إنها الحرب العالمية المصغّرة

محمد علي فرحات

نعرف كيف تبدأ الحرب ولكن لا نعرف كيف تنتهي. هذا يحدث في العقود الأخيرة ويستمر في أيامنا الحاضرة. كانت الحروب تخرج بمنتصر ومهزوم فصارت تخمد ولا تنطفئ، ونراها تتناسل وتتبدل مظاهر ألوانها وخطاباتها في انتظار اشتعالها من جديد. هكذا تعيش الكائنات البشرية فوق ارض مهتزة، ويتحول السلام الى حلم بعيد المنال نقرأ عنه في مؤلفات المفكرين ودواوين الشعراء.

 حرب اوكرانيا هي أحدث الحروب المشتعلة، وقد انطلقت من ارث ملتبس بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، وما سبقه من علاقة خاصة بين الروس والاوكرانيين دفعت موسكو الى تقديم شبه جزيرة القرم هدية لكييف، وقدم الهدية نيكيتا خروتشوف قائد الاتحاد السوفياتي الذي ولد في روسيا ونشأ في اوكرانيا وتزوج من اوكرانية، من دون ان نغفل الجذور المشتركة للروس والاوكرانيين قبل تعرضها لشرخ كبير خلال الحرب العالمية الثانية حين بقي ستالين مسيطراً على الجزء الشرقي من اوكرانيا في حين وضع هتلر يده على الجزء الغربي حيث انخرط عدد غير قليل من السكان في الحركة النازية.

هذه الحرب التي تهز اوروبا وتشغل العالم، طرفاها الرئيسيان هما روسيا والولايات المتحدة، الاولى بواسطة جيشها الغازي والثانية بواسطة وكلاء محاربين من جيش اوكرانيا وميليشياتها ووكلاء مساعدين سياسياً واقتصادياً وعتاداً عسكرياً من قادة اوروبا ودول أخرى. وعلى رغم تطور وسائل الاعلام والاتصال لا يستطيع المراقب المستقل معرفة ما يحدث حقاً، خصوصاً حين يتابع التصريحات المتناقضة للرئيس الاوكراني فولوديمير زيلينسكي، ومنها قوله ان جيشه هزم الجيش الروسي. يقول ذلك بكل ثقة ويخاطب العالم كرئيس دولة كبرى متوجهاً الى رؤساء اوروبا وأميركا وكندا باللوم والتقريع لأنهم اوصدوا أمامه أبواب حلف الناتو وسمحوا لروسيا باحتكار أجواء دولته. قال صديقي السوري الذي يكره روسيا ورئيسها ان زيلينسكي يذكره بالقيادات الوسطى للحزب الحاكم في دمشق التي تحترف اعلان الانتصارات، كما يذكره أيضاً بقيادات الميليشيات اللبنانية التي تتنمر في تصريحاتها نهاراً فيما تقبل في الليل احذية اسيادها العرب والأجانب.

وحرب اوكرانيا تبدو مديدة. تخفت وتشتعل لكنها تستمر باستمرار اسبابها: هذه دولة لا تستطيع ان تنفض بسحر ساحر انتماءها السابق الى الاتحاد السوفياتي، ولا قرابتها الاستثنائية بروسيا من ناحية التاريخ المشترك وحساسية الجغرافيا التي تجعل اقتراب كييف اللصيق باوروبا الغربية والولايات المتحدة بمثابة تهديد وجودي لروسيا. خصوصاً ان الجماعة الانقلابية الحاكمة في اوكرانيا لا تمانع في نصب صواريخ متطورة تطال موسكو بسهولة، وخصوصاً ايضاً ان دوائر في واشنطن تلمح الى مخطط لتقسيم روسيا نفسها الى ثلاث دول. وقد برهن حكام اوكرانيا الحاليون عن خفة سياسية واستراتيجية، فهم لم يلتفتوا الى التعددية في المجتمع الاوكراني وناصبوا المواطنين من اصل روسي العداء بل اضطهدوهم في عيشهم وثقافتهم، محدثين شرخاً عميقاً في المجتمع سمح لروسيا، وربما دفعها، الى تشكيل كيانين روسيين مقتطعين من اوكرانيا، كما لم يأبه حكام اوكرانيا بخطورة تهديدهم لروسيا ولعبهم دور الجار المؤذي لتلك الدولة الكبرى وهو دور بالأنابة عن الولايات المتحدة واوروبا الغربية لا أكثر ولا أقل. وتأتي خفة حكام اوكرانيا من كونهم شباناً وشابات ينتمون الى المناطق المعادية تقليدياً لروسيا وشعبها، ومن كونهم تسلموا الحكم بطريقة انقلابية تجد شرعيتها فقط في موجة الثورات البرتقالية التي تقودها مجموعات للحراك المدني تنسب الى نفسها تمثيل الشعب وتخلع عن القوى الأخرى أي تمثيل وإن كان موجوداً في الواقع.

