حرب أوكرانيا “تكوي” مصر و”الأموال الساخنة” تضغط على احتياطاتها

السعودية وقطر والامارات سارعت لمساندتها و”الصندوق” قبِل مساعدتها

هلا صغبيني

تمر مصر في هذه الأيام بأزمة اقتصادية ومالية شديدة الوطأة فجّرتها الحرب الروسية – الأوكرانية التي استهدفت اقتصادها بضربات مباشرة وهدّدت أمنها الغذائي. تأهبت المملكة العربية السعودية والامارات وقطر سريعاً لمنع تعثرها، فيما قررت التعكز من جديد على صندوق النقد الدولي بأمل أن تستعيد زخمها وتواصل تقدمها.

لقد أشعلت الحرب الروسية – الأوكرانية أسعار السلع الغذائية عالمياً. فكان أن بلغت في مصر مستويات تجاوزت قدرتها على تحملها، وتسببت في تسجيل التضخم في مارس (آذار) أعلى مستوى منذ مايو 2019، ليصل إلى 10.5

العيش هو من أهم مصادر التغذية للمواطن المصري

في المئة في المدن المصرية على أساس سنوي، متخطياً الحد الأعلى لتقديرات المصرف المركزي خلال العام الحالي البالغة 9 في المئة.

هذه الدولة ذات الـ105 ملايين نسمة والمستوردة الأكبر للقمح عالمياً، تستورد أكثر 70 في المئة من قمحها من روسيا وأوكرانيا اللتين تعتبران أيضاً مصدرين أساسيين لتدفق السياح إليها وبالتالي النقد الأجنبي. إذ شكّل الروس والأوكرانيون نحو ثلث إجمالي الوافدين الى مصر في العام 2021.

وقد دفعت الحرب بالمستثمرين الأجانب الى الهروب من سوق الدين المصرية، إحدى الأسواق الناشئة التي شهدت تخارجاً سريعاً للأموال في الآونة الأخيرة، بسبب النزاع العسكري الخطير بين الروس والأوكرانيين، وقبلها توقعات رفع الفائدة الأميركية في أواخر العام الماضي.

وبحسب تقديرات “غولدمان ساكس”، خرج نحو 15 مليار دولار من السوق المصرية في غضون أسابيع قليلة. وقدّرت وكالة “فيتش” حجم الاستثمار غير المقيم في سوق السندات المحلية في مصر بـ28.8 مليار دولار في نهاية عام 2021، أو نحو 56 في المئة من احتياطيات النقد الأجنبي والأصول الأخرى بالعملات الأجنبية الأخرى لدى المصرف المركزي المصري.

وفي آخر الأرقام، تراجعت الاحتياطيات الدولية للنقد الأجنبي في المصرف المركزي المصري للمرة الأولى منذ مايو (أيار) 2020، إلى 37.08 مليار دولار في نهاية مارس (آذار) 2022، هبوطاً من حوالي 40.99 مليار دولار

أسعار الغذاء تقفز بالتضخم الى مستويات قياسية

بنهاية فبراير (شباط)، أي بانخفاضٍ قدره 9.5 في المئة ليفقد 3.91 مليارات دولار. وعزا المصرف المركزي تراجع الاحتياطي في بيان إلى قيامه باستخدام جزء منه لـ”تغطية احتياجات السوق المصرية من النقد الأحنبي، وتغطية تخارج استثمارات الأجانب والمحافظ الدولية، ولضمان استيراد سلع استراتيجية، وسداد الالتزامات الدولية الخاصة بالمديونية الخارجية”.

 الأزمة الراهنة مركبة

خطورة الأزمة الراهنة في مصر تكمن في أنها مركبة ومتعددة الجوانب: ارتفاع جنوني في الأسعار لاسيما سعر الرغيف )العيش( وهو من أهم مصادر التغذية للمواطن المصري؛ تضخم بلغ حدود الـ10 في المئة في أعلى مستوى منذ العام 2019؛ تراجع كبير في سعر صرف الجنيه في تحرك للعملة المصرية هو الأول منذ نحو 5 سنوات؛ ارتفاع كبير في تكلفة شراء القمح من 3 مليارات دولار سنوياً قبل الحرب الى نحو 5.8 مليارات؛ تراجع في عائدات قطاع السياحة الذي يؤمن عادة نحو 15 في المئة من عائدات العملات الاجنبية ونحو 12 في المئة من اجمالي الناتج المحلي، وارتفاع في مستويات الدين العام وهي معضلة كبيرة كانت تواجهها مصر قبل الحرب.

