المختبرات البيولوجية الأوكرانية ملهاة اليمين الأميركي المتطرف

تطير الكذبة مجتازة نصف العالم قبل أن تنهض الحقيقة من فراشها

واشنطن ــ جاد الحاج

إنهُ ادعاء رهيب يصعب تصديقه   بأن أوكرانيا تطور أسلحة بيولوجية بمساعدة الحكومة الأميركية. الواقع أن المعونة الأميركية   استهدفت تعزيز إجراءات الصحة العامة في اوكرانيا. ووقعت الدولتان   تعهداً بعدم إنتاج الأسلحة البيولوجية أو استعمالها. لكن، وعلى نقيض معظم الجهود الروسية القاضية بنشر أخبار يصعب او يستحيل تصديقها لتبرير غزو أكرانيا، وجدت  رواية  المختبرات جمهورا تلقفها في أوساط قنوات التواصل الاجتماعي اليمينية المتطرفة في الولايات المتحدة، على غرار قناة فوكس الإخبارية وأتباع نظرية المؤامرة السياسية المزعومة (التي ترتكز على أخبار أفراد مجهولي الهوية يسمون “كيو”، ومن هنا تسمية كيوآنون). من جهته، قال مضيف قناة فوكس نيوز الإخبارية تاكر كارلسون أخيرا: “الواضح أن هذه قضية عمدت حكومة الولايات المتحدة فيها إلى الكذب. وقد أطلقت، إذا شئتم، حملة تحريف وتشويه للحقائق مصممة للتستر على ما تقوم بعمله”. إلا أنه في الواقع لم يقدم أي دلائل محددة لتأييد هذا الزعم. وتجدر الإشارة إلى أن سردية المختبرات البيولوجية   انتشرت بسرعة   داخل الولايات المتحدة وحول العالم (أو في ما وراء البحار، على حد قول الأميركيين)، وبخاصة أن بعض الأميركيين يتهمون الإعلام الحكومي الصيني بالانضمام إلى حملة ترويج الخبر أو السردية.

في وقت باكر من آذار (مارس) الماضي كان الناطق باسم وزارة الخارجية الأميركية نيد برايس يعلق على الأمر بالتصريح قائلا: “يتعمد الكرملين قصدا نشر أكاذيب صريحة تزعم أن الولايات المتحدة وأوكرانيا تديران أنشطة لصنع الأسلحة الكيميائية والبيولوجية”. كما يحذر مع عدد من المسؤولين الحكوميين في واشنطن من قيام روسيا بالعمل من أجل إيجاد الذرائع التي تبرر هجومها على دولة ذات سيادة. وما نظرية المؤامرة المتمحورة حول المختبرات البيولوجية سوى مثال على طريقة التقاط السرديات والروايات الروسية من قبل المروجين لنظرية المؤامرة في الولايات المتحدة، الذين يمكن لهم في معظم الحالات أن يفلحوا أكثر من غيرهم في نشر الأخبار والروايات الكاذبة بفاعلية تتفوق على الجهود الروسية. جدير بالذكر أن روسيا   نشرت أخبار المختبرات البيولوجية التي تمولها الولايات المتحدة غير مرة. وحسب الخبير سكوت رادنيتز المتخصص في شؤون روسيا ما بعد الاتحاد السوفياتي والأستاذ المحاضر في جامعة واشنطن في مدينة سياتل الأميركية: “عندما يتعلق الأمر بالمختبرات البيولوجية، تعد المسألة شائعة قديمة”. وهو يوضح أنه بعد بدء الاجتياح الروسي لأوكرانيا يوم 24 شباط (فبراير) الماضي”اتسع ونما انتشار خبر المختبرات البيولوجية من مجرد تسريبات محدودة إلى وابل من السرديات”.  كما يستطرد رادنيتز معلنا: “ثمة هذه السردية التي تروج لها روسيا على الأقل منذ العام 2011 ، والتي تتحدث عن وجود المختبرات الممولة من قبل الولايات المتحدة التي تجري أبحاثا على الأمراض. إنها جزء من برنامج يديره   البنتاغون لدعم الأبحاث على مسائل الصحة العامة في الدول التي كانت تابعة للاتحاد السوفياتي. على أن روسيا طالما أعربت عن اشتباهها بالنوايا والدوافع وراء إقامة هذه المختبرات—وقد أطلقت معلومات خاطئة وطرحت أسئلة موحية من خلال القنوات الرسمية”.

