السعودية-إيران: الصلح العسير

ملفات وقضايا معقّدة تهدد مسار الحوار بين الرياض وطهران

محمد قواص

حري بالمراقب أن يتابع هذا العام تطور علاقات السعودية وإيران على ضؤ سلسلة من التطورات الإقليمية والدولية التي ستدفع وتؤجل عملية الصلح بين البلدين. ولئن يتأمل المراقب التحولات التي جرت في العراق وتلك الميدانية في اليمن كما تلك التي يجري التدول بها في فيينا حول برنامج إيران النووي، فإن كافة التفاصيل الخاصة بكل المنطقة

الرئيس الإيراني إبرهيم رئيسي: سياسة الانفتاح على الجوار

تلقي ظلالا على مستقبل المفاوضات بين الرياض وطهران كما على درجات التوتر والوئام بين العاصمتين.

سمات الحوار

عقدت السعودية وإيران أربع جولات حوار في بغداد برعاية عراقية تولى رئيس الحكومة مصطفى الكاظمي تدبيرها. آخر تلك الجولات في أيلول (سبتمبر) الماضي كانت الأولى في عهد الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي. وعلى رغم من دور الوساطة الذي لعبه الكاظمي، إلا أنه ما كان لينجح في مسعاه لولا تبدّل رؤية البلدين في مقاربة علاقاتهما وكيفية إدارة الصراع، ولو في الشكل، بينهما.

والثابت في مبدأ هذا الحوار هو أنه منضبط في الظاهر يستند على قليل من المعلومات إذا لم نقل غيابها، سواء حول جدول الأعمال أو طبيعة الملفات التي يناقشها الطرفان. وربما في هذا الكتمان وعدم تسريب أي أجواء إلى الصحافة، المحلية والدولية، ما يُظهر  توقا إلى إنضاج المباحثات علّها يوما ما وفي ظروف ما تنتج تفاهمات تنهي حالة القطيعة بينهما.

لكن الثابت أيضا أن هذا الحوار ما زال شكلياً لم يستطع أن يتقدم، أو أنه لا يريد أن يتقدم. وما يصدر عن طهران يكشف مغزى بسط طاولة حوار مع السعودية، وما يصدر من الرياض يكشف بالمقابل خواء ذلك المغزى وبطلانه.

الأمير محمد بن سلمان: الانتقال من المواجهة إلى الحوار مع إيران

يتحدث دبلوماسيو إيران عن “حوار بناء يحقق تقدما إيجابيا”، فيما المنابر السعودية الدبلوماسية تؤكد أن جولات الحوار “استكشافية” وتكاد تقول أنها ستبقى كذلك إلى ما شاء الله.

لا تريد إيران، حتى الآن، من هذا الحوار أن يثمر عن اتفاق حول مسائل معروفة جداً في نزاعها القائم منذ سنوات (حتى لا نقول منذ قيام الجمهورية الإسلامية) مع السعودية. تهدف إيران من الحوار استخدامه أداة جديدة من أدواتها السياسية في مواجهة العالم كما في سياساتها لدى الرأي العام الداخلي. يهمّ طهران أن تثبت للإيرانيين كما للعواصم الكبرى، لا سيما تلك التي تفاوضها في فيينا، أنها ليست معزولة في المنطقة وأن الحوار مع السعودية كما تطور علاقاتها مؤخراً مع الإمارات دلائل على ذلك. أما عما يثمره هذا الحوار فأمر ليس عاجلاً.

بالمقابل تغيّر موقف السعودية في التعامل مع “الحالة” الإيرانية. لم يعد لدى الرياض أي “فيتو” ضد أي تواصل مع طهران، وباتت تعتبر أن الوصل بأشكال مختلفة لا ينفي عن إيران طبيعتها العدوانية ولا يغير من تقييم السعودية للدور المزعزع للاستقرار الذي تلعبه طهران في المنطقة وضد السعودية والخليج خصوصا. ولا يبدو، حتى الآن، أن التواصل والحوار يخفف حالة التوتر ويخفف من أذى أذرع طهران (لا سيما في اليمن)، لكن المباحثات، وإن لم تثمر، لا تفاقم الأورام بل قد تفتح آفاق لعلاجات صعبة لكنها محتملة قد يعوّل عليها.

