العراق الضعيف ضحية مصالح النفوذ الإقليمية والدولية

عنوان فرعي : إيران الخطر الأكبر على مصالح العراق وشعبه

د. ماجد السامرائي

العراق مركز اهتمام عالمي لكونه يجمع بين عنصري الحضارة والطاقة النفطية . لكن اهتمامات عصر العولمة والعلاقات الاقتصادية قد أدت الى تراجع وضعف أهمية التاريخ والحضارة في الأوزان الدولية المعاصرة . مثال الولايات المتحدة الأمريكية أكبر دولة في العالم ثقلها تحقق ليس بعامل التاريخ الحضاري الذي لا تمتلكه , لكن بفعل عاملي القوة والاقتدار العسكري في منعطفات الحروب الكبرى والتفوق العلمي والتكنولوجي الذي أصبح المعيار الأول للأوزان .

تاريخ ما بعد سقوط الدولة العربية الإسلامية وعاصمتها بغداد بالاحتلال الهمجي المغولي عام 1258 لم ينصف هذا البلد في القرون اللاحقة , حيث تنازعت حوله أكبر امبراطورتين الفارسية والعثمانية بغض النظر عن دوافع عن أي منهما. لكن المؤذي لهذا البلد إن أحلام الصغار تكبر على حدود هذا البلد في تلبّس خرافي رغم التحولات العالمية .

ظلّت معادلة ضعف العراق وقوته كنظام سياسي ودولة متواضعة في العصر الحديث هي العامل الأول في نشاط مصالح النفوذ أو تراجعها . سسيولوجية الحضارة تراجعت رغم استحضارها القومي العروبي في العقود الأخيرة لتفجّر أكبر واطول حرب في المنطقة هي حرب السنوات الثمان بين العراق وايران , لم تغلق جروحها , بل تحولت نتائجها الى دوافع جديدة في الثأر والطمع في تحالف الشر لتدمير هذا البلد الغني بإنسانه وثرواته مثلما دمرت شقيقته سوريا ولبنان واليمن وباقي قائمة بلدان المنطقة العربية .

مفيد مراجعة أمثلة مهمة تفيد الرأي العام الشعبي العراقي والعربي وحتى الإسلامي لتشكيل صورة دور مصالح النفوذ في العراق بمنظر متعدد الدوافع حيث يدخل التاريخ مرّة واستغلال الضعف السياسي وتراجع الدولة العراقية مرة أخرى . في تسلسل لا يهتم كثيراً في الجغرافية المكانية حيناً أو الجغرافية السياسية حيناً آخر لقائمة أصحاب الأطماع في العراق لتصل درجة غير معهودة في استخدام للدوافع العقائدية والدينية كأدوات نافذة في تسهيل وتوطين الولاية والنفوذ في العراق بعد قرابة القرن من النفوذ الاستعماري البريطاني .

أمريكا وروسيا

في محاولة النهوض من وقع صدمة الحرب العالمية الأولى وما أنتجته من توازنات جديدة في مناطق النفوذ خاصة الشرق الأوسط وبينها العراق , انطلق عنان الصراع الآديولوجي بين الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة رغم تحالفهما ضد المارد الألماني هتلر وسحقه في الحرب العالمية الثانية .

النفوذ السوفييتي ثم الروسي

حاولت موسكو الاتحاد السوفييتي وضع العراق في مقدمة الدول العربية واشتغلت على ذلك عبر أدواتها الحزبية العقائدية ( الحزب الشيوعي ) في المنطقة العربية , لكنها خسرت في هذه المحاولة للتصادم الفكري ما بين المجتمعات العربية والإسلامية المحافظة أمام المنطلقات الماركسية الأخلاقية وفي مقدمتها فكرة الالحاد التي بالغ فيها قادة وتنظيمات الأحزاب الشيوعية المحلية وواجهت مقاومة شديدة في البلدان العربية خاصة العراق وسوريا ثم اليمن فيما بعد.

رغم ذلك تعاملت موسكو الشيوعية مع العراق عبر سياقات الدول ومصالحها , تطورت هذه العلاقة في عهود الأنظمة الجمهورية التي تلت النظام الملكي المحافظ قبل عام 1958 . تطورت العلاقات العراقية السوفيتية بجوانبها الاقتصادية رغم المحدودية التكنولوجية أمام التطور السريع لتكنولوجيا أمريكا وبلدان الغرب . لا نستغرب أن يتحول هذا الصراع السياسي الأمريكي السوفييتي في فترة الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي الى أنماط من مؤامرات تغيير الأنظمة السياسي في المنطقة خاصة العراق .

