أكتب وأنشر قبل أن أُقسم اليمين

الدكتور نسيم الخوري

أكتب هذا النص الذي قد يحصدني بدلاً من أحصده بعدما أُبلغت وأنا في لندن بتعييني عضواً في الهيئة العليا للإشراف على الإنتخابات البرلمانية اللبنانية. وعساه يرمي نصي السهام التي أدمنتها للأحوال الكارثية في لبنان. فور عودتي من لندن وباريس إلى بيروت في أوّل نيسان، نصحوني بنزع أسلحة الحبر . كنت غادرت لبنان قبل شهرين بسبب البرد القارس الذي دمّر كهولتنا بعدما شل لبنان في تأمين الكهرباء بل إمكانيات البقاء على قيد الحياة الأكثر بساطةً وكرامةً للآدميين. هبط الخلاص من الجحيم لأنّ رحلتي كانت دعوة أكاديمية مؤمّنة المصاريف بعدما امتنعت المصارف حتى عن دفع رواتب تقاعدي الشهرية أستاذاً في المعهد العالي للدكتوراه، خرّجت عشرات الدكاترة في العلوم الإنسانية إشرافاً واشتراكاً بمناقشة الأطاريح، وضمر راتبي الشهري من أربعة آلاف إلى مئتي دولاراً في بلدٍ أُسمّيه “دبلةُ العرب والعالم والعصر”، صار يُقرّش تجار لبنان فيه ربطة الخبز والحاجيات بالدولار ال “فريش” الكلمة الإنكليزية التي يرددها اللبنانيون.

لا لزوم للإستغراق في سرد الأمراض العاصفة بلبنان من كل الجهات بعدما شاع نقيق حراكها وثوارها وشعوبها وطوائفها وجراحهم وتهجيرهم وفقرهم وتسولهم نحو أهل الأرض عبر وسائل الإعلام والموفدين الأجانب والبنك الدولي حتى خطفت روسيا وأوكرانيا الأبصار والأضواء وتراجعت الإهتمامات بقرية أو قربةٍ مهجورة إسمها لبنان.

لنقرّ ونحني الرؤوس صارخين وقائلين بأنّ الأرض أصبحت وكأنها بلا حدود بين الدول حيث تعاطف الشعوب في عصر الفضاء يعرّي الأنظمة البطّاشة والدنيا الظالمة، وحيث العين العالمية قوة تجذب الكبار والصغار وتقودهم حيث هبوب العواصف للتلطبف والتخفيف. ليس مهمّاً. الأهمّ في رحلتّي العظيمة حصولنا على نعمة الدفء ومتعة التنظيم والدقة في العاصمتين الإنكليزية والفرنسية وبينهما قطار الأورو ستار السريع. شهران وكأنّني عدت طفلاً دافئاً في سريره أمام موقد حطب الزيتون والسنديان العتيق المُشتعل أبداً في بيتنا المتواضع أمام جبل حرمون وثلوجه.

ذكرت في المقدمة، بأنّ هذا النصّ قد يحصدني، والسبب الأوّل هو تعييني المُفاجيء الذي عرفته عبر الإعلام واتّصالات المهنئين الكُثر في الهيئة العليا التي ستشرف على الإنتخابات النيابية في لبنان في منتصف شهر أيّار المقبل، حيث لا زال اللبنانيون المُقيمون والمغتربون يتدافشون في أرجوحة طائفية ومذهبية لا تتوقف حركتها بين إمكانية حصولها أو عدمه لأسباب تبدأ ولم ولا تنتهي ولا يمكن تركيبها على قوس قُزح تُنذر بإجهاضها عبر الحروب الداخلية والإغتيالات والتصفيات وصولاً إلى الحروب الإقليمية والعالمية. صحيح أنه عليّ قسم اليمين أمام رئيس الجمهورية وحيداً إذ سبقني أعضاء الهيئة بالحلف أن “يقوم كلّ عضو بعمله في هيئة الإشراف على الإنتخابات بكلّ أمانة وتجرّد وإخلاص ويحرص عل التقيّد تقيّداً مطلقاً بالقوانين والأنظمة ولا سيّما تلك التي ترعى الإنتخابات، تأميناً لحريتها ونزاهتها وشفافيتها”.

أمّا السبب الثاني فهو عدم قيام عضو الهيئة المشرفة، وفقاً للنظام الخاص بها، القيام بأي عمل أو نشاط يتعارض مع مهام الهيئة وحيادها طوال فترة عملها، وعليه الإمتناع عن القاء أي محاضرة أو المشاركة في أي ندوة أو الإدلاء بأي تصريح يتعلق بالإنتخابات وغيرها.

