الهند بين الهندوس والمسلمين والمسيحيين

رؤوف قبيسي:

ما يحدث في الهند ضد الأقليات الدينية، المسلمة منها بنوع خاص، يثير القلق والحزن، يذكرنا بحقيقة تعززت عبر العصور، وهي أن الأديان حين تختلط بالسياسة، تفقد روح الإيمان، وتتحول إلى عامل يفسد حياة الناس، ويطبع صورة سيئة مقيتة عن الدين وعن السياسة معاً. تذكرنا أحداث الهند أيضا بكلام الفيلسوف البريطاني الراحل برتراند راسل، وقوله “إن الأديان توّلد الحروب والاضطهاد والخوف”! قال راسل كلامه ذاك في محاضرة ألقاها في سبعينات القرن الماضي، وكان عنوانها “لماذا لست مسيحيا”. لم تقم الدنيا وتقعد على راسل، بسبب تلك المحاضرة الشهيرة، لأن النظام في بريطانيا مدني علماني، يمكن المواطن فيه أن يعبر عن رأيه، من دون وجل أو خوف، بخلاف الدول التي لا تأخذ هذا النظام منهجاً، فيبقى المواطن فيها معرضاً لشتى أنواع الضغوط الثقافية والنفسية، بسبب قساوة التراث وسلطة الواقع.

في السنوات الأخيرة شاعت في الغرب عبارة “إسلاموفوبيا” أو الخوف من الإسلام، بسبب “الدواعش” وغيرهم من الغلاة، وما أحدثوه من قتل ورعب وسفك دماء في كثير من المدن الغربية، والمدن العربية التي تكثر فيها المذاهب المختلفة. وقد استغل السياسيون، وبعض رجال الدين هذه الظاهرة، ولا يزالون يستغلونها بأبشع الطرق التي تهدد وحدة البلاد والمجتمعات. مهما يكن، فإن استغلال الأديان للأغراض السياسية، والمصالح الذاتية لم يكون وقفاً على الإسلام وحده. التاريخ يشهد على حوادث كثيرة قام بها “مسيحيون” ضد من هم غير مسيحيين. يكفي ما ارتكبه الغزاة الغربيون من آثام في المناطق التي استعمروها وحكموا شعوبها، وسيرة الملك “ليوبولد” الثاني (ملك بلجيكا)، تؤكد هذه الحقيقة، فقد ارتكب هذا العاهل البلجيكي في الكونغو التي امتلكها لنفسه، أو ضمها لنفسه، إحدى أكبر المجازر في التاريخ، ما أدى، في نظر بعض المؤرخين، إلى إبادة الملايين من البشر. كانت تلك السيطرة اقتصادية استعمارية ما في ذلك شك، لكن نخالف الحقيقة إذا قلنا إنها كانت سيطرة خالصة بهذه الصفة، إذ كانت في جانب منها خلطة بين الدين والسياسة، لأن المجازر حصلت في فترات زمنية كانت حملات التبشير فيها قائمة في ذلك الجزء من العالم.

في عهود مختلفة وأزمنة مختلفة كانت هذه الغزوات الغربية في أفريقيا وفي أميركا اللاتينية تنال مباركة الكنيسة، على أساس أن الهدف منها نشر رسالة “الله” في الرضأ.أرضارأرض! وكان الغزاة البرتغاليون على سبيل المثال، الذين احتلوا البرازيل طمعا بخيرات تلك البلاد، أظهروا شيئا من التبشير، ليرضوا كنيسة روما، وكنيسة ليشبونة. وكانت مكافأة الكنيسة على هذه الغزوات، أن أطلق الغزاة أسماء دينية مسيحية على المدن والولايات التي أنشأوها، فظهرت في البرازيل مدن باسم “سان باولو” أي مدينة القديس بولس، وأخرى باسم “سان سلفادور” أي القديس المخلص، وولايات أخرى مختلفة منها “سانتا كاترينا”، أي القديسة كاترينا، و “سان لويز” او القديس لويس، وولاية “إسبيريتو سانتو” أي الروح القدس، حتى أنهم أطلقوا على إحدى المدن اسم “بيلين” ويعني بالبرتغالية بيت لحم، المدينة الفلسطينية التي ولد فيها السيد المسيح كما جاء في الكتب. يكفي أن ننظر في أحوال بعض بلادنا العربية مثل العراق ولبنان وسوريا واليمن، لندرك ما تحدثه العصبيات الدينية من خطوب وأهوال، وما تفرضه من عنف، وما تسيله من دماء، وما تحدثه من خراب وتفكك في النسيج الاجتماعي للبلاد، يعيدها عقوداً الوراء، ويحول بينها وبين الثقافة الحديثة القائمة على قاعدة التسامح، أي قبول الآخر الاعتراف بحقوقه، بغض النظر عن لون المواطن وأصله ومعتقده، وهذه القاعدة شرط من شروط أساس لتحرر الأمم ودوام ازدهارها.

