نهاية التحالف الشيعي الكردي في العراق

د.ماجد السامرائي

هل تخلى الأكراد أو أجبروا عن مهنتهم بصناعة الملوك في بغداد

وصفة التحالف الاستراتيجي الذي حصل بين السياسيين الكرد والعرب الشيعة قبل وبعد 2003 لم يكن سوى تحالف سياسي مرحلي أملته المصالح والمنافع للأطراف غذتها القوة الأمريكية النافذة على المعارضين الذين جلبتهم للحكم في العراق وفق الوصفة الطائفية التي انتجت الدمار في العراق بعد أن كانت مشكلته قبل عام 2003 تتعلق بشكل الحكم الفردي الذي كان بالإمكان أن يتحول الى أكثر ديمقراطية وفق ما يسمى بالتعددية الديمقراطية والانتقال السلمي للسلطة .

لكي يتم تفسير منطقي للمشكلات العاصفة التي تعيشها أطراف أزمة الحكم في العراق , خصوصاً بعد العاصفة التي هبّت على أكبر تحالف سياسي بين فصيلين شيعي وكردي كانا معارضين للنظام العراقي السابق هما ( الشيعة والأكراد ) بعد واقعة اعلان الكرد الاستفتاء على الدستور عام 2017 , لا بد من اطلالة تاريخية سريعة على الأكراد في العراق وقيادتهم السياسية المتمثلة بالقيادة البرزانية  ذات الطبيعة العشائرية وعلاقاتها الإقليمية والدولية , حيث ظلت معادلاتها مؤثرة في مسار هذه الحركة وعلاقتها بالدولة العراقية منذ تأسيسها عام 1921 وحتى اليوم . اتسمت بالمقاومة المسلحة لحكومات العراق حتى نهاية دولته عام 2003 بالاحتلال العسكري الأمريكي ثم الانفصال عن حكومة المركز وتأسيس إقليم كردي شبه مستقل عام 1991 .

أكراد العراق .. التاريخ والجغرافية

الأكراد موزعون في وجودهم على ثلاث دول ( العراق وايران وسوريا ) تاريخياً لكل دولة من هذه الدول حساسيتها في قبول أو رفض التعاطي مع الأكراد وقبول طموحاتهم القومية والاجتماعية والسياسية . في العمق التاريخي كان أكراد إيران لديهم مشكلاتهم الطويلة تجاه النظام السياسي الإيراني , فقد طالب أكراد ايران الانفصال عن ايران , وتشير الأحداث التي توصف في بعض الأحيان بالانفصالية إلى المظاهرات التي نشبت في محافظة أذربيجان الغربية المعروفة بهذا الاسم اليوم والتي جاءت نتيجة كوارث ما بعد الحرب العالمية الأولى والثانية والتدخل الأجنبي المباشر، والأحداث المتمثلة في تمرد حزب الحياة الحرة الكردستاني (PJAK) في غرب إيران والذي بدأ في القرن الواحد والعشرين لكن أبرز محطة قاسية في تاريخ الكرد  كانت بدايتها العملية مع إسقاط جمهورية مهاباد الكردية التي أسسها القاضي محمد مع مصطفى البرزاني في 22 من يناير 1946 إلا أن الضغط الكبير الذي مارسه الشاه الإيراني آنذاك رضا شاه على الولايات المتحدة، من أجل سحب القوات السوفيتية من الأراضي الإيرانية كان كفيلًا بإسقاط هذه الجمهورية بعد 11 شهرًا من قيامها.

ألقت حساسية النظام الإيراني فيما بعد مجيئ خميني 1979 تجاه اكراد إيران بظلالها على العلاقة مع اكراد العراق , حيث تحولت الى علاقة مصلحية , أحد قادة الكرد ( جلال الطالباني ) الذي كان خاضعاً لقيادة الملا مصطفى البرزاني في حزبه الاتحاد الكردستاني ثم انشق عنه فيما بعد , تميّز بعلاقاته العميقة بطهران الخميني وبعده خامئني تعززت وتركت آثارها السلبية الكبيرة فيما بعد في تصعيد الصراع العسكري في المناطق الكردية خصوصاً خلال الحرب العراقية الإيرانية .

