نادي القطيع الضّال

لكلّ مقام…

في كتابه الرأي العام Public Opinion الصادر عام 1922، شرح أحد أهم منظّري أفكار «الرأي العام»، الكاتب والصحافي الأميركي والتر ليپمان Lippmann  Walter “ثقافة “الجمهور” أو الرأي العام، بقوله: “الشعب مثل قطيع حائر وجاهل، لا بدّ من إدارته عن طريق مجموعة من المسؤولين، فئة خاصة، تمكّنُها مصالحُها وأعمالُها من الوصول إلى كل المعلومات الممكنة، وتستطيع بفضل ذكائها الذي أوصلها إلى مواقعها في المجتمع، التفكيرَ والتخطيطَ لحاضرِ «القطيع الضال» ومستقبله. وبنظامٍ مُحكَم كهذا: نخبةٌ تفكّر وتخطّط وشعبٌ يسمع ويطيع”.

ينقسم المجتمع، طبقاً لتفسير ليبمان إلى ثلاثة: نادي القطيع الضال، نادي النخبة، ويضم النافذين في صياغة أفكار المجتمع ونشرها، ونادي الدولة بالقائمين عليها ومحبيها. الدولةُ ومسؤولوها وداعموها من رجال الأعمال والإعلام يمارسون يومياً مهمتهم المقدسة، في إدارة شؤون الجمهور/ القطيع الضال، والتخطيط لمستقبلهم لأنهم  غير مؤهلين (بحسب ليبمان)، ودوماً تُنقل الرسائلُ من الطرف الأول، أي نادي النخبة، إلى الطرف الثاني، نادي القطيع الضال، عبر الإعلام.

وهنا يتحوّل الدورُ الرسولي للإعلام، إلى دور صناعة “القالب” أو الـ Stereotype” ” في المعنى النفساني المعاصر، وهو صناعةٌ إعلامية ما زالت قائمة حتى اليوم لأهداف متعددة، وأبرزها تكريس السلطة القائمة بأوجهٍ متعددة.

عبر التاريخ، كانت المجتمعات بتقسيماتها، تشبه تقسيمات ليبمان من ناحية النوادي الموجودة في المجتمع وحتى يومنا الراهن، إنما بفارق وحيد وهو، تضاؤل النُخب لصالح تزايد نادي القطيع الضال. وهذا ما يوسّعُ الشرخ بين الشرائح، ويتعذّر معه إنتاجُ مجتمعٍ واعٍ لأهمية حضورِه ودوره.

كذلك تُطرح هنا مسألةُ الوعي من منظار جديد، ولاسيما مع الثورة الرقمية وتطور وسائل الاتصال الجماهيري، كظاهرة حيّة، أدّت إلى تغيير النظرة إلى الحياة وما حولها، من خلال تغيير مواقف الناس حيال القضايا. هذه المتغيرات أحدثت شرخاً في منظومات القيم، والأفكار والمعتقدات، ما أدّى إلى تضعضع هذه المنظومة، ونشوء نُظمٍ قِيمية مغايرة. ولربما الأخطر في ما حملته هذه النُظم الجديدة، هو شيوعُ الهبوط الفكري وتدنّي المستوى الثقافي وتراجعُه إلى حدود دنيا، كرّس ثقافةَ الانحطاطِ والجهلِ المعرفي وهو ما عُرف ب “الأمّية الحديثة”، التي تنطبق حتى، على المتعلمين وحملة الشهادات العليا.

هذا الواقع القائم، واقع الإعلام العربي تحديداً، والأدوار المنوطة به في ظل كل هذه التحديات الكبرى، لم يتسنّ له أصلاً، أن يؤدّيَ دوره كمساحة عامة، ولا كسلطةٍ نقديةٍ ورقابية، ولا كأداة تثقيف وترقٍّ، وذلك لأن الكِيانات السياسية الحديثة في العالم العربي، ومنذ نشوئها، لم تفسح له المجال ولم تؤمّن له هذا الترف. فكان الإعلام طيلة عقود أسير إطار محدّد أعطي له من دون أن يستطيع التحليق بالأفكار التحرّرية التي تُطلق الإنسان العربي من قوالب جاهزة وأفكارٍ تكبيلية. هذا بالإضافة إلى تكبيل بعض الإعلام بالانتماءات السياسية والمال السياسي، ما يجعله يفقد استقلاليته ومساحة كبيرة من الرأي الحرّ.

العدد 127 / نيسان 2022