هذه التطورات دفعت بالحكومة إلى التحرك سريعاً على أكثر من جبهة لاحتواء ما يحصل مع مصارحة المصريين بحقيقة الوضع الراهن. فطلبت المساعدة مجدداً بصندوق النقد الدولي توازياً مع خفض توقعاتها للنمو الاقتصادي للسنة المالية المقبلة 2022-2023 إلى 5.5 في المئة مقارنة مع توقعات سابقة بـ5.7 في المئة قبل اندلاع الحرب؛ واتخذت اجراءات اقتصادية تقشفية صارمة كمثل إعادة هيكلة الموازنة العامة ووقف المشاريع القومية الكبرى التي لم تبدأ بعد؛ ورفعت أسعار سلع وخدمات أساسية لتوفير عائدات مالية تنقذ الاقتصاد؛ وقررت إصدار أدوات جديدة مثل الصكوك وسندات التنمية المستدامة والسندات الخضراء. ومن ضمن هذه الخطة، طرقت باب أسواق المال اليابانية فطرحت إصداراً لسندات “ساموراي” بقيمة 60 مليار ين ياباني (نصف مليار دولار) لتصبح أول دولة تصدر سندات بهذه العملة.

وتريد مصر من خلال الإصدار جذب سيولة إضافية إلى سوق الأوراق المالية، وتنويع أدوات الدين، وعملات وأسواق الإصدارات، وشرائح المستثمرين، وإطالة عمر الدين، وخفض تكلفة الدين الخارجي، وخفض تكلفة التمويل.

وكانت مصر نفذت عام 2016 برنامجاً مع صندوق النقد الدولي من أجل الحصول على قرض بقيمة 12 مليار دولار مع خفض قيمة العملة بشكل حادّ وخفض الدعم. كما حصلت من الصندوق في العام 2020، وبموجب اتفاق استعداد ائتماني، على 5.2 مليارات دولار، بالإضافة إلى 2.8 ملياري دولار بموجب أداة التمويل السريع.

وسهّلت مصر الطريق أمام التوصل سريعاً إلى برنامج تمويلي جديد مع الصندوق برفع أسعار الفائدة وحفض قيمة الجنيه – وهما شرطان من شروط الصندوق – وإعلانها إجراءات لتوسيع الحماية الاجتماعية المستهدفة. وقد تؤدي النقاشات مع الصندوق إلى حصول مصر على تمويل يتراوح بين 5 و7 مليارات دولار بين تمويل طارئ وآخر وفقاً لبرنامج اقتصادي يتم الاتفاق عليه بينهما.

وكان المصرف المركزي المصري اتخذ قراراً مفاجئاً رفع فيه أسعار الفائدة بنسبة 1 في المئة في محاولة لجذب الاستثمارات الأجنبية بالدولار في أدوات الدين الحكومية بعد الخروج السريع من السوق المصرية.

 الدول الخليجية تهب لمساعدتها

توازياً، هبّت الدول الدول الخليجية لمساعدة مصر، فخصصت 22 مليار دولار استثمارات وتمويلات لها، مقسمة بين 5 مليارات دولار أودعتها المملكة العربية السعودية في المصرف المركزي المصري، و10 مليارات أخرى يضخها الصندوق السيادي السعودي، و5 مليارات دولار استثمارات قطرية في مصر، و2 ملياري دولار من صندوق أبو ظبي السيادي لشراء حصص في شركات مدرجة بالبورصة المصرية.

مصر قبل الحرب الروسية – الاوكرانية

في خطابها الى المصريين، تربط السلطات بين الوضع الاقتصادي والاجتماعي الذي تمر به البلاد حالياً والحرب الروسية – الاوكرانية.

لكن، في الحقيقة، قد تحتاج هذه المقاربة إلى بعض التصويب. صحيح أن مصر أنجزت خطوات اقتصادية كبيرة ومهمة منذ أن حصلت على قرض صندوق النقد الدولي في العام 2016، ومن بينها تعويم سعر صرف الجنيه، وتقليص العجز المالي وخفض التضخم ورفع أسعار الفائدة لتعويض الأثر التضخمي لخفض قيمة العملة، وخفض الدعم على الوقود والغذاء، وتنفيذ تدابير تقشّفية معيّنة. لكن التحدي الأكبر الذي كانت تعني منه قبل الحرب، ولا تزال، هو في:

  • استمرار تنامي الدين العام وارتفاع نسبته إلى الناتج المحلي الإجمالي. فالدين الخارجي ارتفع بنسبة تقترب من 150 في المئة في السنوات الست الأخيرة من 56 مليار دولار في العام 2016 إلى 137.8 مليار دولار في نهاية العام 2021. وسترتفع بالتأكيد تكلفة هذا الدين هذا العام مع ارتفاع أسار الفائدة الأميركية.