سوء تفاهم

ما بين “التقدم الإيجابي” و “الجولات الاستكشافية” بون شاسع يؤكد ولا ينفي مسافات التباعد في مواقف البلدين. وفيما انشغل المراقبون باجتماع خبراء أمنيين من البلدين في العاصمة الأردنية، قبل شهرين، واعتبروه تحوّلا لافتا، يُظهر حدث عمّان الجديد أن مفاعيل التفاهم ما زالت بعيدة. استضاف “المعهد العربي لدراسات الأمن” في الأردن وخلال ثلاثة أيام حوارا بين “الخبراء” لمناقشة قضايا الأمن بينهما، لكن الأمر قُدم بصفته حدثا غير رسمي، حضره خبراء “بصفتهم الشخصية”، بما أزال عن المناسبة أي وعاء رسمي يكون مكمّلا أو متكاملاً مع حوارات بغداد.

تعبر طهران عن غبطة بالحوار والتواصل مع الجوار، لكنها تعتبر مع ذلك الخلاف مع ذلك الجوار تفصيلا يجري

اليمن: حرب بالوكالة بين الرياض وطهران

التعامل معه. يبشّرنا رئيس الهيئة العامة لأركان القوات المسلحة الإيرانية اللواء محمد باقري إنه قد تم إجراء “لقاءات مع المسؤولين الإماراتيين والسعوديين، وتم رفع سوء التفاهم بيننا إلى حد ما”. وسواء في عَمّان أو بغداد، فإن لقاء السعوديين والإيرانيين هو حدث طوّرت تقييمه منابر إيران من “التقدم البناء” إلى إزالة “سوء التفاهم”. وعلى هذا فإن انهيار العلاقات السعودية الإيرانية، والاعتداء على الممثليات الدبلوماسية السعودية في إيران، وقطع العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، كما تعرّض الأراضي السعودية لصواريخ ومسيّرات إيرانية الصنع أيا كان مصدر إطلاقها، هو في عرف طهران مجرد “سوء تفاهم” يجري تبديده.

وفي تتفيه الخلاف السعودي الإيراني وفق الخطاب الإيراني ما يفضح تماما الرؤية الفوقية الاستعلائية التي تعامل بها إيران دول الخليج. تتعامل طهران مع حوارها العتيد مع الرياض بصفته هامشاً، فيما مفاوضاتها مع العالم في فيينا هي الأساس. لا بل تتقصّد طهران جعل هذا الحوار شكليا، يراوح مكانه، ولا يحقق أي إنجاز في أي ملف، بانتظار ما قد تنتجه غرف الضجيح حول البرنامج النووي. فإذا ما خرج المتفاوضون في العاصمة النمساوية بثمار ما، فذلك سيرفع من حجم الفوقية الإيرانية في الحوار مع السعودية ويقوي أوراق طهران داخله، وإذا أخفق التفاوض مع واشنطن

فيينا تقرر أيضا مستقبل الحوار السعودي الإيراني

وشركائها داخل مجموعة الـ 5+1، فذلك يُبقي طاولة بغداد واجهة شكلية تغرف منها إيران بشعبوية دون أن تقدِّم للسعودية ما ترفض تقديمه للعالم أجمع.

جولات استكشافية

وفيما تتمسك كافة المنابر في الرياض بتعبير وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان بوصف حوار البلدين بـ “الاستكشافي”، فإن مندوب السعودية لدى الأمم المتحدة عبد الله المعلمي، وضع في تصريحات له، الاثنين، نقاطا كثيراً على حروف “الاستكشاف”. قال إن المحادثات لم تحقق أي نتائج مهمة. أوحى أنها لم تناقش “القضايا الجوهرية التي تتعلق بسلوك الحكومة الإيرانية في المنطقة”. ذهب أكثر من ذلك متهما إيران بعدم الجدية، معلنا: “لسنا مهتمين بالمحادثات من أجل المحادثات”.