وفي الطرف الآخر يبدو الرئيس الروسي متعجلاً في اللجوء الى الحرب ودفع جيشه الى احتلال اوكرانيا وتحطيم قواها العسكرية والاستراتيجية على الأقل. إذ كيف لبوتين ان يبدو محقاً حين يقتتطع جزءين من اوكرانيا ثم يغزو الاجزاء الباقية؟ ألا يعني ذلك انه يضم الجزءين الى الحضن الروسي ويعتبر باقي الأجزاء أعداء ميؤوساً من صداقتهم. حجة بوتين هي الخوف على مصير روسيا نفسها من التغييرات الدراماتيكية في السياسة الاوكرانية حين يتضح له استجابتها الى مخططات الولايات المتحدة وحلفائها في اوروبا الغربية. هل اوصدت ابواب الديبلوماسية في وجهه فلجأ الى الحرب؟ سؤال لن يجد جواباً واضحاً في فوضى المواقف الساخنة التي تعني استجابة للحرب أكثر مما تعني سجالاً ديبلوماسياً أو حتى اعلامياً.

ويجب ان لا يغيب الوجه الأبرز للحرب الاوكرانية وهو ان الولايات المتحدة تخوضها بالواسطة في سياق دفاعها عن وحدانية قيادتها للعالم بعد انهيار الاتحاد السوفياتي ومعه انهيار الثنائية التي كانت تحكم العالم وتتصارع حول مساحات النفوذ فيه. والحال ان وحدانية واشنطن مهددة من النمو الصيني المتعاظم وقوة روسيا العسكرية والنزعة الاستقلالية التي تراود قيادات دول بارزة مثل الهند وايران ومجلس التعاون الخليجي. وربما أرادت واشنطن نصب كمين للجيش الروسي وقد وقع فيه، أما من يدفع الثمن فهو الشعب الاوكراني المرشح لمزيد من الهجرات الخارجية والداخلية ولتحطيم مؤسساته الرئيسية وفي مقدمها الجيش، نتيجة انصياع حكامه المتحمسين وقلة احساسهم بالمسؤولية مثل اشباههم الميليشيويين في غير بلد في العالم، ونشير الى لبنان الذي يعتبر المثال الشرقي على المصير البائس الذي تسير اليه اوكرانيا.

وفي أي حال نشهد اشتعال حرب في قلب اوروبا، أي في قلب العالم، تصل تأثيراتها الى ابعد نقطة في الشرق وفي الغرب. كما نشهد طفح التناقضات في غير منطقة وبروز العصبيات من مكامنها، ومعها ضيق التفكير ومحدودية الثقافة واللجوء الى الانغلاق على الذات أمام عولمة تسود قطاعات كبرى تعجز عن اقناع الانسان بتجاوز حدوده المألوفة. والمؤسف ان الممارسة الدينية التي يفترض عنايتها بالانسان بما هو انسان نراها تتقزم لتشبه عصبيات ضيقة الافق وعدوانية وعمياء. ويتوازى تأثير حرب اوكرانيا مع فيض التناقضات ومع الانحياز الأعمى: من يعرف حقاً ان اوكرانيا التي تحظى بدعم اوروبا والولايات المتحدة يسودها حكم فاسد باعتراف المراقبين المحايدين، وقد بلغ الحد الأدنى للأجور فيها بتاريخ شباط (فبراير) 2021 حوالى 175 يورو ، أي أقل بعشر مرات عنه في دول الاتحاد الاوروبي، كما بلغ دخل الفرد في التاريخ نفسه 445 دولاراً شهرياً.

المتفائلون يقولون ان الحرب ضرورية لتجديد السلام، ولكن، في ما يبدو، نرى الانسانية تعيش مرحلة الحروب المستمرة والسلام القلق. وليس ذلك مستغرباً حين نلاحظ تردي مستوى الزعامات المسيطرة على الدول الكبرى والمتوسطة، ذلك ان معظمهم يركز على دوام سلطته وأن يحظى برضى الناخبين المحليين حتى وهو يعبث بمصير شعوب بعيدة.

نقرأ عن مأساة اوكرانيا وشبيهاتها في عالمنا، ونشهد في وسائل الاعلام امهات يحملن اطفالهن الى بلاد قريبة او بعيدة، في رحلة بلا عودة، كما سبقتهن أمهات من دول اخرى حطمتها خفة حكامها واصدقائهم وأعدائهم ايضاً.

العدد 127 / نيسان 2022