العواطف المحضة تهدد الأسره، وكذلك تهز العروش

الحب ايضا … مشكلة سياسية  

السياسة كما يرى بعض المفكرين ليست فقط السياسة الخارجية ،ومايدور في المؤسسات العالمية من حوارات او قرارات على شاكلة ما نشاهد في الامم المتحدة ،وما يتفرع منها، او في عمل وزراء الخارجية على سبيل المثال ،ولكن السياسة تتغلغل في حياتنا العامه بل وفي مشاكلنا الخاصة الى حد بعيد ،اذا نظرنا الى الحدائق مثلا فهي تعمل على تنقية الاجواء،وتنمية الاحساس لدى البشر بالذوق العام وتعميق الاحساس بالجمال،وعلى ذلك  فان انشائها ورعايتها يرون انه عملا سياسيا لأنه يساهم في سعادة المواطن .كذلك الاهتمام بسلامة جسم الانسان من العلل ،والوقاية من الامراض ،ليس ايضا عملا صحيا فحسب ولكنه ايضا عمل سياسي  دون ادنى شك فالمواطن السليم

الاميرة فتحية ثم رياض غالي والملكة نازلي
مأساة حقيقيه اخذ شكل الحب

صحيا هو المرشح الاول لكي يكون مواطنا صالحا لأسرته ولمجتمعه. الاهتمام بالتعليم ليس فقط عملا ثقافيا محضا ،فالمعرفة واتساع حركة التنوير عمل سياسي بلا شك من الدرجة الاولى لأنه يجعل المواطن يتحرك داخل مجتمعه بمسؤولية وفهم لدوره كانسان وكمواطن ، وهكذا  لو تمعنت في كل ما يتصل بحركة الانسان كمواطن سوف تجد ان كل مايحيط به من مشاعر السعادة أوالاحباط  هو في النهاية عمل سياسي  خالص ،كل ذلك  في ابعاده الأخرى يمكن ان يصل الى الحياه الخاصة بالانسان ،فيشكل من خلاله ( المشكلة السياسية) . نذهب الى ابعد من ذلك ، فنقول أنه حتى في قضية الانسان الأزلية وهي (الحب) سوف تجد انها في عمقها (مشكلة سياسية) في الاساس ..السؤال كيف..؟. في السطور التاليه نحاول الاجابة.ان المشاعر بين البشر تجري في انسياب حر وسلاسة مطلقه.لاتحدها ولا تصادرها قيود أو حواجز ،فالمشاعر بين البشر طالما ظلت في عالم الحلم الفردي،والخيال الذاتي ،فهي في مأمن من كل صدمة اوانكسار، فأحلام اليقظة لا تعرف المستحيل  ،ولكن ان خرجت من الاطار الأرحب حيث تحلق الاحلام في الخيال اللا متناه الى عالم الحقائق التي  تسكن الواقع،هنا تكمن المشكله ،وتنتعش المخاوف المؤكدة من احتمالات الاستعصاء على الحل، وما يترتب على ذلك من تطورات يصعب حصرها او تجنبها،ولا يمكن التكهن بمصيرها،وان كانت غالبا ما تترك اثرا يمثل جرحا في النفس أولوعة تحرك اعصارا في القلب.

الحب والرومانسية

الحب بلغة الرومانسية (كلمة من حرفين ،من غير ميعاد بيقولوها اتنين) أو الحب ( نظرة فابتسامة فسلام فكلام فموعد فلقاء)، أما بلغة الواقع فصوره مختلفة ،وحلم يكاد ان يكون صعبا فضلا ان يكون مستحيلا ،فالعوائق والمحاذير شديدة الوطأة ،الى حد لا يمكن تصوره . هناك تعبيرشهير في وصف قصص الحب والزواج يقول التعبير ( قصة حب انتهت بالزواج ) المتشاؤمون يقولون ان هذا التعبير صحيح حرفيا ( لأن الحب ينتهي تماما اُثر الزواج ) ! . لماذا لأن شخصية الطرفين تتضح معالمها بالعشرة ،ومهما كانت درجة الصبر والاحتمال فانها الأوضاع يمكن ان تنفجر في لحظة . على ذلك هل ( الحب ) تلك العاطفه السامية محل خلاف او اختلاف وتبعا على ذلك هل ( الحب)  تعيس في مجتمعنا الشرقي ؟ ليست هناك مشكله واحده لها جواب واحد ومع ذلك يمكن القول نعم ان الحب ان لم يكن تعيسا فعلى الاقل ليس سعيدا في مجتمعنا .السبب لأن العواطف في مجتمعنا لا تواجه مناخا صحيا ،ولذلك فان اشهر الأغاني وانجحها واكثرها رواجا ،هي التى تتحدث عن السهر والسهاد واللوعة والفراق ،والكثير منا دار في دوامة قصة حب لم تكتمل أو بشكل اّخر تتعدد قصص الحب،من القصة الأولى التي تفتحت عليها العواطف الى القصة الأخيرة التي ربما توجت بالزواج ولكن دون عواطف مكتمله،ويدور الحديث عن الحب (الطائش)وعن الحب (لناضج) ،التي تستقر عليه (العقول ) وليست (القلوب ). الاختلاط في مجتمعنا الشرقي عليه تحفظات كثيرة ،ولذلك فان المعرفة بالشريك المرشح لا تكون مدروسة ،وانما تخضع عمليات الأختيار- غالبا –  في اطار ما يسمى خطبة (الصالون ) حيث تتم الرؤية بين الطرفين،وقد تحدث بعض اللقاءات،ولكنها لا تكشف عمق الشخصية او ابعادها .بحيث يمكن ان يفاجأ احد الاطراف ان نصفه الآخر ليس نصفا وانما يكاد ان يكون ربعا او ثمنا او لا شيء على الاطلاق . تضاف الى كل ذلك عوامل أخرى.

