التضخم وغزو أوكرانيا بكبحان تعافي الاقتصاد العالمي

“الفدرالي” يطلق زيادات الفائدة و”المركزي الأوروبي” يبقيها صفرية ويسرّع إنهاء برنامجه التحفيزي

هلا صغبيني

لم يكد الاقتصاد العالمي يبدأ مسار التعافي من صدمة جائحة كورونا، حتى جاء تحليق أسعار النفط فغزو روسيا لجارتها أوكرانيا ليكبحا فرص انتعاشه ويضعانه على حافة الركود من جديد.

لقد تركت جائحة كورونا الاقتصاد العالمي عند نقطة ضعف رئيسية محورها ارتفاع معدلات التضخم وذلك على الرغم من الآفاق المستقبلية الإيجابية. وكان صانعو السياسات النقدية في العالم يعدّون العدّة لمواجهة هذه العلّة. إلاّ أن الحرب الروسية على أوكرانيا حوّلت الآفاق الاقتصادية العالمية إلى مظلمة في أيام قليلة.

فالصراع بين روسيا وأوكرانيا يؤثر على الاقتصاد العالمي من خلال ثلاث قنوات رئيسية: العقوبات المالية التي

التضخم في منطقة اليورو يبلغ أعلى مستوياته على الاطلاق مدفوعاً بارتفاع أسعار الطاقة

فرضت على روسيا، وارتفاع أسعار السلع الأساسية، واضطرابات سلسلة التوريد.

التأثير الأخطر على الاقتصاد العالمي سيكون في ارتفاع أسعار السلع الأساسية والتي ترتبط بالمخاوف بشأن الإمدادات. فمن شأن ارتفاع أسعار السلع أن يؤدي الى ارتفاع إضافي في التضخم العالمي بمعدلات تفوق المتوقع هذا العام. وهذا ما يضع المصارف المركزية في العالم في حيرة كبيرة. صحيح أن بعضاً منها كان شرع في مسار تشديد السياسة النقدية في محاولة لمكافحة التضخم، لكن التطورات الأخيرة طرحت علامات استفهام عديدة حول طبيعة وتوقيت الاجراءات التي ستتخذها ومدى انعكاسها على عملية التعافي.

قبل تفاقم الوضع بين روسيا وأوكرانيا، توقع صندوق النقد الدولي بقاء التضخم مرتفعاً في العام 2022 نظراً لإرتفاع أسعار الطاقة واضطرابات سلاسل الإمداد، وأن يسجل في المتوسط 3.9 في المئة في الاقتصادات المتقدمة و5.9 في المئة في اقتصادات الأسواق الصاعدة والاقتصادات النامية. وبعده، أعلن أنه ينوي خفض توقعاته في إبريل (نيسان) بعدما حذّر من أن التداعيات الاقتصادية العالمية الخطيرة لهذه المواجهة ستكون “مُدمّرة أكثر” إذا تصاعد النزاع.

البنك الدولي، وعلى لسان رئيسه ديفيد مالباس، اعتبر أن الحرب الروسية – الأوكرانية جاءت في وقت سيء بالنسبة للعالم لأن التضخم آخذ في الارتفاع، ووصفها بـ”الكارثة” على العالم لأنها ستؤدي إلى تقليص النمو الاقتصادي

لاغارد ترى أنه سيكون للحرب الروسية – الأوكرانية تأثير مادي على النشاط الاقتصادي والتضخم

العالمي.

فيما يتوقع المعهد الوطني للبحوث الاقتصادية والاجتماعية في بريطانيا أن تسهم هذه الحرب في زيادة التضخم العالمي بنسبة 3 في المئة خلال السنة الحالية، وأن تكبّد الاقتصاد العالمي حوالي تريليون دولار.

أوروبا المتضرر الأكبر

لاشك أن أوروبا هي المتضرر الأكبر كونها تعتمد على روسيا في الحصول على نحو 40 في المئة من حاجاتها من الغاز المسال وتستورد الحبوب منها ومن أوكرانيا. ويبدو أن الاتحاد الأوروبي قرر ألا يكون بعد اليوم “تحت رحمة حكّام مستبدين”، وفق تعبير رئيسة البرلمان الأوروبي روبرتا ميتسولا التي أعلنت أنه لا يمكن أن تستمر أوروبا في الاعتماد على غاز روسيا، وأنه يجب تنويع أنظمة الطاقة.