لفت إمساك المندوب الدائم لدولة روسيا الاتحادية، السفير فاسيلي نبنزيا، بمجموعة وثائق في خلال اجتماع لمجلس الأمن الدولي المنعقد يوم 01 آذار (مارس) الماضي لبحث النزاع الروسي الأكراني. وكان مجلس الأمن الدولي قد انعقد بناء على طلب روسيا التي زعمت توفير الولايات المتحدة الدعم للمختبرات الكيميائية والبيولوجية في أوكرانيا.

تجدر الإشارة إلى أن سردية المختبرات البيولوجية   “انفجرت أو انتشرت بقوة وسرعة تماما مع بداية الغزو. كما يبدو أنها التقطت بسرعة من قبل أنصار اليمين الأميركي المتطرف ومروجي فكرة الكيوآنون أو نظرية المؤامرة”، على حد قول رادنيتز نفسه.

كذلك كسب أحد أتباع الكيوآنون آلافا من إعادة التغريد مع نشر سلسلة تغريدات بتاريخ 24 شباط (فبراير) ادعت أن أهداف الضربات الجوية الروسية شملت “المختبرات البيولوجية التي أقامتها الولايات المتحدة”، مع ذكر المزاعم الروسية التي تتهم الولايات المتحدة بالعمل على تطوير أسلحة بيولوجية في تلك المنشآت. وقد انتهى المطاف بهذه السلسلة، حسب الباحثين في شؤون التطرف، إلى حد اعتبارها نقطة التواء هامة بعثت الحياة في الزعم الروسية الذي تلاشى في سرعة قياسية.

يقول ألكس كبلان أحد كبار الباحثين في ميديا ماترز: “أنا في الحقيقة أعتبره الفشل الأهم والأخطر من قبل إحدى منصات التواصل الاجتماعي العامة الرئيسية في فرض عملية قمع الكيوآنون منذ بدء نشاطهم في منتصف العام 2020، وذلك لأن مضاعفات هذا التطور قد اتسمت بالخطورة والأهمية”.

 وأثارت المزاعم الروسيا   بشأن المختبرات البيولوجية  مخاوف من احتمال أن تكون موسكو تتهيأ لمهاجمة أوكرانيا بأسلحة بيولوجية، وإرسائها الأسس والقواعد لأن تحمل أوكرانيا والولايات المتحدة، وربما حلف شمال الأطلسي (الناتو)، مسؤولية شن الهجمات. غير أن ثمة تفسيرات أخرى محتملة لشن موسكو حملة تضليل وبث معلومات خاطئة.

بدوره يقول رادنيتز مفسرا وموضحا: “من الجائز أن تعد هذه الرواية طارئة ومناسبة تخدم أهداف الحكومة الروسية، التي تمس بها الحاجة كثيرا إلى أكبر قدر ممكن من الذرائع لتبرير ما تقوم به في أوكرانيا—أسباب قصفها للمدن وللمدنيين ومناطق تواجدهم وانتشارهم”.

من ناحيته، كان الناطق باسم وزارة الخارجية الأميركية نيد برايس قد أعلن أن روسيا “تتعمد نشر أكاذيب صريحة وواضحة” بخصوص الأسلحة الكيميائية والبيولوجية. جدير بالذكر أن المزاعم الخاطئة بخصوص الحرب البيولوجية طالما اعتبرت موضوعا مفضلا للدعاية الروسية والسوفياتية من قبلها. ففي ثمانينات القرن الماضي ادعى الاتحاد السوفياتي   أن مرض السيدا (متلازمة نقص المناعة البشرية المكتسبة) أتى نتيجة أبحاث الحرب البيولوجية التي أجرتها الحكومة الأميركية. من جهة أخرى، بمجرد أن باشر أصحاب نظرية المؤامرة والمؤثرين في أوساط اليمين الأميركي المتطرف الترويج للزعم الخاطئ   بشأن تطوير الأسلحة البيولوجية الأميركية في أوكرانيا، تمسك الروس بسرديتهم. لذلك طلبوا مرتين في خلال آذار (مارس) الماضي   من مجلس الأمن الدولي عقد جلسات طارئة لبحث شكاوى روسيا المزعومة. في آخر هذين الاجتماعين اعتبر العديد من أعضاء المجلس الـ15ـ  ان تلك المناقشات  مجرد”تمثيلية”.