وتزيد استحقاقات الديون الكبيرة من احتياجات مصر التمويلية. وكانت تقديرات المصرف المركزي المصري وضعت في أكتوبر (تشرين الاول) الماضي، الدين العام الخارجي المستحق عند 9.6 مليارات دولار في السنة المالية 2021-2022 (تم سدادها كلها)، و8.9 مليارات دولار في السنة المالية 2022-2023، باستثناء ودائع دول مجلس التعاون الخليجي في المصرف المركزي المصري ، والتي يتم ترحيلها بشكل روتيني.

تقول “فيتش” إن عجز الحساب الجاري وآجال استحقاق الديون تسبّبا خلال العام الماضي في انخفاض الأصول الأجنبية الصافية للمصارف التجارية، حتى مع بقاء الأصول الأجنبية للمصرف المركزي المصري مستقرة بشكل عام. كما تراجعت الأصول الأجنبية الصافية للمصارف إلى مستوى قياسي سلبي قدره 11 مليار دولار في يناير (كانون الثاني) 2022، بانخفاض 15 مليار دولار على أساس سنوي. وقد مكّنت الأصول الأجنبية الصافية للمصارف في الماضي من امتصاص التدفقات الخارجة من الاستثمار غير المقيم من دون التأثير على احتياطيات المصرف المركزي المصري، لكن ضعف وضعية المصارف في هذا المجال أعاق قدرتها على امتصاص الدفقات.

  • الاعتماد الكبير على رأس المال المستثمر الذي تجتذبه أسعار الفائدة المرتفعة من أجل تمويل هذا الدين. فمصر كانت وجهة جذابة للمستثمرين الأجانب الذين يسعون للحصول على أسعار فائدة مرتفعة عن طريق الاستثمار في سنداتها الحكومية. هذه الآلية شكّلت واحدة من أبرز طرق سد عجز الموازنة التي اعتمدتها في السنوات الأخيرة، حيث كانت تقدم واحدة من أعلى معدلات الفائدة الحقيقية على الديون في العالم.

بدأ حجم هذه الاستثمارات بالتراجع في الأشهر القليلة الماضية بسبب خروج كثير من المستثمرين من سوق الدين المصرية، مدفوعاً بتوقعات الاحتياطي الفدرالي ومصارف مركزية أخرى في نهاية العام الماضي رفع معدلات الفائدة واتخاذ قرار بهذا الشأن في مارس (ىذار). وهو ما عزز تخارج “الأموال الساخنة” –وهي الأموال التي يسيطر عليها المستثمرون الذين يبحثون عن عوائد قصيرة الأجل-  من الاسواق الناشئة، ومنها المصرية. فرفع أسعار الفائدة في الاقتصادات الكبرى يجعل الاستثمار في سوق الدين فيها أكثر جاذبية، بسبب تدني المخاطر مقارنة مع استثمارات الاسواق الناشئة في مقابل عائدات مالية جيدة نتيجة أسعار الفائدة المرتفعة.

مخاطر التدفقات الخارجة من مصر

واصلت “الأموال الساخنة” فرارها سريعاً من السوق المصرية على خلفية الصراع بين روسيا وأوكرانيا، وهو ما عزز الطلب على العملة الأميركية في مصر، وبالتالي فاقم الضغوط على الاحتياطات بالعملات الأجنبية ما يهدد بتدهور أكبر للعملة المحلية.

صحيح أن هذه التدفقات الخارجة لا ينبغي أن تكون مفاجئة، لأن مديري الصناديق يختارون في العادة الملاذ الآمن في أوقات الأزمات، إلا أن هناك مخاوف بشأن خروج جماعي من الأسواق الناشئة، بما في ذلك مصر.

وكانت “فيتش” نبهت من أن الأسواق الناشئة تواجه مجموعة متنوعة من مخاطر الائتمان الإضافية الناجمة عن الصراع بين روسيا وأوكرانيا، وحذرت من أن “بوادر ضغوط التمويل الخارجي قد تكون حافزاً لاتخاذ إجراءات تصنيف سلبية للعديد من الدول السيادية في الأسواق الناشئة، بما في ذلك مصر وتركيا”.

هذا الأمر يفرض على الحكومة المصرية البحث عن وسائل أخرى لجذب تدفقات العملة الصعبة إلى جانب الموارد التقليدية من إيرادات قناة السويس، والسياحة، وتحويلات المصريين في الخارج، والصادرات. وقد تكون سوق الاسهم قناة موثوقة لجذب التدفقات الدولارية وضخ المزيد من السيولة في الأسهم المحلية. والأهم، أن يثق المستثمرون الأجانب والمحليون في سوق الأوراق المالية. تجربة السوق السعودية رائدة في هذا المجال، حيث أنها استفادت من الاكتتاب العام الأولي لشركة النفط العملاقة “أرامكو” التي سجل سهمها مؤخراً أعلى مستوى له على الإطلاق عند 45 ريالاً، وزادت قيمتها السوقية عن 2.3 ملياري دولار.

العدد 128 / ايار2022