واقع العراق ومستقبله بعد تغييرات مراكز النفوذ الشيعي  

د.ماجد السامرائي

اعتاد المراقبون للشأن السياسي العراقي متابعة رحلة صناعة الحكومات الجديدة قبل وبعد كل انتخابات جديدة . لكن هذه المرة بدت الحالة مختلفة من حيث الظواهر والتداعيات . ذلك راجع الى ما تركته ثورة أكتوبر ( تشرين ) العراقية من ضغوطات على الأحزاب السياسية الحاكمة منذ أول انتخابات عام 2005 وحتى عام 2018 حيث تم إجبار رئيس الوزراء عادل عبد المهدي الذي بدا أكثر انحيازاً وتسهيلاً لوحشية المليشيات المسلحة الموالية لإيران . عدم النزاهة والتزوير كانت الطابع العام للدورات الانتخابية الأربع , اما انتخابات أكتوبر تشرين عام 2020 فقد كانت أقل تزوير بشهادة العديد من المنظمات الدولية والمحلية لدرجة أن حظيت ببيان من مجلس الأمن الدولي و رغم أن نسبة مقاطعة الشعب العراقي قاربت الثمانين بالمائة وفق مراقبين .

 كان ضغط ثورة أكتوبر قد دفع من جملة مطالب شعبية الى اقامة انتخابات مبكرة , كان توقيت تلك المطالبة مهماً أواخر عام 2019 و لكن صدمة الأحزاب قد دفعتها الى وضع تدابير كثيرة كالالتفاف على القانون الانتخابي الجديد الذي تم التحضير له وتحويل العراق من دائرة انتخابية واحدة الى عدة دوائر حسب المناطق والمدن بما أتاح للشخصيات الفردية التنافس بأسمائهم وليس بقوائمهم الحزبية  . كانت أهداف الثورة الانتقال الى مشروع وطني للتغيير أبرز عناصره السياسية إقامة انتخابات مبكرة تصبح باباً لتغييرات سياسية في حل البرلمان السابق وتشكيل لجنة خاصة لتعديل الدستور بما يغلق أبواب المحاصصة الطائفية التي كانت مفتاح التخريب والتدهور في جميع مرافق الحياة العراقية في مقدمتها انعدام الأمن الفردي والاجتماعي في البلاد .و رغم ذلك لعبت الأحزاب أدواراً خبيثة في التسلل والحصول على مواقع في الأرقام الفائزة .

الصدمة الكبرى التي حصلت هي هزيمة الكتل والأحزاب ” الشيعية ” المُغّطية للمليشيات المسلحة تحت عنوان ” المقاومة الإسلامية ” , والتي تعلن باستمرار ولاءها التام للنظام الإيراني علي خامنئي , لقد خسرت تلك القوى السياسية جمهورها الخاص الذي يتشكل من بسطاء الناس الحريصين على تأمين لقمة عيش أطفالهم .

اللعبة التي انتجتها القوى الشيعية الخاسرة في الانتخابات الأخيرة بتدبير وقيادة رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي الذي فاز ب 37 مقعداً ودارت حول حكمه الكثير من القصص والروايات المتعلقة بالفساد الكبير وتسليمه مدينة الموصل لداعش , هذه القوى حرصت على مواجهة فوز مقتدى الصدر وتياره ب73 مقعداً بما أهلّه عن باقي القوى العربية الشيعية والسنية والكردية لتشكيل الحكومة , تجمّع بما سمي بالاطار التنسيقي وهو تشكيل مؤقت كانت أهدافه التاكتيكية في المرحلة الأولى التشكيك بنتائج الانتخابات واستخدام الشارع المحدود من الموالين في التظاهر أمام بوابات المنطقة الخضراء لأيام تخللتها الحادثة الدراماتيكية بالاستهداف الشخصي لحياة رئيس وزراء حكومة تصريف الأعمال مصطفى الكاظمي , والتواجد الشخصي لرئيس كتلة الفتح هادي العامري الممثل الأول للمليشيات الولائية داخل قاعة المحكمة الاتحادية التي نظرت في دعواه لإلغاء الانتخابات أو إعادة الفرز والعد اليدوي وغيرها من المحاولات التي لم تتمكن المحكمة الاتحادية من تجاوز مباشر ومفضوح لوظيفتها الدستورية المحددة في التصديق على الانتخابات , وهذا ما حصل بعد شهرين من اللعب الإعلامي لمحاولة كسب المقاعد والتمكن من مواجهة برلمانية لكتلة مقتدى الصدر .