العلاقات العاطفيه مشكلة لها ابعاد

مسألة بديهية للغاية فحواها ان العلاقات العاطفيه في اي مجتمع تخضع للكثير من المعايير التي تعارف عليها المجتع ،فالزواج ليس مجرد ارتباط بين شاب وفتاة ،ولكنه ارتباط بين عائلة وعائله ، بكل ما يتعلق بتلك العائلة من مجموعة القيم التي تدين بها ،وتلك القيم بدورها تتلخص في المكانة والثقافه بما تتضمنه من تراث موروث. في الافلام السينمائية العربيه القديمه جرى تزييف مشكلة الحب التى لا تعرف الفوارق الطبقية او الثقافة العامه او مجموعة العادات والتقاليد ، تحت ستار ( اننا كلنا اولاد تسعه ) بمعنى مدة الحمل. وان الحب لا يعرف الفوارق والكبير والصغير، فرأينا افلاما مثل ( احب البلدي) تمثيل انور وجدي وتحية كاريوكا،وتتضمن قصة الفيلم زواج ابن الباشا من ابنة العربجي ،أو فيلم ( اكسبريس الحب ) بطولة صباح وفؤاد جعفر وينتهي الفيلم بزواج بنت الباشا من الميكانيكي وفيلم ( بنت الاكابر )بطولة ليلى مراد وانور وجدي وزواج بنت الباشا من عامل تليفونات. هكذا تم التغاضي تماما عن الفروق االاجتماعية والثقافية والتعليمية بدعوى أن الحب ليس له سلطان،بل هو السلطان الحاكم. وهي شعارات ملفقه تستهدف الطبقات الفقيرة التي تشاهد مثل تلك الافلام فتدغدغ مشاعرها وتنافق اوضاعها ، والمهم رواج تلك السلعه ،ويخرج المشاهد الفقير ،وقد رأي هذا الزواج السعيد وانتصرت الطبقة الفقيرة باعتراف اسرة الباشا بأهلية الفتاة او الشاب بمصاهرتها ،وان كان الفيلم لم يلتفت ابدا للمستوى الدراسي والثقافي الذي يفصل بين الطرفين .

حين تزوج الشاعر الشعبي الكبير( ا.ف.ن) من الاستاذه الكاتبه ( ص.ك) ،وهو زواج لم يستمر ،وقد اعترضت عائلتها ابتداء ،كما اعترض الكثير من الاصدقاء للطرفين ،بدعوى عدم التكافؤ بينهما فالشاعير الشعبي الكبير لم يحصل على مؤهل دراسي واحد ،والكاتبه الناقده حاصلة على الماجستير في الادب ، كما ان هناك فروقا جوهرية في المستوى الاجتماعي، وفي حوار ذات مرة مع الراحل الكاتب الكبير محمدعودة ،قلت له لماذا كل تلك الضجة انه شاعركبير موهوب فما هي العقدة فرد ساخرا ( محمود شكوكو ايضا كان فنانا كبيرا ،فهل يصلح زوجا للدكتورة

احدى الصحف المعاصرة تروي الاخبار

سهير القلماوي ..!). من جانب اّخر يطرح البعض احيانا مفهوما غريبا عن الحب ،وهو انه يمكن ان يحدث من اول نظرة ! وهو ادعاء خيالي مفرط في السذاجة ،يرتطم بالكثير من الحقائق ،وأولها ان اول نظرة يمكن ان تثير اعجابا او حتى انبهارا بمستوى الجمال ،أو موضوعية الحوار، او لمحات الذكاء ،او تقديرا لعوامل الشهرة او الثراء والى ذلك من الأعتبارات ،ولكنه بالتأكيد لا يمكن ان يكون حبا . انه فقط انبهار اللحظة لا أكثر. الحب ايضا لا يمكن ان يستمر من طرف واحد ،وهو لكي تكتمل فصوله،وتتأجج مشاعره لابد من يتوفر له قدرا من العواطف المتبادلة، والا كان كصورة ليس لها افق ،فهي بالطبيعة قصيرة النظر.

