضة كفيلة بتحويل تركيا إلى اقتصاد يحركه التصدير بتكاليف اقتراض منخفضة وعملة تنافسية باعتبار أنها ستدفع بالتضخم نزولاً وترفع الاستثمار والتوظيف والصادرات وتعزز استقلال تركيا عن الدول الأخرى. وهي نظرية لا يؤيده فيها صندوق النقد الدولي الذي رسم نموذجاً لما قد تؤديه أسعار الفائدة المرتفعة في ارتفاع معدلات التضخم.

نظرية أردوغان السائر عكس التيار الغربي حيث قررت المصارف المركزية العالمية التشدد في سياساتها النقدية وبدء مسار رفع الفائدة من أجل السيطرة على التضخم الآخذ في التصاعد، عززت عمق الأزمة الاقتصادية في تركيا. فقد تفاعلت معها العملة المحلية سلباً فانزلقت إلى مستويات قياسية تسببت بإطاحة وزير الخزانة والمالية لطفي ألوان، وأدت إلى تصنيفها من ضمن عملة الأسواق الناشئة الأسوأ أداء في 2021. إذ فقدت 44 في المئة في نهاية العام الماضي، وهو العام الأسوأ لليرة منذ وصول أردوغان إلى السلطة قبل حوالي عقدين. وقد تخطت الـ18 ليرة (حوالي 30 في المئة خفضاً في شهر واحد في نوفمبر/تشرين الثاني) في بعض الأحيان قبل أن تنتعش لساعات قليلة بعيد الإعلان عن إجراءات موضعية لانقاذ الليرة من الانهيار وتعويض حاملي الليرة في المصارف بعدما سارعوا إلى التخلص من مدخراتهم بالعملة المحلية وشراء الدولار. فيما تخطى التضخم عتبة الـ36 في المئة في نهاية العام الماضي، وهو أعلى معدل منذ العام 2002 – وهو العام الذي وافق فيه البرلمان التركي على إعادة تقييم الليرة بإزالة الأصفار الستة من الليرة، وإنشاء عملة جديدة. وقد دفع بلوغ التضخم هذه المستويات بأردوغان إلى رفع الحد الادنى

أردوغان يشرح نظريته القائمة على خفض أسعار الفائدة لخفض التضخم

للأجور بحوالي الـ50 في المئة بهدف مكافحة ارتفاع تكاليف المعيشة. لكن التوقعات تشي بمزيد من الارتفاعات في الأشهر القليلة المقبلة مع قرار الحكومة رفع أسعار الكهرباء والطاقة مع بداية العام الحالي، وسط تطلعات لرفع مستوى إنتاج الغاز الطبيعي وطاقة الرياح في البلاد.

الأسباب المباشرة لما وصل إليه الحال في تركيا كانت في إقدام المصرف المركزي التركي على أربعة تخفيضات لسعر الفائدة في فترة قصيرة لم تتخط الثلاثة أشهر بين سبتمبر (أيلول) وديسمبر (كانون الاول)، حيث تدنى المعدل 500 نقطة أساس من 19 في المئة إلى 14 في المئة لتصبح تركيا واحدة من أقل العائدات الحقيقية في الأسواق الناشئة.

لا قدرة للمصرف المركزي على معارضة قرارات أردوغان الحريص دوماً على اختيار محافظه بعناية ليكون أداته التنفيذية بلا نقاش. فالرئيس التركي يعتمد سياسة “نفّذ ولا تعترض”، وإلا يكون مصير معارضيه إزاحتهم من المشهد، كما حصل مع صانعي السياسات النقدية المعارضين لخفض أسعار الفائدة، بمن فيهم أخيراً المحافظ السابق ناجي إقبال الذي أطاحه في مارس (آذار) 2021 وعيّن الحالي شهاب قاقجي أوغلو بديلاً عنه. وكان أقال في نوفمبر (تشرين الثاني) 2020، المحافظ مراد أويصال الذي عيّنه في يوليو (تموز) 2019 بعد إقالة مراد تشتين قايا.