الإنتقالة الكبيرة في التعاطي مع فرضية نفوذ المصالح وقعت حين انقضت الولايات المتحدة الأمريكية على الكرملين وأسقطت الدب كأنه من ورق في عمليات تطويق واجهاض استخبارية ابتدأت من القلب ثم الأطراف في محيط السوفييت بلدان أوربا الشيوعية ( بولندا ورومانيا وبلغاريا وإسقاط رمز الجناحين الشيوعي والغربي جدار برلين تزامنت مع الهجمة المقابلة على النظام الشيوعي الافغاني واسقاطه تحت غطاء آديولوجي ديني ما زالت آثاره وتداعياته قائمة لحد اللحظة على الرغم من مرور أربعة عقود عليها .

دولة الاتحاد السوفييتي ومن بعده الروسي بقيادة رجل المخابرات بوتين تعاطت مع العراق قبل عام 2003 بمنطق انتهازي رخيص في الأزمات السياسية التي خلقتها واشطن لإسقاط الدولة العراقية   .

أمريكا الصعود والتراجع              

أمريكا خاضت ما يعادل أربع حروب في العراق منذ عام 1990. كانت الحرب الأولى حرب تحرير الكويت في الفترة 1991-1990 والحرب الثانية هي الغزو الذي قادته الولايات المتحدة للإطاحة بنظام صدام حسين عام 2003 أما الحرب الثالثة فقد كانت ضد داعش  من 2004 حتى 2012 جميع هذه الحروب وضعت واشنطن أخيرا على لائحة لو قدمت قبل عقدين من الزمن على طاولة منظري الاستراتيجية الامريكية لفزعوا من تلك الصورة المهينة . لكنها اليوم حقيقة , ما زالت بعض جوانبها غامضة وقد تبقى لعقود مقبلة , هل كانت حصيلة الفشل الآديولوجي لليمين الأمريكي المتحالف عقائدياً مع اليمين الإسرائيلي , أم إنها أخطاء استراتيجية يمكن معالجتها في السنوات أو العقود المقبلة , أم سياسية داخلية ناتج صراع الحزبين الكبيرين في أمريكا الديمقراطي والجمهوري . لكن السؤال الذي لا إجابة حوله تحالف الإدارات الأمريكية مع طهران رغم غنها في توصيفات قادتهم إحدى دول محور الشر .

بخلاصة شديدة لو كانت السياسية الأمريكية تجاه العراق خاصة بعد واقعة الحادي عشر من سبتمبر 2001  منطلقة من أجل تأمين المصالح الأمريكية المباشرة وعادة ما تكون تجارية , لكان الأمر سهلاً لأن النظام العراقي السابق لم يغلق تلك الأبواب والنفط العراقي كان متدفقاً وما زال رغم الكوارث التي الحقتها السياسة الامريكية في العراق . اذن لم تكن دوافع المصالح الاقتصادية هي المباشرة في العراق . كانت جريمة الاحتلال العسكري لا ترتبط بأي معنى من معاني النفوذ , خصوصاً  في القرن العشرين أو الواحد والعشرين . بل هي جزء من مشروع خبيث كانت واجهته المباشرة بناء المشروع الأمريكي للشرق الأوسط  الكبير الذي انهزم في النهاية . ألم يكن مخططو الاستراتيجية الأمريكية على دراية بوجود قوة نفوذ جديدة في الجناح الشرق للعراق اسمها نظام آديولوجي في الظاهر لا يمكن إلا أن يكون معادياً لليبرالية والحرية والديمقراطية التي كانت الشعار الأول لأمريكا . ام إن القصة أعمق بذلك بكثير , مجموعة من الأخطاء والخطايا أوقعت العراق فيما أصبح عليه اليوم من تدمير شامل وسرقة لأمواله بطريقة مافيوية فجة , وسحب شعبه الى مجاهل التاريخ المظلم للإنسانية .

واحد من المنظرين للسياسات الاستراتيجية الامريكية كوردسمان يحاول الدفاع عن السياسة الخارجية الامريكية الراهنة تجاه العراق بتركيزه على ثوابت معروفة مثل جغرافيته وموارده النفطية الكبيرة وتعداد سكانه وتأثيره الاستراتيجي يجعل الولايات المتحدة أن تهتم بأن يكون دولة مستقرة وآمنة أمرا أساسيا للحد من النفوذ الإقليمي المتنامي لروسيا وإيران وضمان بقاء سوريا معزولة جزئيا على الأقل وإقامة هيكل استراتيجي إقليمي أكثر فعالية يضم مصر، والأردن، ودول الخليج العربية الأخرى . لكنه يرمي المسؤولية على المسؤولين في العراق بوصفهم أنانيين إضافة الى الفصائل المتنافسة والانقسامات الطائفية والعرقية في العراق، وقد دفع الكثير من قادة العراق الولايات المتحدة إلى الرحيل في عام 2011 كما يدفعها الكثيرون الآن. وقد فشلت إدارة بوش في إعادة بناء القوات العراقية بعد 2003، ورحلت إدارة ترامب وتركت لإدارة بايدن ما لا يزيد عن هيكل أجوف يتمثل في قيام الولايات المتحدة بجهود في مجال التدريب والمساعدة العسكرية فقط.