والحال أن الخلاف مع السعودية بالذات، وحتى إشعار آخر، هو حاجة للطبيعة العقائدية لنظام الولي الفقيه في إيران. إشكالية علاقة إيران مع السعودية هي بنيوية ملتصقة بقماشة النظام ودينامياته على نحو عجز رؤساء مثل محمد خاتمي وعلي أكبر هاشمي رفسنجاني عن فكّ عقدها والتحايل على قواعدها. وعلى هذا فإن تفاهم إيران مع المجتمع الدولي، على منوال الاتفاق النووي الذي أُبرم عام 2015، جائز ومشروع ومطلوب ويخدم بقاء النظام وديمومته، فيما العداء للسعودية قاعدة ثابتة لم تهتز منذ الأيام الأولى لحكم روح الله الخميني، وأن زوال ذلك الثابت يحتاج إلى متحوّل يطال القواعد الفقهية التي يقوم عليها نظام الولي الفقيه.

وعلى أعتاب جلبة حول الإعداد لجولة حوار جديدة بين السعودية وإيران، تطل الرياض على طهران حاملة ملفات تُحمّل نظام الولي الفقيه مسؤولية ما يصيب المملكة والمنطقة من أخطار وتهديد للأمن والاستقرار.

استهلكت السعودية المرحلة “الاستكشافية” التي وصفت بها، على لسان وزير الخارجية فيصل بن فرحان، حوارها الغامض مع إيران، وهي بصدد الانتقال، في أي جولات حوار مقبلة، لوضع النقاط على الحروف ومناقشة دوائر النزاع بلا لبس ومواربة ودون لغة ملتبسة حمّالة أوجه.

في طهران خرج من المحللين من توقّع أن تستغرق جولات الحوار وقتاً طويلا، ذلك، حسب زعمهم، أن قضايا الخلاف عديدة عتيقة عميقة تحتاج إلى كثير من الجلسات وإلى ارتقاء في مستويات المتحاورين. ولئن انتقلت الرياض من لغة متشددة إلى لغة مرنة لتسهيل التواصل مع إيران، غير أن السعودية أعادت تحديث لغتها وضبط معانيها بما يشي بانتهاء حقبة “الاستكشاف” والانتقال إلى مرحلة أكثر حزماً، على عكس ما تكرر منابر طهران الرسمية والإعلامية من أن هذا الحوار يحقق “تقدماً إيجابيا”.

تحولات اليمن

والحال أن تبدلا لافتاً طرأ على موقف السعودية من مقاربة الحلّ في اليمن. استمر الخطاب الرسمي في الرياض، في الدعوة إلى معابر سياسية للأزمة اليمنية يشمل كافة المكوّنات السياسية اليمنية، بما فيها جماعة الحوثي. ولطالما تسرّبت خلال سنوات الصراع اليمني، وحتى في الأشهر والأسابيع الأخيرة، أنباء عن تواصل تجريه المملكة مع الحوثيين، بعضه في مسقط. غير أن تطوّر الوضع الميداني وتبدّل خطط التحالف العربي كما وصول الحوار مع الحوثيين إلى نتائج صفرية، غيّر من قراءة الرياض لأبجديات الصراع في اليمن.

جديد الرياض أنها لم تعد ترى في الحوثيين شريكا في أي حلّ في اليمن. باختصار، وآخر الكلام، وكما أعلن المتحدث الرسمي باسم تحالف دعم الشرعية في اليمن العميد ركن تركي المالكي، فإن “الحوثيين لا يملكون القرار ليكونواً

سياسات واشنطن تدفع الطرفان للتفاهم

جزءاً من الحل السياسي في اليمن”. بكلمة أخرى فإن أمر الحوثيين وأجنداتهم ليس يمنيا يمكن التفاهم بشأنه بمفردات يمنية، بل يرتبط بصاحب الأمر في طهران، على نحو لم يعد معه بإمكان السعودية القبول بالزعم الإيراني، الذي قيل إنه طُرح داخل جلسات الحوار في بغداد، بأن الصراع في اليمن يمني داخلي ولا شأن لطهران به.