استنزاف الاحتياطيات

كافح المصرف المركزي التركي لدعم الليرة المتهاوية، فأعلن تدخله بشكل مباشر وكثيف في سوق الصرف الأجنبية للمرة الأولى منذ سبع سنوات، وبمساندة مصارف حكومية باعت الدولار أيضاً دعماً لليرة. وفي فترة أيام قليلة، تدخل خمس مرات وبمبالغ كبيرة كان نتيجتها تراجع احتياطياته الصافية من العملات الأجنبية، الشحيحة أصلاً، بحوالي 13 مليار دولار في أسبوعين، وهو ما يبرر قلق صانعي السياسات النقدية من عدم قدرتهم على السيطرة لاحقاً على تدهور العملة. فبيانات المصرف المركزي التركي أظهرت أن احتياطياته الدولية الصافية انخفضت إلى أدنى مستوى منذ 2002، وبلغت حدود 8.6 مليارات دولار (في 24 ديسمبر/كانون الأول) مقابل نحو 12.16 مليار دولار في منتصف الشهر، و21.18 ملياراً في بداية ديسمبر/كانون الأول. أضف إلى بيعه نحو 3.4 مليارات دولار لشركة الغاز الحكومية (بوتاس).

وقد دفع إعلان المصرف المركزي التركي استئناف تدخلاته لدعم الليرة، بوكالة التصنيف “فيتش” إلى التعبير عن قلقها، والتحذير من أن هذا الإجراء “يخاطر بتقويض تكوين الاحتياطيات الأجنبية الضعيفة أصلاً لدى المصرف المركزي”.

وفي موازاة تدخل المصرف المركزي، أعلن أردوغان خطة هدف من خلالها إنقاذ الليرة من دون المس بمسألة الفائدة، قضت بأن تدفع الحكومة الفرق لأصحاب الودائع بالليرة في حال تجاوز انخفاض العملة المحلية مقابل العملات الصعبة أسعار الفائدة لدى المصارف. وتم تحديد سعر صرف طويل الأجل للشركات المصدّرة عبر المصرف المركزي بشكل مباشر، وفي حال حدوث فروقات سيتم دفعها بالليرة للشركات المعنية.

لكن محللين يرون أن خطة أردوغان ترقى إلى مستوى “زيادة مبطنة” لأسعار الفائدة في وقت يُحرم حاملو الليرة من الفوائد، وأن المصرف المركزي قد يضطر إلى طباعة المزيد من الأموال لتغطية التزاماته الجديدة، كما   ستتكبد وزارة الخزانة خسائر في الودائع الجديدة بالليرة في حالة حدوث إقبال آخر على العملة.

استمرار الضغوط على الليرة التركية

في بداية العام الماضي، كان سعر صرف الليرة التركية أمام الدولار بحوالي 7.6 ليرات وفق البيانات الرسمية الصادة عن المصرف المركزي التركي لينتهي العام بتخطي الدولار حاجز الـ18 ليرة.

ودفعت القرارات المعلن عنها لخفض الفائدة سعر الليرة إلى التراجع بمعدلات متسارعة، وتحولت  المضاربة على سعر الصرف من نشاط للمحترفين إلى نشاط لكل من لديه مدخرات بالعملة المحلية، فيما كان التضخم يطل برأسه كنتيجة لعدم ضبط السياسة النقدية.

وانضمت الفاتورة الضخمة لسداد الديون إلى قائمة المخاطر التي تواجهها الليرة. فقد أظهرت الاحصاءات أنّ حجم الديون الخارجية التي كانت مستحقة على الشركات والمصارف والحكومة في الشهرين الاخيرين من العام الماضي بلغت 13 مليار دولار. وبالتالي، من الطبيعي أن تتسبب مثل هذه المدفوعات برفع الطلب على العملة الأجنبية، مما يزيد بالتالي من الضغوط على الليرة.

وتعزز الزيادة في طلب تركيا على الغاز الطبيعي من مصادر خارجية أيضاً، الحاجة للدولار، ما يقود لمزيد من الضعف في العملة المحلية.

كذلك، سيؤدي الارتفاع الأخير في الحد الأدنى للأجور بنسبة 50 في المئة إلى القضاء على مزايا تكلفة انخفاض قيمة العملة. وهو ما حذرت منه منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية التي رجحت أن تكون تركيا عرضة لمزيد من الضغوط المحتملة من الأجور وتكاليف الاستيراد وأسعار المنتجين.

إلا أنه رغم كل ذلك، من المستبعد جداً، إن لم نقل من المستحيل، أن يتراجع أردوغان عن موقفه بشأن أسعار الفائدة والذي تعود جذوره بالنسبة إليه إلى مفاهيم الربا، كما الاعتقاد بأن تكاليف الاقتراض المرتفعة ستنتقل إلى المستهلكين، ما يؤدي إلى زيادة التضخم. أضف أن هناك أسباباً سياسية لها علاقة باقتراب الانتخابات ولعب المعارضة على وتر الاقتصاد والليرة.