من هنا، أعدت بروكسل حلولاً للتخفيف من تأثير ارتفاع أسعار الطاقة وخفض واردات الاتحاد الأوروبي من الغاز الروسي بمقدار الثلثين هذا العام. وستقدم المفوضية الأوروبية اقتراحا ًتشريعياً بحلول أبريل (نيسان)، لتحديد مستوى متوسط التخزين بما لا يقل عن 90 في المئة في نهاية سبتمبر (أيلول)، من أجل تهيئة القارة لفصل الشتاء المقبل.

من جهتها، وكالة الطاقة الدولية ترى أن أوروبا يمكنها أن تقلل استيراد الغاز الروسي بأكثر من الثلث خلال عام. واقترحت خطة من 10 نقاط لبلوغ هذا الهدف، منها عدم توقيع عقود جديدة مع روسيا لتوريد الغاز، واستبدال الإمدادات الروسية بالغاز من مصادر بديلة، والالتزام بوضع حد أدنى لتخزين الغاز الطبيعي بهدف تعزيز مرونة السوق بحلول فصل الشتاء المقبل.

 “المركزي الاوروبي” يطلق صفارة تقليص شراء السندات

قبل الحرب الروسية على أوكرانيا ، كانت منطقة اليورو تواجه موجة غلاء هي الأسوأ منذ عقود دفعت إلى بلوغ التضخم الى مستويات خطيرة. وتفاقم الوضع مع الارتفاع الكبير في أسعار المشتقات النفطية التي زاد الغزو الروسي من اشتعالها. وهو ما فرض تحديات إضافية على المصرف المركزي الأوروبي الذي عليه أن يواجه تضخماً تخطى بكثير ما يستهدفه والبالغ 2 في المئة. إذ بلغ التضخم أعلى مستوياته على الإطلاق في فبراير (شباط) الماضي فوصل الى حدود الـ5.8 في المئة مقابل 5 في المئة في نهاية ديسمبر (كانون الأول) 2021.  وأظهرت أرقام “يوروستات” أن أسعار الطاقة قفزت 31.7 في المئة في فبراير (شباط) من 25.9 في المئة في نهاية العام 2021، يليها ارتفاع أسعار المواد الغذائية بنسبة 4.1 في المئة مقابل 3.2 في المئة في ديسمبر (كانون الأول).

منذ بداية بروز التضخم في العام الماضي، لم يكن المصرف المركزي الاوروبي ينوي التشدد في سياسته النقدية قبل أن ينهي برنامجه التحفيزي ووقف شراء الأصول. إذ يعتبر  أن تشديد السياسة النقدية بسرعة كبيرة قد يعرض الانتعاش الاقتصادي في أوروبا للخطر، وفق رئيسته كريستين لاغارد التي طرحت في المقابل فكرة الرفع التدرجي، كون أي رفع لأسعار الفائدة “لن يحل أياً من المشكلات الحالية”.

في الواقع، تتخوف لاغارد من أن يؤدي رفع أسعار الفائدة بسرعة أكبر مما ينبغي، إلى تمزيق الاتحاد ذي الـعملة الواحدة من خلال دفع تكاليف الاقتراض إلى الارتفاع وخنق التعافي في البلدان الأعضاء المثقلة بالديون مثل إيطاليا، وإسبانيا، واليونان. وتفتُت منطقة الـعملة قضية مزمنة في منطقة اليورو، لأن المصرف المركزي الأوروبي، على عكس الاحتياطي الفدرالي وبنك إنكلترا، يعمل مع 19 سلطة مالية مستقلة.

وبالتالي، فإن ما أفضى إليه اجتماع المصرف المركزي الاوروبي في العاشر من مارس (آذار) كان متوقعاً، إذ أبقى أسعار الفائدة بلا تغيير عند صفر في المئة، وفائدة الإيداع سلبية عند -0.5 في المئة. لكنه فاجأ الاسواق والمحللين بتحركه لإنهاء الحوافز التي كان يوفرها في وقت أقرب مما هو مخطط له، لأنهم كانوا يتوقعون أن يتأخر في هذا الاجراء حتى يتمكن من فهم التأثير الاقتصادي للأزمة الأوكرانية على منطقة اليورو بشكل أفضل. إذ قرر “المركزي” خفض برنامج شراء السندات (إيه بي بي) في الربع الثالث بعد أن يضاعف مشترياته في أبريل (نيسان) لتصل إلى 40 مليار يورو لتتدنى إلى 30 مليار يورو في مايو (أيار) فـ20 ملياراً في يونيو (حزيران). وقال إن أي تعديلات في أسعار الفائدة ستستغرق “بعض الوقت” بعد انتهاء عمليات شراء الأصول، وسيكون ذلك “تدريجياً”.