لقد أخفقت واندحرت واشنطن في العراق بعد أن استغلها نظام طهران في تسهيلها له كل الأمكانيات  والوسائل للنفوذ والسيطرة لدرجة أن تفوّض أدواتها المليشيايوية أخيراً بمحاربة  الوجود الأمريكي في العراق لأنها تريد أن يكون خالصاً لطهران فقط . لا تنحصر المسألة في بقاء أو عدم بقاء أمريكا في العراق بوجود عسكري أو نفوذ سياسي , إنما في أن يغلق الباب نهائياً على قيام نظام سياسي قائم على الحكم المدني والتنمية مما يجعل البلد عرضة دائمة للتهديدات المتطرفة والصراع الطائفي والعرقي.

ايران وتركيا انبعاث الامبراطوريتين مهمة شاقة  

من الصعب فك وعزل مصالح الدولتين الجارتين ايران وتركيا في العراق , هناك تشابك وتأثير متبادل , لكن لا بد من وضع خصوصية للمصالح الإيرانية في العراق كونها ذات نمط جديد في عالم الاستعمار والتوطن والنفوذ باستخدام الشعار الديني المذهبي كأداة فاعلة لتحقيق المصالح رغم ان عالم اليوم الكوني لا يضع تأثيراً لفكرة الدين في قيام الدول وتحديد مساراتها , لأن ذلك عهد انقضى منذ حكم الكنيسة الاوربية وقيام عهد النهضة المدنية .

العراق قلب إيران  

من الصعب الإحاطة بسطور لقائمة المصالح الاستراتيجية السياسية والأمنية لإيران في العراق بعد التطور الجذري لنظام الحكم في طهران من المدني الى الاوتوقراطي المذهبي في  قيام نظام ولاية الفقيه عام 1979 .

الدور الإيراني قد فرض نفسه على الساحة العراقية منذ اللحظات الأولى للاحتلال الأمريكي عام 2003 ولحد الآن ، حتى أصبح من غير الممكن الحديث عن التطورات السياسية والأمنية وغيرها في هذا البلد دون ذكر التأثير الإيراني فيها. فتنامي الدور الإيراني في العراق لم يتأت من قوّة إيران، إنما نتاج لمتغيرات داخلية وإقليمية ودولية مهدت الطريق لهذا الدور السلبي .

يلخص الباحثان الأمريكيان جوزيف فلتر وبريان فيشمان في دراسة أعداها لـ”مركز محاربة الإرهاب” في “ويست بوينت” في الولايات المتحدة الأمريكية، نشرت في أكتوبر 2008: “إن لإيران نمطين أساسيين لممارسة النفوذ يتركز النمط الأول وهو الأكثر أهمية في برمجة النفوذ السياسي من خلال تفعيل العلاقات التاريخية الوثيقة مع العديد من المنظمات الشيعية في العراق، أما النمط الثاني فهو أن إيران تستعمل الحرس الثوري الإيراني في تقديم المساعدات بشكل تدريب القوى شبه العسكرية والأسلحة والتجهيزات إلى مختلف المجموعات المسلحة العراقية. التي تعمل ضمن مسمى الحشد الشعبي”.

تعاملت إيران مع العراق كغنيمة حرب بعد احتلاله، وقامت بفرض وصايتها على العملية السياسية، كما سعت إلى اعتماد مبدأ الترويج لإيجاد درجة من “الفوضى سهلة الإنقياد”، ليس أدل على ذلك من تصريح مستشار الرئيس الإيراني لشؤون القوميات والأقليات الدينية علي يونسي في منتدى الهوية الإيراني حينما قال إن : “إيران اليوم أصبحت إمبراطورية كما كانت عبر التاريخ وعاصمتها بغداد حالياً، وهي مركز حضارتنا وثقافتنا وهويتنا اليوم كما الماضي. إن جغرافية إيران والعراق غير قابلة للتجزئة، وثقافتنا غير قابلة للتفكك، لذا إما أن نقاتل معاً أو نتحد”.

بخلاصة شديدة وجدت إيران في الأحزاب ذات الواجهات المدنية والمنظمات العسكرية المليشياوية أدواتها الفضلى لاستمرار النهب الملياري لموارد العراق والقصة ذات فصول متعددة وطويلة من إشاعة تجارة وتوزيع المخدرات بشكل يهدد الشباب العراقي بالفناء الى تنظيم مجموعات السرقة والنهب للموارد العراقية واغراق أسواقه بالمنتجات الرديئة , ومنع أية محاولة للإصلاح الحقيقي في هذا البلد لأنها ستطّوق المصالح الإيرانية .