ويبدو أن الإدارة الحالية تضع في أولى أولوياتها خلق الوظائف والنمو الاقتصادي، وبالتالي هي أقل اهتماماً بمسألتي العملات الأجنبية واستقرار التضخم. لكنّ هذه الأولويات تتعارض مع ما يبحث عنه مستثمرو الدخل الثابت في الخارج.

تساؤلات للعام 2022

أمام هذا الواقع، لابد من طرح التساؤلات التالية للوضع الاقتصادي في تركيا في 2022:

  • إلى أي مدى يمكن لتركيا الاعتماد على احتياطياتها لدعم العملة المتراجعة سيما وأن تراجع مستوياتها سريع؟
  • هل ستؤدي مدخرات العملة الصعبة بمليارات الدولارات التي تحتفظ بها الأُسَر التركية والشركات المحلية إلى تقلبات الليرة في العام 2022؟ فبحسب الاحصاءات الرسمية الصادرة عن المصرف المركزي التركي، يملك المواطنون الأتراك الذين فقدوا ثقتهم بعملتهم المحلية 226 مليار دولار من العملات الأجنبية، تمثل حوالي 60 في المئة من الودائع الاجمالية.
  • ماذا يمكن لأردوغان أن يتخذ من إجراءات في ظل وجود مخاطر مقبلة خارجة عن سيطرته؟ فالمصارف المركزية في العالم في صدد تشديد سياساتها النقدية لمواجهة الارتفاع الكبير في معدلات التضخم. وهذا يعني أن الأسعار المرتفعة للأصول الأكثر أماناً في العالم ستضعف جاذبية الأسواق الناشئة المحفوفة بالمخاطر، بما في ذلك تركيا. وهو منحى حصل في الأشهر الأخيرة من العام الماضي حين تراجعت التدفقات الى الأسواق الناشئة بمئة مليار دولار اعتباراً من شهر أكتوبر (تشرين الاول) عندما تنامت الرهانات على السياسة النقدية الاميركية المتشددة.
  • ما هي الاجراءات التي يمكن أن تتخذها تركيا لمواجهة ارتفاع أسعار النفط؟ فمن المرجح جداً أنها سوف تأخذ منحى تصاعدياً في 2022، وهو ما يعني أن معدلات التضخم في تركيا ستبقى مرتفعة لفترة طويلة.
  • ما الذي يمكن أن يؤدي إلى المزيد من تفاقم الوضع؟ أن يصبح المودع مثلاً غير قادر على سحب وديعته بالعملات الأجنبية من المصرف، علماً بأن حوالي ثلثي الودائع في النظام المصرفي بالعملات الأجنبية، أو أن تفقد المصارف التركية إمكانية الوصول إلى أسواق الدولار الدولية، ما من شأنه أن يجمد النظام المالي، وقد يدفع الحكومة إلى اتخاذ إجراءات أكثر صرامة، بما في ذلك فرض ضوابط على رأس المال. أو أن تستمر المصارف بإقراض الحكومة والمصرف المركزي الجزء الاكبر من عملاتها الأجنبية (يذهب بهض المصارف لشراء السندات الحكومية التركية الصادرة بالدولار).

يتحدث بعض المحللين هنا عن سيناريو سيء: ماذا لو قرر المودعون الأتراك سحب دولاراتهم من المصارف. عندها ستطلب هذه الأخيرة من المصرف المركزي استعادة احتياطياتها من الدولار وقد تحاول إلغاء عمليات المقايضة التي حصلت. فإذا لم يكن المصرف المركزي قادراً على الامتثال، لن تتمكن المصارف عندها من سداد اسحقاقات المودعين. هو سيناريو شبيه جداً لما حصل في الأزمة المالية في لبنان عام 2020.

ختاماً، ما تحتاج إليه تركيا لـ”تخرج منتصرة من هذه المعركة الاقتصادية” كما يقول أردوغان، تغييراً في العقلية لتتماشى مع التحولات العالمية. لكن هذا الامر يبدو أنه بعيد التحقق سيما وأن أردوغان يتّخذ هذه الإجراءات في الوقت الراهن ترقباً للانتخابات المقبلة. فما يقلقه الانكماش المصاحب لارتفاع أسعار الفائدة، والذي يهدّد أمراً هو بأمسّ الحاجة إليه: اقتصاد مزدهر قادر على خلق فرص عمل جديدة يكون رافعة له في الانتخابات. إلا أن معادلة أسعار فائدة أقل واستقرار المحلية المحلية أمر يستحيل تحققه.

العدد 125 / شباط 2022