كانت الحكومة العراقية لما قبل 2003 جادة في منح الأكراد حقوقهم القومية فتم اعلان قانون الحكم الذاتي عام 1970 فيما سمي ببيان الحادي عشر من مارس . الذي تراجع فيما بعد بسبب علاقات القادة الكرد الإقليمية والدولية بعد وفاة مؤسس الحركة الكردية مصطفى البرزاني ونشوب الحرب العراقية الإيرانية 1980-1988  التي جعلت من الفصيل الكردي المتمثل بقيادة جلال الطالباني حليفاً لطهران في حربها ضد العراق , مستثمراً الموقع الجغرافي لتواجد حزبه في السليمانية ذات التضاريس القريبة من الحدود الإيرانية , فيما أصبح مسعود خليفة والده مصطفى البرزاني متمركزاً في أربيل ودهوك .

وصل النزاع بين الفريقين السياسيين الكرديين على النفوذ والمصالح درجة  الاحتراب المسلح حيث استنجد الزعيم الكردي مسعود البرزاني بالقيادة العراقية عام 1996 لانقاذه من الهجوم الطالباني المسلح الكاسح لإسقاط أربيل والسيطرة عليها , لبت القيادة العراقية ذلك النداء وطرد الجيش العراقي فلول قوات جلال الطالباني من أربيل .

الكرد على رأس فصائل معارضة نظام صدام

من تداعيات كارثة احتلال صدام للكويت انهيار منظومة التحكم بالمحافظات العراقية في الجنوب والشمال , كان من معالمها رضوخ نظام صدام بتحول حالة الأكراد من الحكم الذاتي الى شبه الاستقلال الذاتي بعد فرض الولايات المتحدة والغرب عبر مجلس الأمن الدولي عام 1991 منطقتي حظر الطيران في الجنوب والشمال . بذلك تحالفت القيادتان الكرديتان بعد التدخل الأمريكي للمصالحة بين القيادتين ( مسعود وجلال ) لصالح المشروع الأمريكي في غزو العراق , وتحولت منطقة ( كردستان ) خلال التسعينيات وحتى 2003 ملاذاً لأشكال متعددة من المعارضين العراقيين الى جانب كل من دمشق وطهران .

تطور الوضع السياسي للمعارضة العراقية في ابتهاجها للرعاية الأمريكية وانتقالها من أنماط الرعاية الذليلة في طهران خاصة ,حسب تصريحات قادة سياسيين من الشيعة الى حالة من الاحترام المُصطَنع من قادة الأمريكان المسؤولين عن الملف العراقي . الأمريكان جعلوا من رجل الاعمال المطلوب للقضاء الأردني بسبب فضيحة بنك بترا أحمد الجلبي هو الزعيم الأول منسق العلاقات بين القادة الشيعة والكرد وبقية المعارضين في المنفى .

تلعب الجغرافية لعبتها لصالح الأكراد في تعزيز طموحاتهم القومية والسياسية ,وجدوا أنفسهم لاعبين في الصفقة الامريكية لاحتلال العراق , فقدموا التسهيلات اللوجستية المتعددة , كان على القادة الشيعة المرتبطين عقائدياً ومصيرياً بالنظام الإيراني قبول مكانة الزعامة الكردية في المعارضة وبعد دخولهم العراق تحت الراية الأمريكية وصواريخها وقنابلها ودباباتها , أصبحت القيادة الكردية ( جلال ومسعود ) هي اللاعب الأول في مشروع النظام السياسي الجديد .

التحالف الشيعي الكردي            

بين يدي الحاكم الأمريكي بول بريمر ملفات تفصيلية عن سير ذوات من اختارهم لقيادة ما سمي بالعملية السياسية ونظامها بإشرافه المباشر عبر عنها بقباحة في كتابه عام قضيته في العراق . كان مطلوباً من قادة الشيعة بوجيهات نظام ولي الفقيه الإيراني أن يقبلوا التحالف الذي سموه استراتيجياً مع القيادة الكردية في العراق , طبّقوا التوصية الإيرانية ( التُقية ) حيث القبول العلني لحين , هي الاستراتيجية الشيعية في شراكة سلطة الحكم في العراق .

