لِكلِّ مقامٍ…عن رجالِ إبليس ووَطنِ الملائكة

“كلّما أطللتُ على المدينة من فوق، بدا لي أن لا فرق في الشرف الحاصل للمرء، إن كان فيها خادمَ كنيسة أو قوّادًا.”

لم يقصد “إميل سيوران” مدينةً محددة حين كتب هذه الكلمات. ربّما كانت باريس أو بوخارست أو حتى القسطنطينية أو لعلّها القدس أو سمرقند، لكنه بالتأكيد لم يقصد بيروت. لِمَ لا؟ لِم لا تكون إطلالة سيوران الشاهقة هي على مدينتنا، التي شارَف آخرُ الإطلالات عليها من فوق على السّقوط؟ وهل من فرقٍ بعدها بين الارتطام بِرُكامِ مدينةٍ أو النَّجاة بالسُّقوط في مستنقعٍ واهمٍ بعذوبة مياهه؟ لا فرق أبدًا، حين تصبح “المياه كلّها بلون الغَرق”.

على الأرجح، هذا ما يحصل “بعد أن تبحث عبثًا عن وطنٍ يتبنّاك، تنكفئ على الموت، لِتَستقرَّ أخيرًا كـ “مواطنٍ” في هذا المنفى الجديد”. منافي الفيلسوف والحكيم الوجوديّ العَدَميّ الروماني – الفرنسيّ “سيوران”، تتماهى إلى حدّ كبير بمنفانا اللبناني. الموت المتجدّد الذي لا خاتمة له، هو مجرّد احتضار حياتي متواصل، أراد يومًا الاستقرار في الزمن فإذا به “غير قابل للسّكنى”.

المُحزن لِفيلسوفِنا، أن “نرى أممًا كبيرة تتسوّل قدرًا إضافيًّا من المستقبل”. لم يكن تسوُّلُ بعض مستقبلٍ، قدَرَ وطنٍ احترفَ صناعةَ الأجنحة للائذين بفضائه وترابه على السّواء. ولم يُخطّط يومًا أن يكون اللائذون به كـ “شكسبير: موعدٌ بين وردة ومقصلة”، ولا أن يكون هذا الموعد هو “المكان الوحيد الذي يطيب به اليأس” بعد إنهاك الروح والحواسّ.

الإقامة هناك، أغرتْ أسرابًا من المتهالكين على دروب الفردوس اللبناني. فردوسٌ ضائعٌ، فردوسُ مفقود أو يكاد، فردوسُ الوهمِ الجميل، مقصدُ الفراديس الهَرِمة، أو مهما كانت تسميتُه، فهو حتمًا لم يعد كذلك، بعد غزو رجال إبليس من أبناءِ الوطنِ الفردوسيّ نفسه، أو من المغولِ الجُدد القادمين من أمبراطورياتِهم الثمِلة.

ربّما أقسى صورةٍ في الإطلالة على المدينة من فوق، هي التحديق مباشرةً في عينَيها وهي تَرجو شرفَ رجالِها ألّا يؤول إلى السّقوط. ولكن مهلاً! ثمّة أقسى:

أن تطيلَ التحديقَ عبثًا، بحثًا عن “الشّرف” المَرُوم بين السّاقطين الكثر، وهم ينشدون مع المتنبي:

 “فطَعمُ الموتِ في أمرٍ صغيرٍ/ كَطعمِ الموتِ في أمرٍ عظيمِ”.

  • الاقتباسات من كتاب “المياه كلّها بِلون الغرق” لإميل سيوران Emil Cioran ترجمة آدم فتحي.
  • العدد 125 / شباط 2022