أصبح الافتراق بين الفصيلين الشيعيين كتلة نوري المالكي وكتلة الصدر متوقعاً في استحضار لخلافهما التاريخي الطويل خاصة بعد ما سميت بصولة الفرسان العسكرية التي قادها نوري المالكي عام 2007 في الانقضاض على فصائل جيش المهدي الصدري في البصرة .

خلال الأيام التي تلت المصادقة على الانتخابات دخلت الحوارات السياسية منعطفا أكثر وضوحاً داخل معسكر المكونات الطائفي الذي كان السبب الأول في خراب العراق , الجناحان السنيان الفائزان محمد الحلبوسي رئيس البرلمان السابق , وخميس الخنجر رجل الأعمال الذي دخل السياسة من باب التجارة وارتضى وفق المعطيات إرضاء طهران ووكلائها في العراق , فيما لم تكن هناك مشكلة لدى المكون الكردي فمسعود يعتبر نفسه المرجع الأول للكرد في العملية السياسية .

خلال تلك الأيام القصيرة أصبح الاعلام الطائفي لشيعة ايران أكثر وضوحاً ومباشرة في الإصرار على أن السلطة لن تخرج من يد الشيعة رغم إن المعارضين الأشداء لهم من شباب الشيعة إذا تحدثنا بمنطوقهم . أخذوا يتحدثون عن استمرار السيطرة على السلطة في العراق واستمرار الحكم ” الشيعي ” المدعوم إيرانياً وأمريكياً بحجة الجهلاء والمغفلين بأن السنة حكموا العراق منذ الدولة العثمانية ومن ثم تأسيس الدولة العراقية الحديثة في عام 1921 ، مع ان الشيعة شاركوا في حكم العراق عبر كل الحكومات الملكية والجمهورية وخاصة في عهد حزب البعث الذي كان مطلوباً تجريمه وطبّقوا ذلك بطريقة ثأرية لا ترتقي الى مستوى الحدود الدنيا من الإنسانية , وانكشفت أكذوبة من ادعوا انقاذ البلد من دكتاتورية الفرد والحزب الواحد.

ردود الفعل الإعلامية المضطربة بُعَيد خسارة الانتخابات والتشبث بقيادة العراق والتحكم بمصير أهله من قبل الشيعة السياسيين الموالين لطهران ناتجة عن خلاصتين واقعيتين :

الأولى تداعيات ثورة أكتوبر الشبابية 2019 التي رسمت الجدار الفاصل بين طرفي الصراع وعناوين المعركة السياسية بين الشعب الجائع المنهوب وبين منظومات الحكم الهزيلة في الظلم والفساد خاصة الأحزاب والمليشيات الولائية رغم الكلف الثمينة لهذا الجهد النضالي بدماء الشباب . فقد احترقت أوراق القوى الفاسدة التي غطت مرحلة تزيد عن خمسة عشر عاماً

تحت شعارات اجتثاث البعث ومعركة انصار الحسين على أتباع يزيد والحرب ضد الارهاب.

 الثانية  شعور داخلي  مُحبط بانكشاف مستويات الاقتدار والقوة السياسية عبر نتائج الانتخابات الأخيرة التي أعطت جزءاً من حقيقة الرصيد العددي لأنصار العناوين الولائية التي تسرّعت في فرز نفسها عن البيت الشيعي المحافظ بعد الانتصار على داعش عام 2017 رغم إن الجميع يشتركون بمستويات مختلفة في حالة الولاء للمرشد الأعلى في طهران .

يعتقد البعض خطأ بأن تراكم الألم الجماعي العراقي الذي تعاظم خلال قرابة العشرين عاماً وأدى الى موجات متلاحقة من الإحباط قد أبعد أي أمل بإزاحة الطبقة السياسية عن السلطة بعد تحصنها بالمليشيات المسلحة وبوجود ظهير جار موصوف بالاقتدار على صناعة مؤامرات الدم لدرجة أن كثر ممن يشاهدون خارطة التفكك والألم العراقي يصلون الى نتيجة التسليم بمقدّرات من يدير اللعبة في العراق .

من المفيد إعادة التأكيد إن القوى التي ستعيد نفسها للحكم في الربع الأول من هذا العام لم تقدم أو تنفذ بعد حكمها لثمانية عشر عاماً مشروعاً إصلاحياً أو برنامجاً بديلاً لنظام الاستبداد الذي حاربته على طريقتها في الانحياز للطرف الإيراني في الحرب .