عجباً، ليست الدساتير والدول والبشر نصوص منزلة مقفلة ومقدسة للتمتمة والصلاة ليصعب التلاعب بنقاطها وفواصلها إن لم نقل بمقاطعها ومعانيها المحكومة بنجاحاتها وإخفاقاتها بالممارسة والتطبيق، فكيف لنا التوفيق إن جاءت في وطن بصيغٍ متبعثرة شديدة الحراك والنزاعات وعدم الإستقرار مثل لبنان يتقدم الخارج على الداخل؟

أكتب وأنشر بعيداً عمّا سيحصل قبل رفع اليمنى والقسم في قصر الجمهورية، مذكّراً بقدسية إيماني بالإنتخابات على أساس القواعد التي تضمن العيش المشترك وتؤمن صحة التمثيل السياسي الذي صاغه فؤآد بطرس في ال2006 عبر مجموعة من المشاريع الإنتخابية التي قُدّمتها الأحزاب وهيئات المجتمع المدني، وجمع في خلاصته كمقدمة لانتخاب 77 نائباً على أساس النظام الأكثري و51 نائباً بموجب النسبية، وها نحن نجري انتخاباتنا للمرة الثانية وفقاً لقانون الصوت التفضيلي المُعقّد الذي قسّم لبنان في  14/7/2017 إلى 15 دائرة انتخابية معتمداً النسبية.

قدّمت لفؤآد بطرس يومها مشروعٍ قانونٍ تمّت مناقشته مع الوزير فؤآد بطرس الذي راقته “الفكرة التي تجتثّ الجذور الطائفية” عبر الزمن لكنها بحاجة إلى الشجاعة الوطنية كما أردف.

المعروف أنّ نواباً مسيحيين فازوا ب 42 صوتاً وما دون، بسبب المقاطعة المسيحية لإنتخابات ال1992، كما فاز نواب ب 30 و77 صوت وفقاً لقانون الصوت التفضيلي الحالي في انتخابات 2018 الذي تجري بموجبه انتخابات 2022، ويتقاضون رواتب تقاعدية، ولهذا اختصر فكرتي التي وضعتها بين أيديهم جميعاً وتخلّصنا من الطائفية وتحمس لها الرئيس نجيب ميقاتي على الشاشة ؟

أ- لبنان وطن واحد لانتخاب 128 نائب مناصفة بين 64 للمسلمين و64 للمسيحيين والنائب الفائز يمثّل اللبنانيين لا طائفته ولا مذهبه ولا منطقته.

ب- تُؤلّف اللوائح من مرشحين مسيحيين ومرشحين مسلمين فقط. وتكون اللائحة 4 أو 8 أو 16 وحتى 64.

ج- ينتخب اللبنانيون من كافة المذاهب الإسلامية النواب المسيحيين حصراً، وينتخب اللبنانيون المسيحيون النواب المسلمين حصراً.

د- تجري الإنتخابات في يوم واحد في لبنان كما في بلدان الإغتراب عبر السفارات وإلكترونيا.

ما الكارثة إن فاز مرشح عن لبنان المسيحي بأصوات المسلمين والعكس بالعكس؟

يضمن المشروع نسف المعادلات الطائفية من جذورها، فتتعزز السير الذاتية الوطنية العابرة للطوائف والمذاهب والأحزاب لدى المرشحين الذين سينظفون قطعاً ألسنتهم وآذانهم وعقولهم ونفوسهم وتصريحاتهم وبرامجهم وخطبهم ومواقفهم من الأدران الطائفية فنرفع جسوراً سياسية يتبادل فيها الثقة في الإختيار والتمثيل. علّق فؤآد بطرس يومها قائلاً: “فعلاً، مشروع مثالي يُخرج لبنان من المستنقعات الطائفية المزمنة “.

لن تبدّل الإنتخابات البرلمانية 2022 في الجوهر، بل تبدو موشّحة بالتأجيل والدماء والفدرالية والتقسيم والتفكير بدوائر ضيّقة وعوازل وطنية بين اللبنانيين، وقد تسمع من يجاهر: لماذا لا يختار الشيعة وحدهم رئيس مجلس النواب، أو يختار المسيحيون رئيس الجمهورية ويختار أهل السنة رئيس مجلس الوزراء؟

العدد 128 / ايار2022