” تثاقُلات الأمومة؛ هروبٌ في ثبات”

نسرين الرجب

الحصاد- لبنان

          الأمُّ مدرسة والتي قال الشاعر عنها إن أعددتها أعددت شعبًا طيّب الأعراق، والأمّ المُقاوِمة التي تحضن الثوّار كما في رواية مكسيم غوركي “الأُمّ” وتُمهّد لهم الطريق نحو الحُرية. الأمّ التي من صبرها تعجنُ الخُبز وتُقدمه لأطفالها الجوعى، والأمّ الجميلة التي انتظرت ابنها وعاد مُستشهدًا! وهي الأمّ الغائبة الحاضرة في شعر السيّاب، غادرته طفلا وظلّت يدها تطرق على باب ذاكرته، وهو يقول: “هي روح أمي هزّها الحبّ العميق/ حب الأمومة فهي تبكي/ آه يا ولدي البعيد عن الديار/ ويلاه كيف تعود وحدك لا دليل ولا رفيق/ أماه ليتك لم تغيبي خلف سور من حجار/ لا باب فيه لكي أدق ولا نوافذ في الجدار”.

           لطالما أنصف الأدبُ النساء الأُمّهات، ولو أنّه في كثيرٍ من مضامينه تسامى في تصويرهنّ حتى مصاف الملائكيّة، وتجاهل في بعضٍ منه صورة الأمّ الإنسان التي قد تتأفّف من ثقلِ أمومتها، يُسلّط هذا المقال الضوء على تجرُبتين تناولتا موضوع الأمومة من وِجهتَيْ نظرٍ مُختلفة ليس من السهولة الحديث عنها والاعتراف بتبِعاتها على كاهل النساء، من خلال روايتين: “صباح الخامس والعشرين من شهر ديسمبر” للكاتبة اللبنانيّة الدكتورة يُسرى مقدّم، و”حليب أسود” للكاتبة التُركيّة إليف شفق. أديبات مسعاهُنّ الكمال وتحقيق الذات والاستقلاليّة، كيف وثّقن علاقتهنّ مع تجربة الأمومة  بعيدًا عن تلك الهالة التي تؤطّر وجودهنّ في وظيفة الأمّ المُتفانية والمنفيّة عن صوتها الأنثويّ والإنسانيّ!

          الأمّ الغائبة

          في كتابها “صباح الخامس والعشرين من شهر ديسمبر” والذي يمكن تصنيفه ضمن أدب الاعتراف، تعترف يُسرى مقدّم بثِقل الأمومة الذي ما كان في وُسعها حمله، وهي المحمّلة بالغضب والخوف من صورة الأم القاتمة والمضحيّة التي كانتها أمّها “سِكنة”،  فتُسائلها: ” كيف في وسعك أن تُميتي بعضًا منك، وما أمّتِه كان عصب الحياة وباعث الشهيّة إلى عيشها!” وتُكمل “كيف للكائن أن يقترف الفناء ويبقى حيّا، وهل للمحبة أن تُثمر وتُحيي أو تُنجي، لمّا الذاتُ تصير قبرًا لذاتها؟”.

 لم تستطع يُسرى أن تكون ذاتًا مغبونة في أمومتِها فكانت على الضفة المقابلة من الذات الأموميّة المصفّاة من سائر وجوه الأنوثة –كما في تعبيرها عن والدتها- الضدّ والنقيض، فهل كسبت الرهان، أم تورطت في شركِ الغفلة؟!

كانت يُسرى الطفلة تضيق كمدًا  من صمت والدتها الأرملة التي ارتدت السواد حدادًا على رغباتها وأنوثتها التي دفنتها بموت زوجها،  فكانت تشعر بالذنب تجاهها وترأف بها من سياط الصمت في آنٍ: “يقتلنا الصمت ببطء خبيث يا أمي.. يمرضنا ويُنقصنا كأنّه يأكلنا على مراحل!”.

تُمعن يُسرى في مُلاحظاتها التي تبنّتها طفلة عن والدتها حتى كبُرت معها وأورثتها شعورًا بالضيق ورغبةً بالهرب من كُلّ ما يُفني الذات ويحبسها: “ألاحظ كيف تصغرين وتتضاءلين. جسدك الجميل يفقد امتلاءه.. قامتك الممشوقة المشدودة تلتوي كأنّها تنكسر وتنحني كتفاكِ. تضيق مساحتهما.. وأرى كيف تستبدّ الارتعاشات بيديك كأنّ ريحًا تعصف بهما، وفي سهوِك عن حالك، وشرود عينيك في سحب الدخان تتكثّف ثم تتلاشى. تفلت السيجارة من يدك وتنتبهين… وأسمعك تستعيذين بالله من شرّ الرجفة اللئيمة… “.

