موعد لبناني مع نقد الذات

محمد علي فرحات

من نافل القول التذكير بانسداد الأفق السياسي والإقتصادي في لبنان، وأن هذا البلد ينضم إلى جواره السوري والعراقي في التفكّك وضعف الدولة المركزية. وهناك إجماع على أن نسبة من اللبنانيين تزيد عن عشرين في المئة تعيش على حافة الجوع، والنسبة الأخرى الغالبة تعاني من الإنحدار نحو الفقر بعد إضمحلال ما كان يسمّى بالطبقة الوسطى، فيما يتضاءل عدد أهل الكفاية واليُسر.

والمفارقة أن لبنان الذي تدعم الولايات المتحدّة جزءا من تمويل جيشه وتقدّم تركيا عونا ماليّاً لقوى أمنه الداخلي وترسل دول عربيّة مساعدات ماليّة وغذائية لمؤسساته الإجتماعيّة، هذا البلد المنكوب يستضيف مليوني لاجئ سوري وفلسطيني يعيشون مع أربعة ملايين لبناني ممّن ينتظرون الإنضمام إلى من سبقهم نحو المهجر الأوروبّي والأميركي والأسترالي، في حكاية انتقال مأسوي بدأ منذ أواخر القرن التاسع عشر ولم ينقطع.

تقول أسطورة لبنانيّة مستعادة أن قمّة جبل في جرود منطقة جبيل شهدت ولادة أخوين من أنصاف الآلهة، عاشا معاً لفترة بعد وفاة أمهما البشريّة وغياب والدهما وراء الغيوم. وقد انتهى الأمر بالأخوين إلى الإفتراق، أذ بقي الولد البكر ( حفرون) مقيماً في مكان ولادته يحفر الأرض ويقلب الصخر لينتزع رزقه القليل، لكنّه ما لبث أن سقط في سعيه الصعب ليموت من جوع وبرد على صخرة ذلك الجبل الأجرد. أما الولد الثاني (نفرون) فمصيره يأتي من إسمه، هو الذي نفر من مكان إقامته لضيق سبل العيش ونزل إلى الساحل ليبحر نحو متاهات العالم، وقد ضلّ طريق العودة إلى موطنه الأول. هكذا (حفرون) مات على الجبل العاري فيما انطوى(نفرون) في دوائر النسيان.

أسطورة دائمة الحضور عن اللبناني الذي تتنازعه دعوتان إلى الخطر: الثبات في مكان الولادة والرحيل إلى المجهول. وبذلك يتوزّع فكره بين إرادة الإقامة ونزعة الإغتراب. بين التزمّت حتى الموت في الوطن والرحيل حتى الفناء في عوالم بعيدة. هكذا اللبناني في ثنائيّته: يموت اعتزالاً او يفنى انحلالاً.

(حفرون) و( نفرون) لم تُرسم صورتاهما على علم لبنان بل هناك أرزة تتوسّط بياضاً بين أحمرين. لكنّ الغائب الحقيقي عن العلم هو الطائفيّة التي تُعتبر توأماً للإجتماع اللبناني، مع ولادة الوطن ثم ولادة الدولة بسيرتها المتأرجحة بين سلام قليل وحروب كثيرة. وليس حضور الطائفيّة جامدا بل هي متحرّكة مع حركة المستفيدين منها، ومع ضغوط القوى الخارجيّة المتحكّمة في مسار شعب تتوزّع ولاءاته على القناصل قبل أن تتوزّع على الزعماء، وفي هذا المسار نلمح خلف المشهد أو من خلال النوافذ رجال دين يخلطون العبادة بالمصالح وبحسب مقتضى الأحوال.

ويتمّ استحضار الطائفيّة تماماً مع استحضار الأزمات، فهي تعمّق الإنقسام وتحرف القضايا عن حقيقتها نحو عصبيّة وهميّة تبدو حقيقيّة أكثر مما ينبغي. وطائفيّة اللبنانيين اليوم واقعة في قبضات زعمائهم، فلا يمكنك الإنتماء إلى طائفة ما لم تكن تابعاً للقابض على طائفتك. ويبدو اللبنانيون في عصرهم الطائفي الراهن أشبه بمجموعة من البلهاء المنساقين إلى حتفهم، على رغم ما عُرف عن اللبناني من ذكاء وحُسن تدبير بل من إتقان اللعب على التناقضات لتأمين منفعته الذاتيّة.

ولأن للطائفيّة قداستها بالضرورة فإن الزعيم القابض على الطائفة مقدّس لا يأتيه الخطأ أبداً بقدر ما يأتي أخصامه. هو الصواب وغيره الخطأ. وقد اعتاد تابعوه هذا التنزيه فصارت صورة الزعيم أشبه بانعكاس أرضي لصورة الإله السماويّة. ولطالما سمعنا صياح الطائفيين مخاطبين زعماءهم بشعارات تقارب الكفر والعياذ بالله.

زعماء في لبنان لا يأتيهم الخطأ من فوقهم أو من تحتهم ولا يقرب منهم حتى بعد الموت. من يستطيع إنتقاد الزعماء الراحلين قبل مئة سنة أو حتى أكثر؟ فإذا عمد كاتب أو خطيب إلى نقد زعيم راحل ينبري للرد عليه كثيرون من الأتباع الأحياء وصولاً حتى إلى التهديد الجدّي.

في ظل زعماء الطوائف المرعب هذه الأيام ننام ونصحو على ما يشبه الكوابيس. ولكن، لا بد من حيّز ولو قليل للأحلام الورديّة، ليكون لنا موعد مع النقد الذاتي من الآن فصاعداً للرد على ظلاميّة الزعماء وقسوتهم، وليبدأ كل منّا بنقد ذاته في هذا الموعد. وتنطلق المبادرة من الراغبين بالعمل في الشأن العام، لأن نقد الذات حتى في موعد سنوي يعطي أصحابه الحجّة بل حتى الحق في نقد الآخر.

ويكون نقد الذات بموافقة خصومنا في بعض مواقفهم، حتى لا يكون الصراع بين صواب مطلق وخطأ مطلق، كما يحصل في قسمة الطوائف في لبنان اليوم، قسمة تبقى هي هي مع توالي السنوات فلا يتحقّق تقدّم ونبقى نجتر المواقف نفسها.

ما يحصل في لبنان دليل أن المشرق العربي يتفتّت أو يكاد، وتتراجع صورة الوطن كإطار جامع لمصلحة صورة الزعيم التي تفرّق.

حركات للعنف سُمّيت ثورات أو تحرراً وطنيّاً أو انبعاثاً دينيّاً، لا تقدّم سوى العنف الأعمى وثنائية الأبيض والأسود.

ويكتمل انتصار تلك الحركات بتدمير حضارة الأماكن التي يتوهّمون تحريرها وبطيّ صفحة الماضي لنبدأ من الصفر الذي يسمّونه صفراً مباركاً.

عاشت الطائفيّة وعاش الصفر وعاش الزعماء واللبنانيون يموتون.

العدد 126 / أذار 2022