“خطف الحبيب” للروائيّ طالب الرفاعي: الحب المُحرم والإرهاب القاتل

بيروت – رنيم ضاهر

لم يُدرك يعقوب رجل الأعمال الستينيّ السبب الفعليّ الذي جعلَ نظرة فتاة يافعة تُخلخلُ حياتهُ الهادئة من الأعماق، وتقلبُ مسارها الهادئ رأساً على عَقب، لكن طالب الرفاعي في روايته الأخيرة “خطف الحبيب” يتصدى لهذه المهمة من خلال حبكةٍ مُتقنة ومُحكمة السرد. فقد تزامن هذا الخطف العاطفيّ مع خطف آخر موازٍ له،بل ويفوقهُ تأثيراً وانعكاساً على حياة البطل .وهو ما تَمثلَ بخطف ابنه الشاب أحمد المُنتمي إلى تنظيمٍ إرهابيٍّ تكفيريّ من قِبلِ قيادة هذا التنظيم بالذات وقد حدثَ ذلك في الشمال السوريّ بعد أن التحقَ” أبو الفتح الكويتي”، وهو الإسم الحركيّ لأحمد بالتنظيم الجديد. أمّا السبب الفعليّ للخَطف فكانَ الإبتزاز المالي لرجل الأعمال المعروف بمشاريعهِ الاستثماريةِ المُربِحة حيثُ كان التنظيم التكفيريّ بأمسِ الحاجةِ إلى المال.

وتَستذكرُ الروايةُ في هذا السّياق الغزو  الكارثي للكويت الذي قامَ به صدام حسين في مطلع تسعينات القرن المُنصرم، وما تَسببَ به هذا الغزو من ردة فعلٍ صادمة ليعقوب الذي كان مُعجباً بشخصية الزعيم العراقيّ وبوقوفهِ الصارم في وجه “المدّ الفارسيّ”. وخلال ذلك يتقصى الرفاعي تفاصيل حياة بطلهِ اليومية، سواءً في منزلهِ الذي يُشعره بالوحشة والكَدَر والرتابة، أو في مكتبهِ ذي التصميم البسيط، الذي تُميزهُ مكتبتهُ النوعية والثرية بالمعرفة،بقدرما تُميزه إطلالتهُ السّاحرة على البحر التي كان يرى فيها يعقوب مُتنفساً له في ظل الإرهاق ومشاكل العمل ومتاهاته.إنّهُ البحر الذي يَتسربُ إلى عروقه مُصفيّاً مزاجه العَكِر من مَتاعِبهِ وأدرانه.

يُخبرنا الرفاعي  في بداية الرواية عن شخير زوجته الّليليّ الذي كان قد دفعه للانتقال إلى غرفة ثانية.كما أنّه ضاقَ ذرعاً بالطقوسِ اليوميةِ المُملة التي شعرَبأنها تُفرَضُ عليهِ فَرضاً، من مِثل قُبلتي الصباح والمساء، ومراسمِ الوَداع عندَ السّفر،والتلفظ كالببغاء ِبعباراتٍ عاطفية مُتماثلة لإثبات حبّهِ لزوجتِهِ، فهويَعتبرُمن جهته أنّ المال أكثرُ من كافٍ لتعويضِها عمّا تُعانيه من نَقص عاطفيّي،بحيثُ عَمدَ إلى إلهائها بالمظاهر الخدّاعة والسفروالتسوق، واعتماد الماركات العالمية،وما إلى ذلك. فهذا الإنفاق الباذخ قد يُنسيها من وجهة نظرهِ الوجه الآخر من وجودهِ كزوجٍ أوحبيب. لكن كيف السبيل لنسيان ابنها أحمد؟ فهو ابنها الذي تُحبّه وتربِطَ وجودها بوجوده. وهو رُغم نظراتِه العدوانية وتردّدِه على حلقات الدّروسِ الدينية ونُزوعه التكفيريّ لكلّ ما ومَن حَوله، لا تَستطيعُ أن تتخيل حياتَهُ من دونها.