كذلك تستغل مؤامرة المختبرات البيولوجية هواجس ومخاوف اليمين المتطرف في الولايات المتحدة. منذ تفشي جائحة الكورونا (كوفيد-19) قبل ما يزيد على عامين،  وقد اعتنق أصحاب نظرية المؤامرة زعما يدعي أن الفيروس انطلق وانتشر من مختبر بيولوجي صيني في مدينة وُهان. لكن دراسة علمية حديثة تعيد التأكيد على أن الفيروس يرجح أن يكون قد ظهر في سوق للحيوانات الحية في المدينة نفسها.

يقول الزميل المقيم في مختبر الأبحاث الجنائية الرقمية التابع لمجلس أطلنتيك ، جارد هولت، إن المؤامرة   اكتسبت المزيد من الزخم والتقدير لأنها أتاحت الكثير من قوة الدفع نظرا إلى تعدد الطرق والمسارات الواسعة والرئيسية أمام الناس الذين قد يعتنقون نظريات وآراء هامشية، حتى لو كانوا لا يؤمنون بنظرية المؤامرة التي يطرحها جماعة الكيوآنون. هنا نورد كلام هولت الذي يقول: “في نظرية المؤامرة هذه الخاصة بمختبرات الأسلحة البيولوجية إذا قالوا إن “روسيا تقصف مختبرات الأسلحة البيولوجية، وأنا أعلم ذلك لأن كيو قد أخبرني بذلك”، فأنا لا أدري إذا كان لهذا الخبر التأثير نفسه”. عوضا عن ذلك، صار إلى توليف المعلومات المضللة مع المشاعر والانفعالات الأخرى التي أخذت تستحوذ على شريحة أكبر وأوسع من اليمين الأميركي المتطرف في خلال العامين المنصرمين. الملاحظ استطرادهم في التعليق ليقولوا: “من الجائز أن يكون السبب وراء هذه المواقف التشكك بشأن أصول نشوء فيروس الكورونا وتفشي الوباء أو نوع عام من عدم الثقة في الحكومة. وبفضل سبر غور هذه المشاعر والعواطف الغامضة والمبهمة ، من الجائز إيصال الرسائل التي يرغبون في إيصالها من أجل المضي قدما في بعض الأحيان”.

من ناحيته، يشرح رادنيتز الأمر مرددا: “يتيح المستوى الراهن من الاستقطاب السياسي في الولايات المتحدة الفرصة أمام مسؤولي الدعاية السياسية الروس. فروسيا تعلم جيدا أن بعض رواياتها وسردياتها تترك صدى مؤثرا في أوساط اليمين الأميركي المتطرف وفي نفوس جمهور مؤيدي الرئيس دونالد ترامب وحشد الكيوآنون”.

في مستهل النصف الثاني من آذار (مارس) الماضي ظهر المزيد من الدلائل المؤيدة لهذه الأطروحة، وذلك مع إعلان وزارة الدفاع الروسية أن هنتر نجل الرئيس بايدن  ، وصاحب المليارات جورج سوروس الليبرالي يرتبطان بطريقة من الطرق بمختبرات الأسلحة البيولوجية. مساء يوم الخميس، 17 آذار (مارس) لاحظ المشاهدون أن استعراض كارلسون الإخباري على شاشة فوكس نيوز اهتم بتسليط الضوء على هذا الخبر.

أما مساعدة وزير الخارجية للشؤون السياسية فيكتوريا نولاند، فأدلت بشهادة أمام لجنة الشؤون الخارجية الأميركي في مجلس الشيوخ تناولت الوضع في أوكرانيا بتاريخ 8 آذار (مارس) الماضي، علما أن اللجنة فحصت التطورات والمستجدات المرتبطة باجتياح روسيا لجارتها ورد الفعل حول العالم. وقد صار إلى تسجيل واحدة من اللحظات الأخرى الهامة مع انتشار خبر الأسلحة النووية الكاذب   خلال شهادة مساعدة وزير الخارجية للشؤون السياسية السيدة نولاند  عند سؤالها من قبل السناتور مارك روبيو، أعلنت نولاند أن لدى أوكرانيا “منشآتها للأبحاث البيولوجية، بينما تشعر الولايات المتحدة بالقلق من احتمال سعي القوات الروسية إلى فرض سيطرتها على تلك المرافق. إلا أن نولاند سارعت إلى الإضافة فورا بعد ذلك قولها: “لا يساورني أدنى شك” أنه في حال اللجوء إلى استعمال سلاح بيولوجي، فإنه سوف يكون من صنع روسيا وليس أوكرانيا أو حليفاتها. على أن كارلسون في قناة فوكس الإخبارية ذكر بشهادة نولاند لكي يعمل على بث نظرية المؤامرة عبر استعراضه الإخباري السياسي.

