الهوية والعولمه ..والطيور المهاجرة

بعد مقال ( الهوية والعولمه وحرب المفاهيم) في العدد الماضي نعود لكي نطرح نفس الموضوع ولكن من زاوية اخرى تتعلق بألأجيال الصاعدة من خلال الطيور المهاجرة، والاوطان الجديدة  ،وهم يتعايشون في  تربة مختلفة ،وفي مناخ ثقافي وفكري مغاير،وهنا يمكن ان يتسلل الى العقل وللوجدان تبعا لذلك طرح اّخر يلح ويضغط بين معادلتين الجذور والانتماء،و بين الهوى والوفاء .لذلك يعن لنا ان نتساءل عن موقف تلك الاجيال التي ولدت في المهجر،ومدى علاقاتها بالأوطان الأم ،ومدى انشغالها بقضية (الهوية أوالقوميه) . اننا حين نحن نتحدث عن (الهوية) انما نؤكد على انتمائنا،وهي قضية ترتبط بالجذور حيث الأرض والبقعه الجغرافيه ،والمولد والنشأة ، ومراحل العمر التي تشكل

انتوني ناتنج
وزير الدولة للشؤون الخارجية البريطانيه
 استقال احتجاجا على العدوان على مصر56
            عضو كابو

التاريخ المشترك ،بكل مافيه من معارك وانتصارات وانكسارات ، ليس للقطر فحسب ولكن للأمة كلها التي ننتمي اليها ، ثم للطقوس وللعادات والمناخ الفكري والثقافي الذي صاغته في النهاية اللغة المشتركه ،وبعد كل ذلك الايمان الكامل الذي بثته بل وزرعته ان لم تكن حقنته في نفوسنا  لكي يسري في عروقنا مسرى الدم بأن مصيرنا واحد ،بحكم الأخطار التي واجهناها ،من غارات استعماريه ،وطرحت امام اعيننا بالتجربة المتكررة بأن العدو حين يطأ بقعة صغيرة من الوطن العربي فانه سرعان مايتمدد،وينتشر،في كل المنطقة على امتداد الارض العربيه.هكذا روي لنا التاريخ ،وقص علينا المؤرخون ،وشهد بذلك الأجداد والآباء . لذلك نقول وبأعلى صوت أنه وفقا لدرس التاريخ وعظته وعبرته أن (القومية) هي الحصن الواقي ، من خلال التنسيق للدفاع المشترك ،وانها التفاعل الحي بين الأشقاء عبر التعاون والتكامل للبناء والتنمية ،وللنهضة والتقدم ،وانها كذلك القلعة التي تحمي المصير الواحد المشترك في مواجهة كل تهديد او وعيد .نردد ولا ننسى ان نرد على بنيامين نتنياهو حين يتخيل او يحلم – كما صرح في مقر الشاباك الاسرائيلي ذات مرة – بقوله ( اننا نجحنا في القضاء على القومية العربيه) نقول له ان الجغرافيا والتاريخ هما الحكم،واصحاب الكلمة الاخيرة.

ما معنـى الـوطـن ..؟

سؤال قد يحمل معنى السذاجة في طرحه ،فقيمة الوطن ومكانته ليست محل سؤال او استفسار حتى توضع محل استفهام،فقيمة الوطن تبلغ حد القداسة،وليست محل هاجس او خاطراو حتى فكرة شاردة.

في حوار دار بين شاب وفتاة في رواية قديمة لا اتذكر اسمها ،وتدور القصة حول هروب هذا الشاب في احدى الدول الاوروبية من التجنيد خلال الحرب العالمية الثانيه ،ثم التقى بتلك الفتاة التي حتمت عليها ظروف الحرب ان تنتقل من المدينه الى قرية نائية تنتشر فيها الملاجئ وقاية من دمار الحرب وويلاتها ،وتنشأ بينهما علاقة من التقدير والاعجاب أثر مواقف جمعتهما ،وكان كلاهما مثالا للتعاون  والعطاء ،لكن سرعان ما تعثرت تلك العلاقة ،حين اكتشفت تلك الفتاة ان هذا الشاب الخلوق انسانيا هارب من الجندية وفي زمن الحرب،وتنهال عليه لوما وتوبيخا وتقريعا الى حد اتهامه بالخيانة ،ولكنه استقبل ثورتها عليه باعصاب هادئة ان لم يكن ببرود شامل. وقال لها لماذا اخاطر بحياتي

كريس دويل
رئيس مجلس تعزيز التفاهم العربي البريطاني
الرسالة تتواصل رغم كل التحديات