وحين تقارب السعودية الموقف من حزب الله في اتهامه بالدور الفاعل في اليمن لتوجيه الصواريخ الباليستية والطائرات المسيّرة باتجاه المملكة، فأنها تعامله في الجزء بأنه إرهاب لا يمكن التسامح معه ولا يمكن نسيان إجرامه، وتعامله في الكلّ بصفته، وفق المالكي، تابع لـ “النظام الإيراني الذي يرعى الأذرع في المنطقة ويقوم بالدمار والخراب”. وعليه فإن إيران، التي تجلس على طاولة الحوار، تشنّ عبر تلك الأذرع حربا حقيقية ضد اليمنيين والسعودية، وهي وراء الأذرع الأخرى التي تهدد الدولة في العراق ولبنان وسوريا، وبالتالي تهدد مصالح السعودية في المنطقة.

لن يكون الحوار السعودي الإيراني أداة من أدوات السياسة الخارجية للحاكم في طهران. ولا يمكن لذلك الحوار أن يستمر، بالنسبة للرياض، هامشاً لمتن يجري دفع الاستثمار الأول به في فيينا. كما أن المنطقة العربية برمتها، تستنتج، دون أي مفاجأة، اندفاع الولايات المتحدة وشركائها في نادي دول الـ 5+1، نحو صيّغ ماكيافيلية لإبرام انفاق مع إيران بشأن البرنامج النووي، دون الأخذ بالاعتبار خطورة العامل الإيراني على استقرار وأمن ووحدة دول المنطقة. وعليه تقود السعودية، حتى من خلال الحوار مع إيران، جهدا عربيا لمنع طهران من صرف اتفاقها المحتمل مع القوى الدولية لمصلحة تدعيم نفوذها في المنطقة والسعي لانتزاع إقرار به في اليمن وبقية بلدان نفوذها في المنطقة.

العامل السوري

في هذا السياق أيضا يأتي الموقف السعودي الذي عبّر عنه مندوب المملكة لدى الأمم المتحدة السفير عبد الله المعلمي خلال جلسة للجمعية العامة للأمم المتحدة لمناقشة قضايا حقوق الإنسان في بعض دول العالم ومن بينها سوريا.

شن المعلمي هجوماً شديدا ضد النظام السوري. قال: “لا تصدقوهم إن قالوا أن الحرب قد انتهت (…)، لا تصدقوهم إن وقف زعيمهم فوق هرم من جماجم الأبرياء مدعياً النصر العظيم”. ذهب لاتهام متهماً نظام بشار الأسد بدعم الإرهاب، وهنا بيت القصيد، “عندما أدخلوا إلى بلادهم حزب الله الإرهابي زعيم الإرهاب في المنطقة، والمنظمات الطائفية القادمة من الشرق وشرق الشرق”. والواضح أن هذا الموقف يندرج داخل سياق التصويب على سلوك إيران بالذات في هذا البلد، وبالتالي يضع “فيتو” على أي تطبيع عربي كان محتملا مع دمشق.

حرّكت السعودية منابرها السياسية والإعلامية باتجاه مُنسَّق (يتواكب مع توسّع العمليات العسكرية للتحالف العربي في اليمن) يتهم إيران بالمسؤولية الكاملة عن كوارث تشهدها المنطقة. والأرجح أن الرياض ستطوّر خطابها بنفس الاتجاه عشية أية تحضيرات لطاولة حوار جديدة بين البلدين. والواضح أن السعودية تستبق في موقفها هذا أي تطوّر قد يحمله أي اتفاق جديد قد يتوصل إليه أطراف المفاوضات في فيينا. وبالتالي فإن ممثلي السعودية داخل رواق الحوار مع

لبنان ساحة صراع رغم جولات الحوار

إيران يتسلّحون بلهجة سعودية جديدة تعبّر عن رفض للأمر الواقع الإيراني، سواء أغفله “نادي فيينا” أو عدّلته تفاهماته الجديدة، وتعبّر عن ديناميات سعودية، واضحة في اليمن ولبنان (لا سيما في الحملة المتصاعدة ضد حزب الله)، وقد تصبح أكثر دينامية في سوريا (وفق حديث عن إعادة رسم مشهد المعارضة) لرفض اعتماد أوراق إيران كحقيقة نهائية في الشرق الأوسط.