الإصلاح في برامج تلك القوى والأحزاب التي استثمرت الحكم وامكانياته هو تدمير الدولة العراقية , وطرد الكفاءات العلمية المتراكمة بإحلال الجهلة ومعوّقي الفكر عبر قانون الاجتثاث الذي شرّعه الحاكم الأمريكي بول بريمر وتأسف الآن كذباً وتهرباً من المسؤولية الأخلاقية على انه أوكل تنفيذه خطاً لتلك الأحزاب

الوقائع والاحصائيات تذكر إنه ما بين عامي 2005 و2014  سرق ما يقارب نصف تريليون دولار عدا ونقدا كما يقول ذوي الاختصاص والسؤال هنا الذي يطرح نفسة بقوة اين ذهبت هذه الاموال الطائلة وحسب المنطق والمفترض اما ان تكون صرف على عمليات التنمية او انها صرفت بطريقة خاطئة او انها وهذا هو الارجح انها سرقت وهو ما تشير اليه جميع المؤشرات وفقا لما موجود على الارض ونقصد هنا عدم وجود بنية تحتية وحسابات ختامية للموازنات وانتشار الفساد بكل مرافق الدولة وهو ما قاد الى تشكيل هيئات للنزاهة ومكافحة الفساد والمجلس الاعلى لمكافحة الفساد وهي جميعها هيئات لم تقدم أجوبة مقنعة لحد الان على سؤال ملح يطرحه الموطن البسيط ويريد معرفة جواب له يؤشر الجهات التي ذهبت اليها هذه الأموال الطائلة ناهيك عن الجهات ذات الاختصاص التي تطرح نفس السؤال من دون حصولها على جواب .

رسم معهد “أوبن ديموكراسي” (الديمقراطية المفتوحة) صورة قاتمة عن العراق قائلا إن الديمقراطية على النمط الغربي فشلت في العراق، مما تسبب بقيام اقتصاد بائس وحكومة غير فعالة، وأوضح المعهد الأمريكي في تقرير له أواخر عام 2021  إن العراق ما يزال يعاني من الفقر والظلم وصدمة الخسارة الكبيرة في الأرواح والعيش مع الخوف اليومي وإحساسهم بالعجز و الهزيمة والإذلال. إن العراق نظم أول انتخابات برلمانية في ديسمبر/كانون الأول العام 2005، فيما كان لا يزال تحت الاحتلال الأمريكي والبريطاني، وبعد صدور النتائج الاولية لتلك الانتخابات، طالبت قوى سنية وشيعية بتدقيق دولي في الشكاوى المتعلقة بتزوير الانتخابات، وهددت بمقاطعة البرلمان الجديد، كما اندلعت تظاهرات كبيرة في جميع أنحاء العراق حيث قال متظاهرون ان الانتخابات زورت لصالح الائتلاف الديني الشيعي الرئيسي.

أضاف التقرير : وصل أربعة رؤساء وزراء الى السلطة في العراق، بالإضافة الى ثلاثة رؤساء، وبرغم ذلك لم ينجح اي منهم في الاستجابة للمطالب المشروعة للشعب العراقي المتمثلة بإنهاء الفساد، ورفع مستوى المعيشة وخلق فرص عمل للعدد المتزايد من الشباب والمتعلمين وتوفير الأمن. ما بين عامي 2003 و 2020، كانت الثوابت الوحيدة القائمة تتمثل بالعنف الطائفي والإرهاب والفقر وانتشار الاسلحة والجريمة وعدم الاستقرار السياسي والانهيار الاجتماعي والشغب والفوضى والفشل الاقتصادي. يختتم هذا التقرير العالمي بالقول ” بعيداً عن الوصول الى “نهاية التاريخ” لفوكوياما، فقد “تسبب السعي خلف التحول النيو ليبرالي من قبل الحكومات العراقية المتعاقبة باقتصاد بائس ودولة فاشلة”.

رغم الغموض الذي يدور حول الحالة السياسية التي ستبعد القوى السياسية الحاكمة عن الرتابة التقليدية بعد فوز مقتدى الصدر وتشكيله للحكومة الجديدة بعد الاتفاق على الرئاسات الثلاث , لكن القوى الولائية من خارج الأحزاب المتفوقة في الانتخابات في مقدمتها قوى المليشيات المسلحة التي تشكل محور أزمة العراق الحالية والمستقبلية ستظل تخلق المشاكل إذا لم تتحول شعارات مقتدى الصدر الى برنامج حكومي يديره رئيس وزراء مقتدر لا يهم العراقيين إن كان شيعياً او كردياً مسيحياً ام مسلماً , المهم ان يكون مخلصاً للعراق أولاً .

لا يتوقع إن يحصل قريباً ولادة عراق مستقل عن النفوذين الإيراني والأمريكي , هذه هي المشكلة الجوهرية , لا يمكن توقع استسلام الإدارة الامريكية الحالية بقيادة بايدن أو من سيخلفه للأمر الواقع وترك العراق بعد أن خسرت على عهده الجديد المال والجنود .