،وعن اي شيئ ادافع ،اطلب منك الجواب .هل دخول الاعداء سيشكل فارقا بين ظلم هذا المجتمع لفقرائه وظلم الاعداء لهم ؟،هل سيكونون اكثر غلظة وقسوة ؟ هل عرفت معنى الجوع او المرض ؟ هل تعرفين معنى الضياع والغربة داخل ما تسميه وطن ؟ بل ما هو معنى الوطن ان كانت الحياة تملأها التعاسة ولا يلوح لها  امل ؟. وترد في خلاصة الحوار.. ان  الوطن قيمة تعلو كل الاعتبارات،وكل ماقلته مع كل الاحترام لعذاباتك واحتياجاتك جدير بالاعتبار،ولكنه ايضا قابل للتغيير بمعنى الاصلاح. الوطن قيمة تعادل وتعدل كافة كل الموازين . سؤال اّخر يتردد في بعض الظروف الاجتماعية.من هو الأب أو الأم؟ هل هما من انجبا ..أم هما من قاما بالتربية والرعاية ؟.المعنى واضح ان من قام بالأنجاب واعطاء الحياة له المكانه والاعتبار بحكم الدم .وكذلك من قام بالتربية والاعداد لمستقبل الايام ايضا له المكانه بحكم العطاء العاطفي والانفاق المادي وسنوات العناية والرعاية في مستقبل سنوات العمر. كلاهما له القيمة والتقديربحكم الجذور والأصل، وكذلك بحكم الوفاء والأمتنان والعرفان بالفضل.هكذا ينبغي ان تنظر الاجيال الجديده للوطن الجديد الذي استقبلهم وفتح لهم الابواب على مصراعيها وكفل لهم الرعاية والتعليم والعمل واعطاهم قبل كل ذلك الجنسية حتى وان كانت منحه، الا انها ميسرة في الأغلب الأعم .

حكاية تحمل اشارة

اقام مركز الدراسات العربيه في لندن عام 1981 ندوة عن (مستقبل السلام في الشرق الاوسط) وذلك بعد اخفاق الرئيس الامريكي كارتر في الانتخابات الامريكية وكان مهندسا لاتفاقيات كامب ديفيد ،ورحيل انور السادات في مصر،وفي  ليلة الافتتاح اقام رئيس المركز الراحل عبدالمجيد فريد حفل عشاء للمشاركين من المحاضرين،وبعض رجال السياسة واعضاء البرلمان والاعلام البريطاني.بعد كلمة الترحيب من رئيس المركز تحدث بعض الضيوف من الحاضرين وكان منهم الفلسطيني المعروف الراحل (شفيق الحوت) الذي قام وتحدث عن فلسطين وقضيتها واستطرد في كلامه الى مسؤولية بريطانيا ووعد بلفورواثاره ،واستبد به الحماس ،ومن ثم قاده الى الغضب ،فبدأ وبصوت منفعل ( نحن نكرهكم نحن نكرهكم) فقامت على التو السيده سهير الانصاري بمقاطعته قائلة (استاذ شفيق مع كل التقدير والاحترام لما تقول الا انني اوجه نظرك اننا في حفل عشاء وهو حفل اجتماعي،وما تقوله مكانه الوحيد قاعة المحاضرات غدا حيث النقاش والحوار والجدل ) ،وجلس شفيق الحوت ،ولكن قام احد اعضاء مجلس العموم

الدكتور مجدي يعقوب
الطبيب في خدمة الانسان قبل الجنسية

البريطاني وهو من حزب العمال وقال ( عفوا اريد ان اسال السيد المتحدث الذي انتهي من كلامه الآن ، لماذا تكرهنا ياسيدي ،اكره من ظلمك ،ولكن لا تكره شعبا ،فالشعوب تتاّخي ،وتتصادق وتتعاون ،والذي ظلمك ظلمنى ايضا فانا واحد من الشعب الذي عاني فقر اليد وعاني قسوة البرد،ونحن نكافح كل ظالم في الداخل وفي الخارج ايضا وقد عارضنا حرب السويس عام 56 وامتلات شوارعنا بالاحتجاجات،وهناك وزراء استقالوا  .الشعوب قضاياها واحده ،واّمالها واحدة وهي الاستقرار والسلام، نرجوك لا تبغض ولا تكره،لكن تحرك واعرض وناقش وجادل وسوف تجد من يسمعك كما سمعناك  ).تلك حكاية تعكس حقيقة وهي ان الضمير الانساني يحمل راية واحده هي الحرية لكل الشعوب بغض النظر عن حماقات السياسه وملابساتها  .