مع ذلك، لا يتردد هولت في التعقيب مصرحا وموضحا: “ما قالته  نولاند  لم يثبت صحة ما يزعمونه. لكن، بالنسبة إلى الجماهير، فإنها بالفعل عالقة داخل تلك الفقاعات المتعلقة بوسائل الإعلام  المتحدثة عن المؤامرة والتآمر.

يقول رادنيتز شارحا ومعلقا: “عندما تنتشر رواية أو سردية معينة بثبات عبر قناة فوكس الإخبارية ويبدو كما لو أن تاكر كارلسون وستيف بانون يتبنيانها بل ويعتنقانها، فإن ثمة انسجاما بل وتعايشا بين أهداف السياسة الخارجية الروسية—أي السرديات المؤيدة للحكومة في روسيا—والسرديات المعارضة للحكومة وسياساتها في الولايات المتحدة، وأن هذه الشخصيات من اليمين المتطرف تدفع المسائل قدما بقوة وتسعى من أجل تحقيق الربح والشهرة”.

منذ بدء الغزو لأوكرانيا لجأت وسائل الإعلام الحكومية في روسيا إلى عرض لقطات فيديو من استعراض تاكر كارلسون على قناة فوكس الإخبارية لتزكية وتبرير بيانات الحكومة الروسية وأعمالها. كما حاد وزير الخارجية سيرغي لافروف عن نهجه المعتاد حتى يكيل الثناء للشبكة الإخبارية المحافظة في الأسبوع الثاني من آذار بينما كان يهاجم تغطية وسائل الإعلام الغربية للحرب. وقد قال: “نفهم منذ زمن طويل أنه ليس ثمة شيء يعرَف بوسائل الإعلام الغربية المستقلة. وفي الولايات المتحدة وحدها قناة فوكس تحاول عرض وجهة نظر بديلة أو مغايرة”.

عندما  طلبت مراسل “إن بي آر” تعليقا من فوكس الإخبارية على ما قاله الوزير لافروف وعرض الشبكة المتكرر لنظرية المختبرات البيولوجية، أشار الناطق باسم الشبكة إلى التعليقات الأخرى التي أدلى بها كارلسون في الأسابيع القليلة الماضية—بما في ذلك اعتباره الحرب هفوة وتأكيده أن بوتين يتحمل مسؤولية الحوادث في أوكرانيا.

موسكو تسجل انتصارا في الحرب الإعلامية

وفيما  أخفقت معظم جهود روسيا للتحكم بسردية الحرب على أوكرانيا، يعرب الباحث في شؤون التضليل والمعلومات المزيفة في مجلس الأطلنتيك سكوت هولت عن خشيته من كون مؤامرة المختبرات البيولوجية تقدم مثالا مقلقا على ما يبدو عليه النجاح. وهو يشرح قائلا: “ما فعل  ذلك هو تذوق الكرملين لانتصار دعائي في نزاع سجل القليل من الانتصارات فيه على نحو مدهش. إلا أن ما يثير القلق أن هذا قد يشكل نموذجا أو لحظة يتعلمون منها أن يزيدوا من نجاعة دعايتهم وتقدمها إلى الأمام”. أما رادنيتز، الذي يفحص عمله الأكاديمي سبب تردد صدى المعلومات المزيفة وحملات التضليل، فيرى أن رواية المختبرات البيولوجية تذكر بقول مأثور قديم: “تطير الكذبة مجتازة نصف العالم قبل أن تنهض الحقيقة من فراشها”.  نحن نطارد هذا الخبر، ولكن حين يعي متحرو الحقيقة الواقع، يكون قد دار حول العالم مرات عدة ونكون قد تأخرنا لأن السد قد انهار”.

 و في العام 1710 كتب جوناثان سويفت: “الكذبة تطير وتأتي الحقيقة بعدها وهي تعرج خلاصته ان حرب اوكرانيا – روسيا هي اكثر حروب العالم عرضة لإبتكارات حكائية ستشغل وسائل الإعلام حتى الطلقة الأخيرة!

العدد 128 / ايار2022