ولا يَختلفُ حالُ الأب مع ابنهِ عن حالِ الأم،رغمَ ما بينهما من فوارق في التفكير والخيارات السياسية والعقائدية.

كلاهما الأب والأم  يتبادلان التهم الضمنية والعَلنية عن السبب الفعليّ الذي حدا بأحمد للوقوع في حبائل التكفيريين،حيث تُرك الإبن بعيداً عن أنظار أبيه المُنصرف إلى مُراكمةِ ثرواته، وعن أنظارِ امِّه المُنشغلة بتحسين مظهرها الخارجيّ وصورتها الإجتماعية . ولم يَنتبه أيٌّ منهما إلى لِحية الإبن الطويلة التي اندلقت من وجهه لتُغطي عُنقه وصدره، ولا انتبه الوالد لقول ابنه له في الحُلم ” لا اعتراضَ على شمس الله “.

لكنَّ الخوف على أحمد، لم يمنع الوالد المكلوم من التفكير بالحبّ، أوبالأحرى الإصابة به من نظرة خاطفة،رحلة التأمل الصباحية أصبحت مُضنية في منزله الذي يلفه صوت ابنه، وصورة فرناز،الفتاة الإيرانية ،المُتحدرة من عائلة فقيرة والتي سلبت قلبه منذ التقيا في مصعد الشركة،ثم اكتشف فيما بعد أنها موظفة في القسم المخصص للكمبيوتر،فرناز من  جهتها تبحثُ عن حب حقيقيٍّ ومُختلف .لكن ما الذي يُريده رجل ستينيّ من فتاة عشرينبة،هذا هو السؤال الدائم الذي كان يدور في أفكاره :”ماذا أريد منها”؟

إن اشتياق يعقوب لفرناز والذي احتل صفحات ٍعديدة من “خطف الحبيب “، بدا كأنه يُغذي شوقه لولده أحمد . وبين التردد والتورط يستمهل الكاتب قلبه كي يُكمل دقاته إلى النهاية، حتى اللقاء الموعود.أمّا زوجته فكانت تشعر بالخجل من مظهر أحمد ، المُقيم في الذاكرة القريبة والبعيدة ، وبخاصة من خلال زيّهِ الجديد ومعجمه الديني التكفيري الذي يضج بمفردات الجحيم وعذاب الآخرة وشواء الأجساد. وهي تفتقد من جهة اخرى زوجها الكهل الذي أصبح بعيداً عنها  كل البعد. “وكأن فقر الدم أصاب علاقتنا” ، تقول شيخة لنفسها ، وقد شعرت أن هناك شيئاً غير أحمد يُشغل يعقوب ،الذي يهدروقته بالمقاولات والمُناقصات،مُنزوياً في مكتبه ليل نهار، ولا يُواسيه سوى البحر.إنه البحر نفسه الذي كان قديما ملجأ لأجداده الصيادين، وأصبح الآن يعج بناقلات النفط. ” ذهب العالم المرجو” ، كان لسان حاله يقول .

 لا بد أن تكون هناك علاقة ما،بين رائحة فرنازالتي تضج بالغاردينيا،وبين صورة أحمد الذي باع نفسه للموت والدم والقتال، حدّثَ يعقوب نفسه . أمّا الرابط بينهما فهو الرائحة والعطر الأخاذ والدم ، أو هو مزيج من الإثنين معاً يستقر في زجاجة لامعة . أو ربما جاءت الفتاة من حاجته الى الحب والجمال ، وسط  عالمه اليومي المطحون بالتوتر والكدر والشهيق والزفير المدفوعي الثمن ببطاقة اعتماد فورية الدفع .