على أن السياسة الدولية تتحرك وفق ديناميات خاصة بحيث قد يطرأ ما يدفع بشكل مفاجئ إلى القفز نحو مرحلة الانفتاح والتعاون بين البلدين. والأمر كما أسلفنا لا ينطبق بالضرورة من دوافع ذاتية بيتية في السعودية وإيران، بل يرتبط بشكل آلي بالتحولات اللافتة التي تجري داخل الشمهد الدولي، سواء في ما يطرأ بعد حدث كازخستان أو مستقبل علاقة الغرب مع روسيا بشأن أوكرانيا أو بمسارات الصراع الأميركي الصيني الذي يتداعى مباشرة على مصالح الرياض وطهران. غير أن الثابت أن البلدين ينطلقان من قاعدة عدم المواجهة المباشرة والانتقال إلى مراحل التعايش والتمسك بالحوار مهما انخفضت مستويات نتائجه.

لكن الثابت أيضا أن هذا الحوار ما زال شكلياً لم يستطع أن يتقدم، أو أنه لا يريد أن يتقدم. وما يصدر عن طهران يكشف مغزى بسط طاولة حوار مع السعودية، وما يصدر من الرياض يكشف بالمقابل خواء ذلك المغزى وبطلانه. يتحدث دبلوماسيو إيران عن “حوار بناء يحقق تقدما إيجابيا”، فيما المنابر السعودية الدبلوماسية تؤكد أن جولات الحوار “استكشافية” وتكاد تقول أنها ستبقى كذلك إلى ما شاء الله.

والحال أن الخلاف مع السعودية بالذات، وحتى إشعار آخر، هو حاجة للطبيعة العقائدية لنظام الولي الفقيه في إيران. إشكالية علاقة إيران مع السعودية هي بنيوية ملتصقة بقماشة النظام ودينامياته على نحو عجز رؤساء مثل محمد خاتمي وعلي أكبر هاشمي رفسنجاني عن فكّ عقدها والتحايل على قواعدها.

جديد الرياض أنها لم تعد ترى في الحوثيين شريكا في أي حلّ في اليمن. باختصار، وآخر الكلام، وكما أعلن المتحدث الرسمي باسم تحالف دعم الشرعية في اليمن العميد ركن تركي المالكي، فإن “الحوثيين لا يملكون القرار ليكونواً جزءاً من الحل السياسي في اليمن”. بكلمة أخرى فإن أمر الحوثيين وأجنداتهم ليس يمنيا يمكن التفاهم بشأنه بمفردات يمنية، بل يرتبط بصاحب الأمر في طهران، على نحو لم يعد معه بإمكان السعودية القبول بالزعم الإيراني، الذي قيل إنه طُرح داخل جلسات الحوار في بغداد، بأن الصراع في اليمن يمني داخلي ولا شأن لطهران به.

السياسة الدولية تتحرك وفق ديناميات خاصة بحيث قد يطرأ ما يدفع بشكل مفاجئ إلى القفز نحو مرحلة الانفتاح والتعاون بين البلدين. والأمر كما أسلفنا لا ينطبق بالضرورة من دوافع ذاتية بيتية في السعودية وإيران، بل يرتبط بشكل آلي بالتحولات اللافتة التي تجري داخل الشمهد الدولي، سواء في ما يطرأ بعد حدث كازخستان أو مستقبل علاقة الغرب مع روسيا بشأن أوكرانيا أو بمسارات الصراع الأميركي الصيني الذي يتداعى مباشرة على مصالح الرياض وطهران. غير أن الثابت أن البلدين ينطلقان من قاعدة عدم المواجهة المباشرة والانتقال إلى مراحل التعايش والتمسك بالحوار مهما انخفضت مستويات نتائجه.