ووسط ارتفاع تكاليف الطاقة، رفع المصرف المركزي الأوروبي توقعاته للتضخم لهذا العام إلى 5.1 في المئة  من 3.2 في المئة. كان من المتوقع أن تنخفض هذه التوقعات إلى 2.1 في المئة في عام 2023 ، قبل أن تنخفض إلى 1.9 في المئة في عام 2024 – أقل بشكل هامشي من هدف المصرف المركزي البالغ 2 في المئة.

ورأت لاغارد عقب الاجتماع إنه “سيكون للحرب الروسية – الأوكرانية تأثير مادي على النشاط الاقتصادي والتضخم من خلال ارتفاع أسعار الطاقة والسلع الأساسية، وتعطيل التجارة الدولية وضعف الثقة”.

وكان صانعو السياسة في المصرف المركزي الاوروبي أظهروا تبايناً حاداً في مسألة خطط “المركزي”. فمنهم، كمحافظ المصرف المركزي اليوناني يانيس ستورناراس مثلاً، من رأى أن المصرف يجب أن يواصل برنامجه التحفيزي لشراء السندات حتى نهاية العام على الأقل ويبقيه مفتوحاً للتخفيف من تداعيات أي صراع في أوكرانيا. فيما محافظ المصرف المركزي النمساوي روبرت هولتزمان، وهو أحد الأعضاء الأكثر تشدداً في مجموعة المصرف لتحديد معدل الفائدة، اقترح أن يقوم المصرف بأول رفع لسعر الفائدة بعد الوباء هذا الصيف قبل نهاية برنامج شراء السندات. وقال إن رفع سعر الفائدة للمرة الثانية قد يأتي قبل نهاية العام.

“الفدرالي” سيتصرف “بحذر”

الاحتياطي الفدرالي من جهته عبّد الطريق أمام زيادات في الفائدة للجم التضخم الأميركي الذي بلغ في فبراير (شباط) أعلى مستوى له منذ 40 عاماً ليصل الى 7.9 في المئة. وكان خطاب رئيسه جيروم باول أمام الكونغرس، قبل اجتماع اللجنة المفتوحة للأسواق المالية التابعة له في 15 مارس/آذار، متقناً في رسم مسار السياسة النقدية المنوي اتباعها. إذ بعث برسالة شديدة الوضوح الى الأسواق المالية والمستثمرين مفادها نية الاحتياطي الفدرالي رفع معدلات الفائدة الأساسية. “هدف المصرف المركزي الأميركي في الوقت الحالي هو السيطرة على معدل التضخم الآخذ في الارتفاع، وهذا يعني أننا سنبدأ رفع معدل الفائدة، إلا أننا سنفعل ذلك بحذر، بانتظار ما ستسفر عنه تطورات الحرب من تداعيات”، قال باول في خطابه تاركاً الباب مفتوحاً أمام زيادات “أكثر حدة” خلال الاشهر المقبلة بطاً بتطورات معدل التضخم.

وهي المرة الأولى منذ العام 2018 التي يخطو فيها الاحتياطي الفدرالي باتجاه رفع معدلات الفائدة بسبب ابتعاد التضخم عن المستهدف المقدر منذ أكثر من 10 سنوات بـ2 في المئة.

“فيتش”: تحديات التضخم تهدد التوقعات الاقتصادية العالمية

وكالة “فيتش” ذكرت في تقرير لها أن تحديات التضخم قد تبدأ في تهديد التوقعات الاقتصادية العالمية هذا العام. وهي لا تستبعد أبداً سيناريو بقاء التضخم في الولايات المتحدة مرتفعاً للغاية في النصف الثاني من العام 2022 ، “مما قد يؤدي إلى تشدد الاحتياطي الفدرالي بشكل مفاجئ أكثر مما كان متوقعاً”.

وتتوقع “فيتش” أن يرفع الاحتياطي الفدرالي أسعار الفائدة بمقدار 100 نقطة أساس عام 2022 و100 نقطة أساس أخرى في عام 2023، وأن يرفع مصرف إنكلترا أسعار الفائدة بمقدار 75 نقطة أساس أخرى هذا العام و50 نقطة أساس في عام 2023 ، مع قيام المصرف المركزي الأوروبي برفع أسعار الفائدة بمقدار 20 نقطة أساس في العام المقبل.

صحيح أن “فيتش” ترى خطر حدوث تعديل مفاجئ في سياسة المصرف المركزي الاوروبي أقل من مصارف مركزية أخرى، لكنها تنبه في الوقت نفسه من أنه “إذا ظل التضخم في منطقة اليورو مرتفعاً، فقد ينتهي الأمر بانهاء التسهيل الكمي وزيادة أسعار الفائدة هذا العام”.

العدد 127 / نيسان 2022