نماذج لصور الحب المصادرة

انور وجدي  قطب سينما الاربعينات تزييف قصص الحب على شاشة السينما لدغدغة المشاعر

هي قصص حب معروفة واثارت ضجة في حينها، ثم طواها النسيان بفعل الزمن وتعدد الاجيال،ثم تجدد ما هو اهم،وماهو ملاصق لحياة الافراد.فيي اواخر الاربعينات من القرن الماضي حدثت مشكلة داخل الأسرة الملكية في مصر، تعرضت لها صحف تلك الايام .يتلخص الموضوع في ان الملكة الأم (نازلي) اصطحبت ابنتيها الأميرتين ( فايقه وفتحية) في رحلة خارج البلاد،وكانت السفارات المصريه بطبيعة الحال تقوم برعايتهم في الأقطار التي يمرون بها ،وتصادف ان كان احد العاملين في احدى السفارات المصريه شاب يدعى (رياض غالي)وكان يتفاني في خدمتهم ،و من ثم تعلق قلب الأميرة الصغرى ذات السبعة عشر ربيعا ( فتحية) بهذا الشاب ،وبناء عليه طلبت الأسرة ان يتفرغ هذا الشاب تماما لخدمتهم ،بل وان يرافقهم  في كل الرحلة مع تعدد محطاتها .بالطبع اثار ذلك الأنتباه، وتم اخطار الملك بهذا  الأمر  ،فرفض ،ولكن الملكة الأم ( نازلي) أصرت وكانت الملكة اساسا في خلاف شديد مع الملك أثر طلبها الزواج من رئيس الديوان الملكي (احمد حسنين باشا) ،وقد كان مرافقا للملك وقت ان كان اميرا يدرس في انجلترا، وقد اعترض الملك على زواج امه ،وان كان قد تغاضي عن الموضوع ،وتم زواج الملكه الأم عرفيا ،ولم يتم الاعلان عن ذلك رسميا ،وقد ضمرها الملك فاروق في نفسه. زاد الأمر التهابا ان طلبت الملكة نازلي من ابنها الملك ان يوافق على زواج الأميرة من هذا الشاب ،وهو ان كان مسيحيا الا انه قد اعلن اسلامه . تفاقمت عوامل الثورة في صدر الملك تجاه الام والابنه معا بعد ان تم عقد قران الاميرة وعدم الالتفات لمعارضته ،فقام الملك بدعوة مجلس البلاط الملكي وهو مكون من كبار رجال العائلة المالكه لعرض الأمر ،وانتهي الى تجريدهما الملكه الام والاميرة فتحية  من الالقاب الملكيه ومصادرة مخصصاتهما المالية ، ولم يسدل الستار عند هذا الفصل من الماساة فقط ولكن اتضح ان هذا الشاب لم يكن على اي مستوى من المسؤولية ،فاستولى على الاموال المدخرة سواء للام او للأبنه التي اصبحت زوجته ، وبددها في صالات القمار، متجاهلا مسؤولياته ازاء زوجته وابنائه،فقد اثمر ذلك الزواج عن ولدين وفتاة.انفصلت جسديا الاميره فتحية عن زوجها وقامت باعالة اسرتها من خلال عمل بحثت عنه ،وفي محاولة لاعادة الوصل واعدها على لقاء يبحثان فيه عن حلول ترضيها،وحين ذهبت اليه واصرت على الانفصال سارعها بعدة طلقات من مسدسه اردتها قتيلة وحاول الانتحار بطلقة اخرى ،لم تقتله وانما خلفته انسانا عاجزا عن الحركة ،وطالته يد العدالة بالسجن ولسخرية القدر كان ابناؤه شهود اثبات على انحرافاته.