الحاجة إلى المصالحة

بعد نحو خمس سنوات من القطيعة الدبلوماسية، و42 عاما من الحرب الباردة، عبرت كل من السعودية وإيران عن نيتهما استئناف المحادثات التي يرعاها العراق للتقريب بين البلدين اللذين يقفان على طرفَيْ النقيض في معظم الملفات الإقليمية. وتستهدف الجولات الحالية الوصول إلى اتفاق مُستديم مدفوع بعدة تغييرات إقليمية ودولية، أهمها رحيل أحد أهم الأطراف الدولية الضاغطة على إيران (إدارة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب)، وانطلاق قطار التطبيع العربي مع إسرائيل العام الماضي الذي تعتبره طهران خطرا صريحا، والمصالحة الخليجية التي نزعت فتيل الأزمة بين دول مجلس التعاون الخليجي. ورغم أن المباحثات بين البلدين، لم تُفضِ إلى أي تحرُّكات رسمية على الأرض، فإن مؤشرات عدة تشي بأنها تُعيد المياه إلى مجاريها تدريجيا.

تعزَّزت بوادر التحوُّلات في الموقف الرسمي الإيراني تزامنا مع صعود إبراهيم رئيسي، السياسي الإيراني المحافظ، إلى رئاسة الجمهورية في إيران. وقد تبنّى رئيسي خطة بدأها سلفه حسن روحاني من أجل التطبيع مع السعودية، وهو ما انعكس على التصريحات الرسمية الإيرانية في الأشهر الأخيرة، حيث صرَّح “محمد جواد ظريف”، وزير الخارجية الإيراني السابق، بأن بلاده مستعدة لإعادة العلاقات الدبلوماسية مع السعودية واستئناف تبادل السفراء بين البلدين. ثم التقط الملك سلمان خيط المبادرة الإيرانية عبر تصريح نادر من داخل الجمعية العامة للأمم المتحدة، إذ قال: “إيران دولة جارة، ونأمل أن تؤدي المحادثات بيننا إلى بناء الثقة والتعاون”. ورغم أن التناقضات في المصالح والأيديولوجيات لا يمكن التغلُّب عليها بسهولة، فإن الطرفين لديهما مكاسب من التقارب والتفاوض في الوقت الراهن، ورغم أنه من غير المأمول أن يُحل الصراع بينهما جذريا، فإن أي هُدنة دبلوماسية مُحتمَلة سوف تُعزِّز الاستقرار الإقليمي.

عامل النفط

بدأت أولى محطات الحوار بين السعودية وإيران في سبتمبر/أيلول 2019، عقب استهداف منشآت شركة أرامكو النفطية بطائرات مُسيَّرة وصواريخ كروز، وهو هجوم كلَّف السعودية نحو مليارَيْ دولار بسبب وقف الإنتاج. وبينما ترقَّب العالم تصعيدا كبيرا، مع احتمالية نشوب حرب شاملة في الخليج إذا ما قررت واشنطن أو الرياض توجيه ضربة عسكرية رادعة لطهران، فإنهما لم تتخذا أي إجراء انتقامي تجاه إيران التي نفت صِلتها بالحادث، بل وعلى خلاف المتوقع، لاحت مؤشرات للتهدئة والحوار على لسان وزير النفط الإيراني الذي وصف نظيره في الرياض بأنه صديق منذ ما يزيد على 22 عاما، ثم تلاه تصريح للمُتحدِّث باسم الحكومة الإيرانية زعم فيه أن الرئيس الإيراني السابق حسن روحاني تلقَّى رسالة من الرياض سلَّمها له رئيس إحدى الدول (لم يُسمِّه)، ورغم أنه لم يذكر أي تفاصيل بشأن ما تضمنته الرسالة، فإنه علَّق بأن بلاده مستعدة للحوار. هذا ونفت السعودية رسميا الرواية الإيرانية، لكنها أظهرت إشارات تدُل على ترحيبها بالتفاوض.

بشكل غير متوقَّع، رفعت هجمات أرامكو أسهم التهدئة بين الطرفين، كونها أدَّت إلى تسريع الجلوس على طاولة المفاوضات، خاصة أن الضربة تزامنت مع تهاوي إنتاج إيران من النفط إلى أدنى مستوى له في ثلاثة عقود بسبب فرض الولايات المتحدة عقوبات اقتصادية تضمَّنت حظر تصدير النفط الإيراني (تُنتج إيران يوميا 2.1 مليون برميل من النفط)، على خلفية انسحاب ترامب من الاتفاق النووي عام 2018. وترى إيران أن السعودية لعبت دورا كبيرا في إخراجها من السوق النفطي، وضربتها أكثر من مرة في مقتل داخل منظمة “أوبك” عبر إصرارها على مستوى منخفض من الأسعار، كما أن المملكة أعلنت استعدادها سد فجوة الإنتاج لدعم الخطة الأميركية التي استهدفت تصفير صادرات النفط الإيرانية، ومن ثمَّ أعلنت رفع معدلات إنتاجها اليومية بـ 700 ألف برميل لتبلغ 10.7 ملايين برميل.