من المفيد هنا استعراض تقرير نشرته صحيفة قريش اللندنية وأعادت نشره صحف ومواقع كثيرة وكذّبه مكتب الحكيم حول حوار جرى بصدفة جلسة متجاورة بين مهندس الاحتلالين الأمريكيين لكل من العراق وأفغانستان زلماي خليل زاد ومسؤول تيار الحكمة عمار الحكيم خلال الجلسة  الافتتاحية لمنتدى السلام والامن الذي نظمته الجامعة الامريكية في دهوك الشهر الماضي. قال زلماي للحكيم :فاجأ خليل زاد عمّار بالقول: يا سيّد عمّار الحكيم التاريخ لا يزال قريبا، ووالدكم الراحل كان معنا، أنا شخصيا الذي قررت بعد مؤتمر لندن قبل تحريركم من صدام، أن يكون الحكم بيد الشيعة، كلمتي وكلمة الرئيس بوش كانت واحدة، وهكذا كان الحكم بأيديكم، كل شيء مرّ من بين أيدينا وتحت سيطرتنا , قال الحكيم: لا ننسى جهود سيادتك معنا أبدا. ليرد خليل زاد: ليست جهودي، هذا قرار الولايات المتحدة كلها في تلك الأيام، وكان الجيش الأميركي وكل قواتنا تعمل وتعطي التضحيات في سبيل تثبيت حكم الشيعة بالعراق، ولكن ما هي النتيجة؟ نراكم تقصفوننا بالصواريخ، تريدون تدمير سفارتنا في بغداد وتدمير قواتنا التي هي في الأساس لحماية حكم الشيعة. و ردّ الحكيم: سيادتكم تعرفون أنّ هناك متطرفين نحاول صدهم وتقييد حركتهم دائما وخطابنا دائما , قاطعه زلماي: هذا ليس حقيقة الوضع. كنت إلى قبل أسابيع مشرفا على الانسحاب الأميركي من أفغانستان وتسليم الحكم إلى طالبان، قواتنا ليست موجودة في أفغانستان، كان هناك جيش كبير عند أشرف غني، لكن في ساعة واحدة وافقنا على رجوع طالبان إلى الحكم. غني لم يقصف قواتنا، بل توسّل بقاءنا ورفضنا، أنتم قصفتم سفارتنا ومصالحنا. حسنا يا سيد الحكيم، أنت بحسب وجهة نظرنا جزء من قيادة الحكم الشيعي في هذا البلد، لكن أنت تقول إنك لست مع التطرف، قل لهم إنّ الأميركان سينسحبون بالكامل، وأنهم قادرون أن يسلموا الحكم لمن لا يعضون اليد التي أحسنت إليهم، هذا ما سيحصل.

هذه المحاورة وغيرها من المعطيات الجديدة تشير بالأساس إلى أن نظام طهران مرتبك، لأنه من جهة يريد ضمان بقاء العراق تحت نفوذه كليّا وعدم انفلاته عبر ثورة داخلية شعبية تزيح الفاسدين والقتلة، ومن جهة أخرى يخشى نظام طهران تداعيات القطيعة بين الأميركان والزعامات الشيعية في العراق، فذلك يعني إزاحة قاعدة القوة الحقيقية التي استندت عليها الأحزاب رغم الدعاية الرخيصة بأنهم أعداء للأميركان.

النظام السياسي القائم في العراق هو أداة ذات طبيعة آديولوجية تابع لنظام طهران رغم وجود عبارات فضفاضة بالدستور , سياسات حكوماته الحزبية الطائفية وتطبيقاتها منذ عام 2005 تفننت في أساليب نهب ثروات البلد وأمواله النقدية التي قاربت 900 مليار دولار وتحويلها الى جيوب المافيات الحزبية مع احتفاظ طهران بالسيطرة على موارده وتعطيل شامل لحركة التنمية فيه , ومنع الحياة للقطاع الخاص بعد غلق وسرقة معامله وبذلك غلق الأبواب أمام الشباب للعمل سوى بوابة رواتب الحكومة المنهكة.

التغيير المهم الذي حصل داخل العملية السياسية بفعل ثورة شباب أكتوبر العراقية هو عزل القوى الولائية الشيعية عن التحكم المطلق بالسلطة وجعل الآخرين مجرّ تابعين تحت عنوان الشراكة السياسية . اليوم ووفق المؤشرات لحد كتابة هذه السطور في العاشر من يناير 2022 هو قيام حكومة أغلبية سياسية يتمنى العراقيون أن تكون مقدمة لإصلاح سياسي واقتصادي جذري في العراق إذا ما صدقت النوايا وتُرجمتْ الشعارات الى برامج عمل حكومية .

العدد 125 / شباط 2022