قصة اخرى حدثت في ربوع تلك العائله التي حكمت مصر منذ عام 1805 حتى 23 يوليو عام 1952

صاهرت اسرة شاه ايران عائلة الملك فاروق ملك مصر، فتزوج ولي العهد محمد رضا بهلوي من الاميرة فوزية شقيقة ملك مصر، ولكن الزواج الذي اريد له دعم العلاقات بين ايران ومصر، لم يستمر طويلا وان كان قد انجب فتاة اسمها ( شاهيناز) فعادت الاميرة فوزية الى مصر ،واصرت على عدم العودة الى ايران فتم الطلاق ،وان بذلت محاولات لرأب الصدع لم تكلل بالنجاح ،وقيل ان اختلاف الثقافة والعادات والتراث المجتمعي كان ضاغطا ،ولم يكن عامل اتفاق بقد ما كان عامل اختلاف . عادت الأميرة ،ولم يمض وقت طويل حتى تزوجت من النبيل اسماعيل شيرين ،وهو من الاسرة المالكه وان لم يكن اميرا ،ورغم انه درس الاقتصاد السياسي في جامعة كمبردج الا ان انتدب لاحقا في الجيش كضابط وكان وزيرا للحربيه ليلة قيام ثورة 23 يوليو عام 1952 . اثمر الزواج عن ابن واسمه حسن وابنة اسمها نادية . التحقت ناديه بالجامعة الامريكيه ،وفي احد حفلاتها كان احد المدعوين الفنان الممثل ( يوسف شعبان ) تم التعارف ،وتكرر من خلال دعوات الاصدقاء، وحدث قدر من الاعجاب أو الافتتان بين الطرفين ومن ثم الاتفاق على الزواج . تقدم يوسف شعبان للخطبه من النبيل اسماعيل شيرين والاميرة والامبراطورة السابقة فوزية ،وكانت النتيجة المتوقعة سلفا الرفض ، ولكن اصرار الأبنه على الزواج جعل الأسرة تقاطع هذا العرس، أثمر الزواج عن الطفله ( سيناي) .

ثم تم الانفصال والطلاق ،لكي تعود الأبنه ومعها الحفيدة الى بيت اسرتها. عادت الابنه وتزوجت من جديد ،وبقيت الحفيدة مع الجد والجدة لكي يرعونها ،ويقومان بتربيتها حتى كبرت واّن للأب ان يأخذها لكي تعيش معه . تزوجت ( سيناي) في منزل والدها الفنان وتعثرت حياتها الزوجية وعاودت الكرة من جديد .تقول سيناي عن سبب فشل زواج والدتها من ابيها الفنان يوسف شعبان ( انه اختلاف طريقة التفكير، ولم يكن هناك نضج من البداية في الاختيار نظرا

الفنان يوسف شعبان  والأميرة  ناديه اسماعيل شيرين
قصة حب افتقدت الأتزان ولذلك لم تطول

لأختلاف حياة الفنان عن حياة الأسرة التي تربت في رحابها ،وتقول أيضا لقد لاحظت ذلك حين انتقلت من الحياة مع جدتي الأميرة الى منزل والدي شعرت بالتباين الشديد بين العادات وطريقة التعامل بين افراد العائلة الواحدة فهناك عند جدتي الأميرة لاتسمع صوتا عاليا على الاطلاق ،فالحوارات هادئة تماما مهما كانت درجة الخلاف ،والتعامل بين جدي وجدتي يتم بأقصى درجات الأحترام في المخاطبة او حتى في المداعبة وخفة الظل، ومواعيد الطعام لها قدسية خاصة لا يمكن التخلف عنها الا بظروف قاهرة ، والقراءة لها ايضا مكانتها ،وبلغات مختلفة ،وحين كنا نسافر للخارج الى سويسرا مثلا كانت برامجنا في الزيارات او النزهات وفق ترتيب خاص ،وكان الأصدقاء في سويسرا من العائلات الايرانية التي هاجرت من ايران بعد الثورة ،وكانت جدتي معروفة لديهم ،حين انتقلت للعيش مع والدي شعرت بالفروق في الحياة بين المجتمعين ،وكان الصوت العالي مزعجا بالنسبة لي ، نظرا لأني لم اعايشه من قبل . تستطرد مسألة الزواج تحتاج الى الكثير من التوافق على اسس لا تكفي فيها العواطف.

في النهاية الاختلافات الاجتماعية والثقافيه والفكرية ،واردة بشكل اكثر قسوة في مجتمعات تفتقر الى اوضاع سياسية صحيحه ،ولذلك لكي تسترد العواطف حريتها الحقيقيه ،لابد من معالجات جذريه هي في مجملها سياسية بالدرجة الاولى ،نصل من خلالها الى مجتمع متعاف من امراض التخلف الثقافي والاجتماعي والتربوي والتعليمي ‘فالسياسة في جوهرها تشمل كل ما يتعلق بسعادة الانسان عقله وقلبه ،وعلى ذلك وبجدارة  الحب بالفعل مشكلة سياسية .

                                                                              امين الغفاري

العدد 128 / ايار2022