لكن السعودية سرعان ما تحوَّلت إلى موقف أكثر مرونة، لتسمح بتمديد استثناء إيران في اتفاق “أوبك بلس” لخفض الإنتاج، مما حافظ على عدم تراجع إيراداتها النفطية التي تضررت نتيجة العقوبات الأميركية، وقد اعتُبرت تلك الخطوة رسميا نهاية استخدام السعودية “أوبك” سلاحا ضد إيران. ومؤخرا، قدَّمت المملكة فرصة ذهبية لطهران بإجراء تخفيضات طوعية في إنتاجها من النفط بمعدل مليون برميل يوميا، وهو ما قابله إعلان إيراني عن زيادة كبيرة في معدلات إنتاج النفط. وبحسب مسح أجرته “رويترز” نُشر في إبريل/نيسان المُنصرم، فقد زادت الصادرات الإيرانية إلى 2.5 مليون برميل يوميا، بعدما انخفضت سابقا إلى 300 ألف برميل يوميا فقط مع ذروة حملة الضغط التي شنَّتها إدارة ترامب.

عامل اليمن

بعد عامين من اندلاع حرب اليمن، صرَّح ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان عام 2017 بأنه لا توجد نقاط التقاء بين الرياض وطهران للحوار والتفاهم. لكن بعد دخول معارك التحالف العربي عامها السابع دون أن تُحقق أهدافها باستعادة الشرعية اليمنية بعد استحواذ الحوثيين على العاصمة اليمنية صنعاء أواخر عام 2014، وجدت الرياض أن أمن الخليج قد تضرَّر، وأن ثمة نقاطا للحوار مع خصمها في اليمن بعيدا عن المطالب القصوى لكلا الطرفين.

ومن ثمَّ قرَّرت الرياض ألا جدوى من السعي وراء أهدافها الأصلية، وأن الأوقع والأوفر لميزانيتها العسكرية التي استنزفتها حرب اليمن هو التفاوض المباشر مع إيران التي تتكبد هي الأخرى عناء دعم حلفائها في شمال اليمن. هذا وسبق وطلبت السعودية من الوفد الإيراني الذي اجتمع بمُمثليها في العراق إثناء الحوثي عن عمليات استهداف الداخل السعودي والمنشآت النفطية بالصواريخ الباليستية والطائرات المُسيَّرة، وفي المقابل، قالت وكالة “بلومبيرغ” الأميركية إن إيران طلبت من السعودية إعادة فتح القنصليات وإعادة العلاقات الدبلوماسية باعتباره دليلا على حُسن النيات من جانب الرياض، ومقدمة لإنهاء الحرب في اليمن.

تملك إيران نقاط قوة عديدة على طاولة المفاوضات المرتبطة بحرب اليمن، لا سيما في ظل التمدُّد العسكري للحوثيين واقترابهم من السيطرة على مدينة مأرب الإستراتيجية، آخر معقل للحكومة الشرعية في الشمال. ورغم أن المطالب الإيرانية تبدو أكثر تطلبا من مبادرة السلام التي تتمسك بها السعودية لحل الأزمة اليمنية، حيث تطالب طهران بتوقيع اتفاق لتقاسم السلطة بين الحكومة والحوثيين وعقد تسوية سياسية تحت رعاية البلدين (أي السعودية وإيران)، فإن وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان قال إن الجولات الأربع مع الجانب الإيراني لا تزال في مرحلة الاستكشاف، والجديد في هذه التصريحات هو أن السعودية ابتعدت لأول مرة عن وضع شروط سابقة قبل التفاوض مع إيران، وقرررت الحوار المفتوح والمباشر دون قيود، وهو أمر استقبلته طهران بإيجابية.

العدد 125 / شباط 2022