شارك السياسيون الشيعة مع الأكراد معاً في مناقشة مواد دستور 2005 في ضوء ما سمته قوات الاحتلال والحاكم المدني بوثيقة ” الإدارة الانتقالية ” لردم الفاصلة في ادارة الحكم الذي عبر المحتلون عن رغبتهم في نقله للسياسيين الجدد وفق الوصفة الملعونة ” الطائفية ” تحت اشرافهم المباشر. خصوصاً بعد التدخل المباشر من مرجعية السيستاني الشيعية بضرورة التعجيل بصياغة دستور جديد للعراقيين , يهيئ لانتخابات قيام النظام السياسي الجديد وفق وصفة ” دولة المكونات ” التي أعطت للدولة العميقة هيمنتها الفعلية على الأوضاع في البلاد .

استطاع الكرد تضمين أحلامهم بإقليمهم الكردستاني والتمتع بكافة الامتيازات الاقتصادية والأمنية والاجتماعية , لكن قلقهم كان وضع مدينة كركوك الغنية بالنفط التي ظلّت معلقة تحت بند المادة ( 140 ) بالدستور الجديد , وأصبحت بعد عقدين من الزمن واحدة من علامات  انهيار التحالف الشيعي الكردي .

رعى السيستاني قادة الشيعة في هيمنتهم على السلطة , والعراقيون يتذكرون القائمة الشيعية الانتخابية ( 555 ) بما سمي الائتلاف الوطني الشيعي الذي فاز فيما بعد وهيمنوا الى جانب الأكراد على الحكم في ظل تحالف استراتيجي فيما أصبح السنة الضلع الضعيف في المثلث الطائفي الذي دمر العراق .  أكد التحالف الشيعي الكردي في التعبير عن نفسه مجدداً بعد عام من حكم حزب الدعوة ” الإسلامي ”  ففي عام 2007 صدرت وثيقة سياسية لذلك التحالف بين الكتل البرلمانية الشيعية والكردية . لم يكن ذلك التحالف مريحاً للسفير الأمريكي في بغداد بذلك الوقت رايــــان كـــروكــر وعبر عن امتعاضه قائلاً ” هذا تجمع شيعي كردي وبالتالي لن يســـتطيع حـــل المشاكل الرئيسية التي تواجه البلاد”  .

ظل الأكراد منذ انتخابات 2005 يؤكدون للسياسيين العراقيين و” حلفائهم ” الشيعة ” إنهم هم صناع الملوك في العراق . في مناسبات عدة أوصلوا رسالة مفادها “أن من يريد حكم العراق الجديد، فعليه أن يتوجه صوبهم وفي اقليمهم، ليعود وهو يمشي على عكازتي الحزبين الكرديين الرئيسيين :الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني.”

كان الأمريكان يشجعون هذه المكانة المعنوية للقادة الكرد في العملية السياسية عام 2006 فقد حرص الرئيس الأمريكي جورج بوش خلال استقباله لرئيس إقليم كردستان مسعود البرزاني أن يستمع اليه وهو يلقي خطابه باللغة الكردية .

لم يتفاجأ أحدٌ أكثر من الأكراد أنفسهم بالسرعة التي دُفِعَ بها قادة “البشمركة” السابقين إلى مراكز السلطة في بغداد وقد حصلوا على أعلى المناصب: رئيس الجمهورية ونائب رئيس مجلس الوزراء ووزير الخارجية ونائب رئيس هيئة أركان الجيش، بالإضافة إلى عددٍ كبيرٍ من المراكز المحورية في مؤسّسات وهيئات ولجان العراق الجديد، بما فيها أجهزة الأمن والإستخبارات , مع إن همً القادة الكرد ليست المناصب في بغداد إنما تعزيز مقومات دولتهم المنشودة حيث اعلنوا بعد ذلك الاستفتاء الشعبي في 25 سبتمبر 2017 وسط تحفظ امريكي ورفض من دولتي الجوار ( ايران وسوريا ) حيث يوجد عندهم ملايين الأكراد .