الانفتاح على مجتمع المهجر

التزام بقياسات يتوفر فيها الحس السياسي والتعاطف الانساني بين المجتمع البريطاني ،والمجتمع العربي، كانت هناك مبادره بريطانيه نشأت على مبدأ الحقيقة العاريه من كل مطمع ،لمصارحة الشعوب بالحقائق التي يفرضها الضمير ،لكي يتعرف الشعب البريطاني على قضايا العالم العربي، ويتفهم مشاكله وعلى الأخص القضية الفلسطينية ،ومن هنا تشكلت تلك المؤسسة أثر العدوان الاسرائيلي عام 1967،ومحاولات اسرائيل الظهور بدور الضحية.

 اولا – (مجلس تعزيز التفاهم العربي البريطاني،) الشهير ب(كابو)

تشكل هذا المجلس في اعقاب العدوان الاسرائيلي 1967 من مجموعة من السياسيين والاكاديميين والصحفيين البريطانيين لتوعية الشعب البريطاني بحقيقة الاوضاع في العالم العربي وخاصة القضية الفلسطينيه،وكان اول رئيس لهذا المجلس الصحفي مايكل اّدمز وقد خلفه جون ريداوي،ومن الاعضاء المؤسسين ديفيد واتكنز وسير دنيس والتر وانتوني ناتنج ( كان نائبا لوزير الخارجيه البريطانيه و استقال من حكومة ايدن لمعارضته الهجوم على مصر عام 1956 ) والنائب ايان جيلمور وكريستوفر ماهيو والنائب سيريل تاونسند ،ثم انضمت اليهم بعض الشخصيات العربيه منها ليلي منطورة وغادة الكرمي والدكتور محمد مهدي .كان الهدف تعميق الفهم لطبيعة القضايا العربيه وشرحها وتعزيزها داخل الحكومة والبرلمان البريطاني من خلال منبر قوي يتناول القضايا العربيه بالشرح والتفصيل. ، وهنا لابد لنا ان نذكر بكل التقدير والعرفان سعادة الراحل الكبير الشيخ ناصر المنقور سفير المملكةةالعربيه السعودية في لندن في تلك الفترة ،فقد عمل على تأمين عملها ماديا بدعم من اتحاد الغرف التجارية العربيه كانت قيمته 120 الف جنيه استرليني سنويا، ولكي ننقل للقارئ مدى الاهمية السياسية والاعلامية لتلك المؤسسه ،نعرض للأزمة التي

المهندسة زها حديد
موهبة التصميم هي وحدها جنسية

تعرضت لها عام 1998 حين حجب عنها التمويل لظروف غريبه ،فقد انزعج الكثيرون من ابناء الجالية العربيه وكذلك الاعلام العربي في بريطانيا فوقفوا معها وناصروها عبر صحفهم ،وقامت السيده ابتسام اّوجي رئيسة النادي العربي في بريطانيا بعمل مؤتمر شاركت  فيه المنظمات العربيه على اختلاف جنسياتها واصدروا بيانا خاطبوا فيه الملوك والرؤساء العرب كما خاطبوا رجال المال والاعمال بضرورة مساندة هذه المؤسسة للقيام بواجبها في شرح القضايا العربيه،كما  قامت بعمل حفل تأبين للراحل (انتوني ناتنج) عضو كابو والوزيرالاسبق في حكومة ايدن الذي قدم استقالته احتجاجا وقامت بدعوة اسرته لحضور ذلك الحفل تكريما لدوره .