          فضّلت يُسرى صورة المرأة الأمّ المُتحررة من ثقل أمومتها، العاملة، المتمرّدة والمُطالبة بتحقيق المُساواة في الحقوق والواجبات بينها وبين شريكها الرجُل، فأوكلت مُهمّة العناية بطفلها الأوّل لأمّها بينما هي تكدّ في عملها الذي تُحبّ، حتى نبت بينها وبين طفلها عشب الغربة: “عُميتُ عنه وتركتُه ينمو إلى أن تكاثف وصار “هشيرًا”  كذاك العشب الذي يُنبِته الهجران، وترتجله الحقول المتروكة. بعدتُ عن طفلي حتى صرت عنه غريبة غربتي عن الله الذي قاطعته… منذ أن استدرجتني الأحلام إلى يقين آخر، وجرفتني الحماسة والاندفاع إلى النضال والهتاف باسم عدالة موهومة وحرية مكذوبة..”

كانت تستعجل استقالتها من دور الزوجة الراعية والأمّ واالموظفة المتفانية، إلى أن صارت الأُمّ المُرتبكة الحائرة والمُختفيَة رمزًا ووجودًا من صورة العائلة على هاتف ابنتها في عيد الميلاد المجيد: “الفراغ يا سكنة  ليس مجرد غياب فحسب، إنه شكلٌ من أشكال الموت..”.

 تُدرك يُسرى أنّها مسؤولة عن صورة الأمّ الغائبة التي كانتها، تصفُ نفسها بالعقوق كونها تلوم أمّها وتُلصق بها تبِعات ما آلت إليه حالها أمام أطفالها عندما يُخبِرها ابنها الشاب بأنّه يُفضل عدم مُحادثتها وعندما تُغلق ابنتها الباب في وجهها كونها لم تُرافقها أو تدعمها أثناء ولادتها طفلها.

          قد نرى في يُسرى مأساة الأمّ المُعاصرة، والتي حمّلها ما يُسمى بتيار النهضة والحداثة أحمالاً فوق حملها، فانتقص من حضورها في المنزل وإلى جانب أطفالها وطالبها بالخروج من الدور تحت شعارات الجندر والنوع، ولذلك تخلُص إلى القول: “يخطئ من يظنّ أنّ بمقدور المرأة أن تناوش، ببساطة المقدّسات والمسلمات الإكراهيّة، وأن تحسم بيسرٍ وبسهولةٍ صراعاتها، ولا سيّما إذا كانت المرأة أمًّا!”

          اكتئاب ما بعد الولادة

          في روايتها “حليب أسود”  تتحدث إليف شفق عن صراعها الذاتي بين خياريْ العزوبيّة والزواج، والخوف من أن تحرمها الأمومة استكمال مسيرتها وتحقيق ذاتها المثقفة والتشيخوفية (أسماء مجازيّة لنسوة صغيرات يعشن داخلها ويعكسن جوانب من اهتماماتها وشخصيّتها) : ” في سعيي لأن أصير أُمّا، ما هو الجزء من الأمومة الذي يعتبر فيضًا من الداخل، وما هي الأجزاء المفروضة من الخارج؟ أهي الصدفة المحض التي جعلتني أبدأ التفكر في الأمومة عندما بلغت منتصف الثلاثين؟ أهي ساعتي البايولوجية التي بدأت ترنّ وتنذرني؟ أم أن ما بدأ بالإسراع والانفلات مني هو التوقيت الاجتماعي، التوقيت الذي يجبرنا نحن النساء على مقارنة بعضنا ببعض وقياس حيواتنا وفقا لذلك؟ “

          في حوارٍ ذاتيّ طويل ترجمت خلاله نظرتها للمواضيع وخوفها من المسلّمات الاجتماعيّة التي يفرضها المجتمع على المرأة كتحصيلٍ حاصل، تُعايش صراعَيْ الرفض: ” ليس للجسد بعد الآن أية سلطة عليْ، ليس لديّ رغبة في الأمومة، ولا أعمال المنزل، ولا واجبات الزواج، لا أريد الشعور بغرائز الأمومة ولا أن أنجب أطفالا. أريد أن أمسي كاتبة وحسب. ذلك كل ما أسعى إليه”، والاستسلام: عندما اختارت قرار الزواج ثمّ الحمل، ظهور “ماما الرز بحليب” كما اختارت تسمية للسيدة الصغيرة المسؤولة عن الأمومة التي راحت بها نحو إقصاء كل اهتماماتها السابقة بالتثقف والتفكّر وفرضت عليها حصر اهتمامها بسلامة الحمل، واتّباع برنامج صحيّ ورياضيّ، وقِراءة أُحاديّة عن كل ما يخصّ الأمّ ووليدها: “هكذا دخلتُ تجربة الحمل، بمشاعر مختلطة، كأنّني مختطفة إلى المجهول بشحنة كهربائيّة أعلى ممّا يتحمّلها قلبي..”.