الاستفتاء النهاية الرسمية للتحالف الشيعي الكردي

بعد يوم واحد من اجراء الاسفتاء، طالب رئيس اقليم كردستان مسعود البارزاني من رئيس الوزراء في بغداد  حيدر العبادي بالحوار بعد اعلان نتائج الإستفتاء وكذلك مع جميع القوى سواء الداخلية منها أو الإقليمية، مؤكداً ان الشراكة الوطنية مع بغداد انتهت كونها لم تعطي الحقوق الكاملة للإقليم بعد قطع ميزانيتها خلال ولاية نوري المالكي عام 2014.

ردّ عليه العبادي من خلال جلسة مجلس النواب التي عقدت الاربعاء 27 ايلول 2017 بأن حكومة بغداد أمهلت حكومة إقليم كردستان ثلاثة أيام لتسليم السيطرة على مطارات الإقليم ومنافذه الحدودية لتفادي حظر جوي دولي .

كان هذا التوقيت السيئ بإعلان الاستفتاء هو بمثابة الإعلان الرسمي لنهاية التحالف الشيعي الكردي . ثم بدأ مسلسل التدهور في العلاقات بين القيادات الشيعية والكردية ينعكس على المظاهر التنفيذية الحكومية . كان أبرزها اجتياح القوات العراقية الرسمية والحشد الشيعي في  أكتوبر/تشرين الأول 2017 لمدينة كركوك وفرض سيطرتها على المدينة التي كانت تحت سيطرة البيشمركة الكردية منذ عام 2003.

تصاعد مسلسل التدهور الشيعي الكردي في سلسلة إجراءات ذات طابع اقتصادي مالي مثل قطع رواتب موظفي الإقليم بسبب عدم تسليم حكومة الإقليم قيمة صادرات النفط العراقي في الشمال إلى الحكومة الاتحادية .

فصائل المليشيات المسلحة أدخلت موقع أربيل ضمن جدول أهدافها الصاروخية للمواقع العراقية الأخرى كذلك للسفارة الأمريكية حيث ارتبطت بمستويات علاقة طهران بواشنطن في مفاوضات النووي في فينا .

تصاعدت الخلافات السياسية عام 2020 بعد امتناع الأكراد الى جانب السنة داخل البرلمان العراقي عن التصويت على انسحاب القوات الامريكية من العراق . وبعد هجمات أربيل تطور التدهور الميداني بسلسة حوادث تمثلت بإحراق المليشيات للمقر الرئيسي للحزب الديمقراطي الكردستاني ببغداد، بعد تصريحات لهوشيار زبياري طالب فيها حكومة رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي بتنظيف المنطقة الخضراء من الوجود المليشياوي الحشدي .

الفصل الجديد من انهيار التحالف الشيعي الكردي

أفرزت نتائج انتخابات أكتوبر 2021 التي جاءت بفعل ضغوط ثورة أكتوبر الشبابية عام 2019 وهزيمة بعض قادة الشيعة الموالين لطهران علامة جديدة لتدهور العلاقات الشاملة بين الأكراد والشيعة . فقد حوّلت القيادات الحزبية الشيعية لتي سميت اخيراً بالاطار التنسيقي توجيه سهامها على الأكراد والسنة بعد أن تحالفوا مع الزعيم الشيعي مقتدى الصدر داخل البرلمان , ففتحوا على الأكراد  ملفات كانت مضمومة لسنوات مثل ملف ” قانون النفط والغاز الكردي ” الذي شُرّع في الإقليم منذ عام 2007 وأصبح يدير عمليات تنقيب وانتاج وتصدير النفط , حيث أبطلت المحكمة الاتحادية العراقية هذا القانون أخيراً .

هذا التصعيد ترافق في قيام المحكمة الاتحادية بمنع ترشيح القيادي الكردي هوشيار زيباري لرئاسة الجمهورية .

لا تُعرف بالضبط ما هي التداعيات المُقبلة  في العلاقة الشيعية الكردية في ضوء تطورات أزمة تشكيل الحكومة المركزية الجديدة .

لا شك إن الخاسر الوحيد في هذه المظاهر السلبية التي جلبها نظام المحاصصة الطائفية وتغييب الهوية الوطنية هو شعب العراق .

العدد 128 / ايار2022