ثانيا – النادي العربي في بريطانيا

شهدت ثمانينات وتسعينات القرن الماضي قيام مؤسسة  عربيه في لندن سجلت نجاحا كان له دوي ورنين.كانت تلك المؤسسةهي (النادي العربي في بريطانيا)وكانت له نشرة شهرية واسعة الانتشار ،اسمها (العروة) توزع مجانا على قائمة تبلغ ثلاثة اّلاف عنوان. واكشف هنا عن بعض مانشيتات ( العروة) بتاريخ ابريل 1998 ( ديفيد واتكنز يكتب الى توني بلير عن خطابه في حفل اصدقاء اسرائيل) . مانشيت اّخر بتاريخ مايو 1997( تحرك مكثف للنادي العربي في انتخابات بريطانيا) الى غير ذلك من عناوين ومتنشيتات) . كان النادي مؤسسة ثقافية اجتماعية تعني بشؤون الجالية العربيه ،وتخاطب قضاياها ومشاكلها، عقد النادي ثلاث مؤتمرات للجاليه العربيه في مسيرته التي لم تطول كانت تتصدرها دائما قضايا الشباب و(الانفتاح على المجتمع البريطاني) .كان النادي يعني على الخصوص بضرورة المشاركه الايجابيه في الانتخابات البريطانيه ويعقد من اجلها لقاءات متعددة مع المرشحين لعضوية البرلمان وكذلك مع اعضاء البلديات،وحتى في المؤتمرات البريطانيه وقضايا الراي ،كان النادي عنصرا فاعلا في حياة الجاليه العربيه وفي المسيرات المتعددة التي تناصر قضايا الشعوب من خلال اعضائه بما يعكس مدى التجاوب والتأثير، والانخراط في هذا المجتمع والتجاوب مع قضاياه المطروحة ، وكان ايمان النادي بحركة الشباب وراء تشكيله ودعمه للجنة خاصه بالشباب في النادي تنال رعايته واهتمامه/ واذكر دور حسين الحجاوي وريم اّوجي ومها زيان وغيرهم كثيرون مما لا تسعفني الذاكرة ) .كما اضع بعض الاسماء امام ناظري القارئ عرفانا  لدور الأفراد في تشجيع المبادرات ،واتساع حركة التنوير وتنمية الثقافة والمعرفه. اذكر ضياء الفلكي،وهو الرجل التاريخي في بناء هذا النادي كما كان نائبا لرئيس ( كابو) وابتسام اّوجي ودورها الفاعل والنشط في ترسيخ قاعدة النادي وموقفها مع (كابو) وانطوان رعد وهو الشاعر والمثقف الذي جلجل بصوته في المؤتمرات ،وصفاء الصاوي ودورها في التواصل مع المؤسسات العربيه،وقد توليا ايضا رئاسة النادي وكذلك الراحلة ندوة الجندي بن خضراء ودورها على المستوى الاجتماعي كما كانت رئيسة لرابطة (برنت)،واتذكر بكل اعتزاز دور الراحلة ( فوزية الفلكي) ودورها في تأسيس المنتدى التعليمي للنادي وادارتها لمدرسة ايلنج التابعه للنادي.

الشباب العربي ودورهم في المهجر

دور(البيت) بمعنى (العائلة)شديد الأهمية في اعداد الاجيال الجديده في دول المهجر،ليس في بريطانيا وحدها ،ولكن في باقي الدول خاصة التي تختلف في اللغة،وبالتالي في اصول المعرفة وطبيعة الفكر والثقافة .الانفتاح على المجتمع الجديد ضرورة حتمية لأعداد الشباب، فالأنغلاق داخل( جيتو) قضية خاسرة على كل مستوي ويمكن ان تشكل نوعية من الشباب يخنقها التعصب ،وتفتقر للمعرفة الحقه التي لم تنهل من الثقافة الأخرى ،خصوصا ان كان المجتمع الجديد يرتكز على معارف وعلوم وثقافة يمكنها ان تضيف لشخصية الشباب خصوبة اخرى لها اجتهاداتها وثمراتها الخلاقة. اتذكر شخصية الدكتور مجدي يعقوب، والمهندسة زهاء حديد والدكتور احمد زويل ،فقد تفاعلوا مع مجتمعهم الجديد وتعلموا ،ثم اضاافوا . تلك اسماء مشهورة وعالمية ،ولكن النجاح ليس فقط في الاطار العالمي، هناك نجاحات اخرى عديدة منها عمدة لندن الباكستاني الأصل،وهناك كذلك اعضاء مجلس عموم واعضاء مجلس اللوردات من اصول اجنبيه،وليست بريطانيه. فالباب مفتوح امام الاجتهادات والمبادرات. حتى

الجذورمع  التفاعل مع المجتمع الجديد يمكن ان تشكل اضافة للوطن الأم في شرح القضايا ،ومحاولة لعب دور في حياة الشعبين يعمق من صور الفهم والتفهم والتعاون بديلا عن التنافس ،والتكامل عوضا عن الصراع . ان شباب المهجر يمكنهم صنع المعجزات ان اّمنوا بدورهم ،وعنوا بتنمية مداركهم ، لكي يكون اللقاء مع الاقران من نفس دول المهجر ،مواقعه في ميادين العمل وليس في حلبات الملاكمه . واخيرا لنا ان نحلم بأن تتزايد وتنشط مجالس تعزيز التفاهم البريطاني العربي وان

تتجدد على الساحة البريطانية ادوارا مثل تلك التي لعبها ذات يوم  (النادي العربي).ان اّمالا عريضه

وأمنيات كثيرة تحيط بالأجيال الصاعده من شباب دول المهجر في صنع عالم جديد من العلاقات يمكنه ان يبني مستقبلا واعدا عماده السلام والامان والتعاون من اجل الرخاء.

                                                                                  أمين الغفاري

العدد 126 / أذار 2022