نعود إلى الهند لنشير إلى ما يشتعل فيها من عصبيات دينية، وإلى ما يدعو إليه بعض المتعصبين الهندوس، من صرخات تطالب بتدمير المسيحية في البلاد، وترحيل المسيحيين وحرق الكنائس والأيقونات وكذلك القضاء على المسلمين، وكل أثر إسلامي في البلاد، في الوقت الذي لا تعتمد الحكومة الهندية اليمينية المتطرفة، التدابير المطلوبة لكبح جماح هؤلاء المتطرفين، حتى أن إحدى الغلاة واسمها بوجا شاكون باندي، أحد أعضاء حزب “ماهاسبها” اليميني المتطرف، دعت علانية وسط تجمع لحزبها في مدينة “هاريدولر” الشمالية إلى قتل المسلمين من أجل الحفاظ على الهند، ولتكون بلد الأمة الهندية. لقيت هذه المرأة تأييدا واسعا من بعض رجال الدين الهندوس، ولم تتحرك الحكومة الهندية اليمينية كما يجب لكبح جماح المتطرفين، واتخاذ إجراءات ضدهم، إلا بعد أن عمت البلاد موجة واسعة من الشجب والاستنكار، ما حمل المحكمة العليا على التدخل.

يرفع حزب “ماهاسبها” راية العداء ضد مسلمي الهند الذين يبلغ عددهم نحو 200 مليون نسمة، من أصل السكان البالغ عددهم 1.3 بليون نسمة. وقد ازداد نفوذ هذا الحزب في البلاد بعد مجيء رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي إلى الحكم. وتخلق موجات العداء الذعر قي قلوب المسيحيين البالغ عددهم نحو 25 مليون نسمة، وفي قلوب المسلمين، الذين يخشون أن تتوسع هذه الموجات ضدهم، الى حدود قد تجبر بعضهم على الرحيل عن الهند، والعيش في باكستان وبلاد إسلامية أخرى. هذا الحزب ليس جديداً على مسرح الحياة السياسية في الهند على أي حال، فقد أسس في العام 1907 خلال السيطرة البريطانية على البلاد. لم يؤيد الحزب في حينه الوجود البريطاني في الهند، لكنه لم يدعم الحركات الروحية التي قادها المهاتما غاندي، الذي كان متسامحا مع المسلمين وغير المسلمين، حتى أن بعض أعضاء هذا الحزب اليميني يعبدون قاتله ناتهورام غودسي. الحزب مع ذلك لا يخفي أهدافه، فيما يقول القيمون عليه انهم في حال تسلموا مقاليد الحكم، سيجبرون المسلمين على الرحيل لتصبح الهند “الوطن القومي للهندوس”.

ما يحدث في الهند يجب أن يكون عبرة لنا نحن العرب، لنبني أوطانا حرة قوامها التسامح، ونكون عبرة لشعوب وامم أخرى مثل الأمة الهندية. في الإنجيل كلام للسيد “المسيح” فحواه “أن ما جمعه الله لا يفرّقه إنسان”. ينقلب هذا المفهوم في الهند وغيرها من الدول التي تشهد صراعات دينية، إلى “ان ما فرّقه الله لا يجمعه إنسان”! لا نعني هنا بالطبع “الله” الذي جاء ذكره في “الكتب المقدسة” بأنه خلق الأرض وما عليها، بل “الله”، الذي خلقه الناس على مثالهم ومصالحهم، ويتاجرون باسمه بكرة واصيلا! هنا تبرز الحاجة إلى الدولة المدنية العلمانية، التي أثبتت التجارب، أنها الحل الوحيد لوقف الحروب الدينية والمذهبية بين أبناء الشعب الواحد. ساعة يكون الدين فعل إيمان لا فعل طقوس جامدة، يكون عامل توحيد وتجانس، لا عامل هدم وتفتيت ولواءات خارجية على حساب الوطن ومصالح بنيه، ولن تتوافر هذه الغاية من الدين، إلا في ظلال الدولة المدنية التي تفصله عن السياسة، وتتركه مسالة شخصية فردية بين المواطن وبين السماء.

كم سيكون بلد مثل العراق عظيما لو وجد فيه هذا المناخ من التسامح، وتخلص من سطوة التدين الأعمى، ورجاله الذين يتاجرون بالكتاب، ويشترون بآياته ثمناً قليلا. وكم ستكون سوريا جميلة لو سادت فيها هذه الثقافة، وسادت في اليمن المعذب وأصبح حراً آمنا سعيداً، وسادت في لبنان الصغير الذي كان أخضر وجميلاً، وفقد سحره وبريقه، نتيجة الطائفية والراكبين امواجها من السياسيين، وأصحاب المصالح.

لا طائل بعدُ من أي كلام، ولا من أي تمنيات فارغة، لبلاد عربية منكوبة بهذا القدر العنيف من التسلط الديني والتسلط السياسي، إذ يتوجب العمل الجدي السريع للخروج من النفق، وبناء أنظمة تحرر هذه البلاد من حاضرها المظلم الكئيب، وتضعها على طريق مستقبل مشرف واعد، يكفل لشعوبها الحاضرة، الحرية والعدالة، ويكفلها لأجيال لم تأت بعد.

العدد 128 / ايار2022