جنّيات القصيدة المسحورة

*قراءة في ديوان “وحيدًا يشدو القصب مواويل البنفسج والمطر” للشاعر جورج غنيمة

وبدأتْ حكايةُ القصيدة. قصيدةُ “برْقٍ على أطباقٍ من ورق”، قافيّةٌ أولَمتْ ل “محابر الغمام ونايات الريح” لتستريح، في “مساكن بيضاء لريشةٍ كحلية”. مذذاك، وكحلُ القصيدةِ يرسم أحرفَها هُدْبًا هُدْبًا سابرًا أغوار العين الثالثة للذات الشاعرة، في بحثٍ مَرومٍ عن أُمّ القصيدة. وعلى بعد التفاتةٍ، كان العناق. ذراعان كونيّتان احتضنتا الشاعر، إنها الأمُّ الكبرى، الأرض والسماء وما بينهما: الطبيعةُ معشوقةُ الشاعر. مواويلُ الشاعر سيمفونية لوحدة الألوان وتناغم العوالم، وهارمونيا المكان والزمان والما وراء، في مشهديةِ العطر والطنين. وكما عند إيليوار وبودلير، لم يعد البابُ موارَبًا، بل، وعلى مصراعيه، فتحه جورج غنيمة على أناهُ الشاعرة، لتحقّقَ كينونتَها وتؤصّلَ وجودَها في دائرة الجمال وجمال الرومنطيقية، على سجيّةِ لغةٍ إيحائيّةٍ تخاطب الحواسَّ، مستجيبةً لأهواء القلبِ والنفس على إيقاع الطبيعة.

يواصل شاعرُنا ردمَ الهوّة بين السماء والأرض في محطاته الأثيرية بين دفّتَي الكتاب/ الغنيمة، كما “كريشنا” أحد آلهة الهندوسيّة الكبار، فتارةً يتخذ صورة الراعي يشدو ناي القصب، وأحيانًا يتجسّد أميرًا يفلسف سحرَ الكون والإنسان. وإذا بـ “كريشناه”، يستحيل أحيانًا أخرى حارثًا لحقول الشاعر المعجمية الطافحة بأريج الأرض المرصود على أنفاس شاعرٍ عطّرها الصمغُ والبخورُ والطيبُ وشذا الشيح واللأَبَنوس والشربين.

سياقاتٌ صيغيويةٌ، إيقاعاتٌ صُوَريّةٌ، مشهدياتٌ رؤيوية، في حقولٍ وحدائقَ وجنائنَ معلقة في فضاءِ الشاعر الزاخر بالعبَق، بانصهارِ العناصرِ وتضادِها في الآن نفسه، مولّدةً كيمياء الدهشة الساحرة. رومنطيقيةٌ حداثويةٌ تتظهّر في مسارٍ كريشندو لإبداع الشاعر. مزيجٌ خلّاق على مائدة الجميل الشعري والمطلق والتجريد الفكري، في يقينٍ لقابلية الكمال Perfectibilité في “مدن الغمام الأبيض” و”إمارةٍ من مدنٍ وقوافٍ” كما نقرأ في الكتاب.

على إيقاعاتٍ مترامية الأبعاد يرقص شاعرُنا، مع جنّيات القصيدة المسحورة ذات الذيل المضيء في ليل القافية المقدّس، مستكملًا أداء النور وطقوسيةَ المكان والزمان ومتلازمةَ العشق والانصهار بالذات الكبرى، شاعرًا/  رسولًاPoete/Apotre  .

 في مرمى قصيدته، يقع كونٌ بكامل ألق الحضور، وأناقة التركيب، وانسيابية الألوان. وفي انعكاس مرآته، قصيدةٌ حيّة، نابضة، مزهوّةٌ بصَهر العناصر في غيمةٍ واحدة ومطرٍ كثير.

وفي مرمى قصيدته، تقع سماءٌ بكامل أزرقها وهيبةِ ساكنيها، ومنازلها الكثيرة الدافئة،  وعرشها وسِدرةِ منتهاها. سماءٌ تكوكبت قصيدةً من ميرون تحرسها “مريماتُ الشتاء” و”قناديلُ الكنائس العتيقة”.

لمّاحةٌ هي منمنات جورج غنيمة، رشيقةٌ في اقتيادنا إلى فسيفساء الدهشة وبراءتها. ومواويله ترفعنا إلى أقاصي أشجاننا، وتُنزلنا إلى عمقنا المهجور، وترمّمُ ذواتًا دهمها الخريف ذات إغماضة.

العدد 128 / ايار2022