أمّا فرناز،البنت الفقيرة التي تبحث وسط الضوضاء عن حضن دافئٍ وحياة مادية آمنة ،فقد خشيت أن تفضي المغامرة المتهورة إلى ترحيلها هي وأهلها من الكويت إلى إيران . فعلاقة حب غير مُتكافئة مع مديرها، قد تَجلبُ لها صداعاً هي بغنى عنه . ولكن نفسها التواقة الى الراحة ، زيّنت  لها في الوقت ذاته ارتباطها برجل كويتي غنيّ ، ينتشلها من الفقر ويمنح الجنسية لأخيها المقيم في طهران ، والذي يطمح بدوره للعودة إلى الكويت،البلد الذي احتضنه في طفولته والذي تنتمي روحه إليه.

هذه الصور التي تَستعرضها فرناز في سرّها ، كانت تهدف بالنسبة للمؤلف الى طرح إشكالية ما يُعانيه الغرباء خارج أوطانهم، وتوقهم البالغ للحصول على جنسيات الدول الثرية التي لا تمنحهم سوى إقامات مؤقتة . وهو ما أراد كاتب” خطف الحبيب” مقاربته على نحو خاص .

ومع تقدم الرواية ، تتسارع الأحداث والفصول ، ويتوزع السرد بين المونولوج الداخلي وبين التحليل النفسي،وصولا الى تعقب الصراعات السياسية والعقائدية الدامية في المنطقة . وبين هذا وذاك يسرد الرفاعي تداعياته وآرائه بجرأة عالية ، ودون أي محاذير . وحيث تأخذه شخصياته ، يتقصى دهاليز كل نفس وتبدلاتها المزاجية  بتلقائية ورشاقة .  ثم تتوالى الرواية فصولا بين غصة الحب ورتابة الزواج ، وهواجس رجل الأعمال الستينيّ . يَتحسر يعقوب على أحمد الذي غُسل دماغه من قبل التكفيريين، فبات يجرجرُ نفسه في ساحات القتال ، هارباً من ثقل خطايا العائلة إلى جنةٍ تعده بلقاء النبي وحورالعين .

هذا الخراب الذي طحن قلب الأب على امتداد الرواية وأحداثها ، البطيئة حيناً والمتسارعة حيناً آخر، شرّعَ الأبواب واسعةً على خفايا العلاقات الأسرية التي تتآكلها المظاهر، ولا يحجبُ رتابتها سوى بريق المال .

كان على القارئ أن ينتظر طويلا لكي يكتشف أن لقاء يعقوب بفرناز، لم يكن سوى طريقة الغيب لجر المصائر إلى مسارآخر غير متوقع . فبعد ان الّحت  الجماعة التكفيرية المُتطرفة في طلب الفدية،كشرط وحيد لعدم قتل أحمد، الموجود في الأسر والذي تعرض لأبشع أنواع التعذيب،بادرت فرناز المُتعاطفة مع الأب، إلى الطلب من أخيها المُتواجد في طهران ، المساعدة في تحرير الشاب المُغَرر به ، الذي نقله الخاطفون الى إيران . إثر ذلك ينتقل الأب إلى العاصمة الإيرانية، حيث يلتقي بشقيق فرناز ، ليجبرهما الخاطفون على الانتقال من متاهة إلى أخرى ، فيما رائحة الدم التي رافقت يعقوب منذ البداية ، لم تترك أنفه أبداً. ولم تفارق سمعه في الوقت ذاته كلمة ” يابا” التي ظل يخاطبه بها أحمد ، مُناشداً إياه أن يُخلصه من براثن التعذيب . أمّا أكثر لحظات الرواية إيلاما فقد تمثل بسقوط أحمد في الصفحة الأخيرة من السرد ، والتي شاء الرفاعي أن يُطلق عند خاتمتها صرخته المدوية ضد استشراء العنف وشقاء العالم ، إذ يقول : ” فجأة دوّت طلقةً بين الأشجار خلف أحمد،لتهزَّ صمت المكان ، وينفرُالدمُ بأنفي،ويسقط ولدي “.

ولا بد أن تكون جملة كهذه قد وصلت الأرض بالسماء، حتى استقرت أخيرا في روح يعقوب المقتولة مرتين .