هذه التغيُّرات إضافة إلى مشاكل تتعلق باستدعائها إلى المحكمة في تُركيا بشأن روايتها “لقيطة اسطنبول”، راكمت عليها الصعاب، إلى أن أنجبت مولودتها، وبدأت بعد مدّة تعاني من نوبات القلق والخوف: “أما أنا فلم أكَد أنام على الإطلاق، لحظة أغلق عيني تجتاح ذهني أفكار بغيضة وصور مزعجة. هالات. قلق..”، ثمّ الشعور بالفشل الذي نغّص عليها عيشها: “أريد أن أكون أمًّا متألّقة كاملة، ولكنني انتهيت للقيام بكل الأمور بالطريقة الخاطئة…البكاء مع الطفل..”

لتكتشف بذلك أنها مصابة باكتئاب ما بعد الولادة، فصوّرته كجنيّ مُستبد أقصى كلّ ذواتها حتى “ماما الرز بحليب”:  “الجني الذي يلاحق الأمهات الجديدات ويصطادهن.. أخبرتني جدتي عن جنيّ يسمى القارصة، معروف بالتحرُش بالأمهات حديثات الولادة…”

تتحدث إليف بطريقة مجازيّة عن أنواع الاضطرابات التي تُصيب النساء بعد الولادة ومنها، بلوز الطفل، ذهان ما بعد الولادة، واكتئاب ما بعد الولادة، وتُشخص الاكتئاب بجنيّ اسمه لورد بوتون وتصفه بأنه أمير الجنّ، يُقدِم على زيارته الأولى بعد أربعة أو ستة أسابيع من الولادة،  وتظهر أعراضه بالتدريج.

ويطال الاكتئاب واحدة من عشر نساء وهو لا يصطاد نوعًا محددًا من النساء ولكن هناك بعض الأسباب كأن يكون للمرأة تجربة سابقة مع الاكتئاب، أو صعوبات جسميّة أثناء مرحلة الحمل، أو مشاكل مالية أو اجتماعية.. أو زوجية، وأيضًا غياب دعم العائلة والأقارب. وتقول أنّها: لم تستطع الكتابة لثمانية أشهر..

تنتقد إليف الرؤية التقليديّة للأمومة كدور مقدّس، والرؤية المدنيّة التي تُروّجُ لها المجلات التسويقيّة حيث المرأة “السوبر وومن” التي توفّق بين وظيفتها كعاملة وكزوجة وأمّ.

وكما أنّ لكلّ شيء في هذا العالم نهاية، جاءت نهاية الاكتئاب على رسلها وتبعًا لمراحلها الخاصة في الانقضاء: “كما تعرف الفراشة متى تخرج من شرنقتها والبذرة متى تزهر بالورود”. “كما أن لكل شيء في هذا العالم تاريخ استعمال ينتهي بموجبه، كذلك  اكتئاب ما بعد الولادة… تحتاج كل امرأة إلى وقت يخصّها وحدها لتُنهي دائرة الاكتئاب داخلها؟”

          تمرّ النساء في طوْر أمومتهنّ بتجاربٍ مُتنوّعة، قد يحاولن الهرب من ثقل أحمالِهنّ إلّا أنّ العاطفة المُتجذرة في قلوبهنّ تمُدُهُنّ بالثبات. والأمومةُ اليوم تحتاج للخروج من الإنشائيّة ومن الصورة الملائكيّة التي حفظناها من الأمثولات الشعريّة، واستلهمنا ملامحها من النصوص النثريّة: المُضحيّة حتى امّحاء الذات، الناكرة لجسدها ورغباتها، المذنبة وهي في قمّة عطائها؛ ومن الطابع المُقدّس الذي في كثير من نواحيه انتقص من إنسانيتهنّ وحقّهن في أن يُخطئن وأن يعترفن على سبيل الإصلاح بأخطائهنّ من دون أن يُحمَل عليهنّ سوط الوصايا، وأن يكنّ أكثر حبًّا وتسامُحًا مع ذواتهن.

إلّا أنّ الأمومة دِربةٌ وتعلُّم وكما تقول إليف شفق: ” غير أنّ المرأة لا تصير أُمًّا بمجرد الإنجاب، بل عليها أن تتعلّم الأمومة..”.

العدد 126 / أذار 2022