صحيح هناك هبة شعبية مضادة للوجود الإيراني المُدمر للحياة العراقية والمشوّه والمستلب للقيم الاجتماعية ووحدتها وتجانسها , دائماً ما كان التنوع عنصر قوة في حياة العراقيين , ثورة تشرين ( أكتوبر 2019 ) علامة فاصلة ضد النفوذ الخارجي في مقدمته الإيراني في العراق .الانتخابات الأخيرة شكلت ثغرة في جدار هذا النفوذ السيئ والمضّر لحياة العراقيين .

تركيا .. أحلام ووقائع

من الصعب الحديث عن دور تركي مُجرّد من تشابكات المصالح الأخرى خاصة الإيرانية ,  رغم المصالح التركية الإيرانية الأمريكية المشتركة , لكن تاريخياً يُسجّل لأنقرة أنها وقفت وعرقلت زحف القوات الأمريكية حين اجتاحت العراق واضطرت الى تحمل صعوبات اللوجستي للاجتياح من الخليج خاصة بوابة الكويت التي استثمرت الاحتلال البشع لتحلب من قوت العراقيين بما حصلت عليه من  ديون بقيمة 52 مليار دولار تم في هذا الشهر تسديدها جميعها .

لا يوجد نفوذ تركي بالمعنى الصحيح والكامل لتركيا في العراق قياساً على النفوذ الطائفي الإيراني . تركيا تتعاطى بحذر مع الجالية العرقية التركمانية في العراق وسط انقسامات داخل المنظمات السياسية لتلك الأقلية خاصة في كركوك التي يهيمن عليها الأكراد . كما دخل التيار الطائفي الشيعي معززاً لتلك الانقسامات . مشكلة تركيا ليس كما يصورها الاعلام المعادي للنهج الاخواني الذي تمثله القيادة التركية , إنما مشكلتها ذات أبعاد تتعلق بالمخاطر التي تهدد أمنها القومي وهو مجاميع حزب العمل التركي المسلحة المتطرّفة والتي تغذيها إيران وادواتها المليشياوية من داخل العراق خصوصاً مدينة سنجار العراقية  .

رغم ذلك هناك مصالح إيرانية أمريكية مشتركة بعلاقات تركيا الإيجابية حيث تسعى طهران الى إبعاد انقرة عن التجمع الخليجي في الملف السوري .

السعودية وايران في العراق

من المبالغة الإيرانية وأدواتها الحديث عن نفوذ سعودي في العراق , لتبرير ذلك النفوذ الإيراني الاستيطاني . لأن علاقة الرياض ببغداد ظلّت اعتيادية حتى حصلت كارثة اجتياح الكويت من قبل نظام صدام حسين حيث تضامنت وسهّلت الحرب الأمريكية على العراق , والترحيب بالنظام الجديد لما بعد نظام صدام . لا ينكر إن القوة المالية ومرجعية بيت الله تجعل من الرياض  قوة استراتيجية في المنطقة تبدو منافسة للتوسع الإيراني الذي ظلّ دائماً وفي مناسبات تاريخية كثيرة خصماً آديولوجيا للسعودية . إذا ما استعرنا منطق المكونات والثقافات نعم هناك صراع إيراني سعودي في المنطقة . وهذا ينطبق على العراق الضعيف حيث يصبح ساحة صراع جدّية . لهذا ولجميع المعطيات الاستراتيجية والسياسية من الصعب على بلد مثل العراق الحالي ضعيف تتنازعه الولاءات الطائفية والعرقية أن يتحول الى قطب ثالث يمكن له أن يقوم بدور الوسيط الاستراتيجي الفاعل . نعم قد تكون أرضه مكاناً ملائماً لحوارات خجولة ما بين الرياض وطهران.

لقد حولت طهران الأراضي العراقية الى ساحة للمليشيات الموالية لطهران لتوجيه الصواريخ وطائرات الدرون على الأراضي السعودية لا تنفعه التصريحات الخجولة لرئيس وزراء الحكومة الانتقالية مصطفى الكاظمي الذي يتحدث عن دلالات ومعاني لدور عراقي استراتيجي يفترض أن يتحقق لكن لا وجود له في الواقع .

الفعاليات السياسية التي حصلت خلال عام 2021 في التقارب بين الرياض وعمان والقاهرة ودبي والدوحة في مؤتمر بغداد  لدول الجوار برعاية فرنسية لا ترقى الى المستوى الاستراتيجي بقدر ما شكل مؤتمر علاقات ونافذة مهمة مفيدة لانفتاح العراق على محيطه العربي رغم الحضور الشاذ بروتوكولياً للوزير الإيراني .

العدد 126 / أذار 2022