ثلاثي جنديار : تأصيل التأصيل في وضوح الخيارات

عبيدو باشا

تم تأمين بيئة بعيدة من النزاعات للفتيات الثلاث. الكلام على العدالة والمساواة كلام مقفل ، اذا ما اعتبر الكلام على المساواة كلام ذو وجهين . لدى الدكتور شوفاني وجه واحد ، مفتوح على الآخرين كباب غرفة . لن يمزح وهو يجد بين جدران الموسيقى واحد من خلاص الفتيات ، ولكنه لن يتذكر وهو يرى جنى وديمة ويارا في حجرة صغيرة أو في طالوت مدرسة أو في كليب يصور أو في ملهى عائلات وهن حبيسات الصمت ، يخرجن الموسيقى من قطن الأصابع . لم يحذرهن ولم يخيفهن وهو يرافقهن في عالم الموسيقى الغامض . لأنه عالم الأجداد ، غير أنه لا يزال يطلب العون لكي تتوضح ملامحه ملمحاً ملمحاً، من العينين الى الذقن والحاجبين والخدين . اللحظ وضوح ، حتى أن الفتيات الثلاث منذ بدأت دراسة الموسيقى لم يعلن في يوم عن اغلاق عالمها بالتسليم بالواقع . أي بالتسليم أنهن بتن على قيد الموسيقى ، على قيد الحياة ، وما عليهم سوى أن يرمين الغيوم من ايديهن على المستمعين والمستمعات حتى يجد هؤلاء أنهنم لم يخطئوا بالمجيء الى حيث بدت الموسيقى بلحية من قوة ايدي الفتيات عليها .

لم يختط الدكتور الياس شوفاني ( عازف عود ، دارس غير متخرج من المعهد الوطني للموسيقى ) سوى سيرة ملامح متناسقة وهو يقود الصبايا الى طاولة العمل على النوتات ، تحريرها من الدفاتر والكتب بقوة من يحس اصابعه تنغرز وتضغط على الالات كما تضغط على باب حجرة الموسيقى المغلقة والمفتوحة في آن . هكذا ، بدأ بأولى محاولاته وكأنه يدفىء نفسه ، اذ فتح يديه المتصالبتين لكي يدفع الفتيات الى المعاهد الموسيقية . لأن الموسيقى والأغنية ، لديهما عشرات الأسئلة ، يطرحانها على العازفين بصوت خفيت لا يسمعه الا من يرى بالموسيقى فكراً لا منحوتة جنائزية ، اذ تقع بافخاخ البلهان ، من يعتقدون ان الثابت لا يتحول . وانه اذا لم يتحول ، لن يجده الباحثون سوى في القبو ، بلا بريق وبلون رمدي محير .تأمين الحاجة أولاً ، توفيرها . ثم ، دفن الصبايا ، بعيداً من التطرف العنيف الى عالم لم يعد ينشر حرارته بسهولة على العالم .اذاك ، وجدن أنفسهن يتخطين الجدار الفاصل بين الموسيقى والأغنية القديمة ، وهن يهمسن بأن العزف ايماء وأن الغناء تحرير النفس ، ثم اخبار الآخرين . الاغنية رواية ، كل اغنية رواية تضيء الوجوه بالابتسامات . لم تطرح الصبايا سؤالاً ممضاً ، من نوع في أي عام نحن ولم نعرف ونغني ما نعزفه ونغنيه ، وما يعتبره الآخرون كابوساً مرعباً ، من ميل الشباب الى الموسيقى الحادة والغناء الحاد . عند الصبايا ، الموسيقى والأغنية العربية من اعلى الرأس حتى اخمص القدمين . الهدف الأكبر في الحنجرة والاصابع ، الهدف الأكبر في طقطقة مفاصل الموسيقى والأغنية ، لردها الى الحياة بحملها الى الآخر ، من يقف أمامها كالمسافر ينتظر السفر ، إما أن يطير ويحلق وإما يبقى على ارض المطار بدون طيران. لنقل أن ما يحدث ابعد من المعاصم والحناجر والتنهدات والتفتيش في جيوب الزمن عن النكهات المسروقة .انه ما تفعله الجماعة الصغرى من أجل الكبرى ، ما تفعله من اجلي ، وما ان يفعله من لايعرفون العودة مراراً وتكرارا الى الدماغ ، الى مناطق الغليان بالدماغ ، في متسع من الوقت ، في متسع من المعقول المجبول بالطاقات والفترات الموشكة على المواعيد الطيبة . انه اعتناق المقاربة الضرورية للجماعة الإجتماعية لكل ما هو بديهي في حياة من اذا تناول فداحته وحفها وجد نخبة، لا تكشر حين تسمع الخطط المحكمة بالموسيقى والأغنية العربيتين . لا خلط . إنها دعوة تنموية ، من أجل بناء حضور لا يستعرض وهو يقدم اجندته الأكثر استقراراً، الاكثر حركة لا مرواحة في الشعور العاجز عن التهريب . لأن ما تؤديه جنى وديمة ويارا مكونات لا تشبع من عسل النظر الردي الى الخياة ” القديمة ” بالعودة اليها باستخلاق ذواتها مراراً ومراراً، بعيداً من روح البطاقات السياحية الجاهزة . إنهن يؤدين كل مرة بطريقة أخرى ، مقامات على طريق الإنطفاء، موشحات لا تزال تدفع الى التأوه ، بشارف كآخر القبلات . نحت آخر على الأصوات والالات . ذلك أن الفتيات الثلاث يمسحن عشقهن للموسيقى بالصوت والآلة . صحيح ، أن الصوت سيد الآلة ، ولكن عزفهن على البيانو والغيتار الكتريك والقانون والتشيللو والآت الإيقاع ينتمي الى ذرية المتعة ، من تقدم العازفات كعازفات وحواريات في آن . كل ما يعاني من النقصان تخرجه الصبايا الثلاث من عجزه الى سمائه أو جنته ، بعيداً من النوبات العنيفة أو المتوسطة أو الخفيفة . حال من الصحة الحقيقية ، لا تسديد نفقات مطمورات أو اظهار مداهنة . اخراج من المخابئ ، من منازل الحذر الى القبضات المدوخة . كل شيء مسيطر عليه بالإجابات الواضحة وفي استعادات لا تردد الحلول . ذلك أن الصبايا ماهرات في اظهار. حالات الوعي الحقيقية في التقسيم والتفريد والارتجال ، الهرمنة، في هرميات كمواعيد القطارات الأوروبية ، تصل عرباتها على الوقت لتحقق ما هو مجهول بعلاقة الإنسان بالزمن . لا تنوجد اغاني محمد عبد الوهاب وليلى مراد وفريد الأطرش والأخوين رحباني وفيروز و الشيخ سيد درويش وغيرهم من وضعوا في محفظة الكتابة على الرموز الخاصة ، لا تنوجد لا في الأدراج ولا في السقوف ولا في بلورات المايكرويف . ولا هم كأقراص الأسبيرين . إنهم بالجينات ، موجودون بالأنسال والأنساب، على بوابات الدرب حيث لا مساحيق ولا ادوات تجميل . لا تنهض الالات والاصابع اليها بعد العثور عليها ، سوى على الأذرع المتحركة . هكذا ، جرى الاقتراب منها ، بقسمات الوجوه الشابة ، من صورها الجانبية اللامعة ، اللماعة ، حيث تبرز على عقيق الوقت . كل اصبع على المؤلفات والمعزوفات قلم حبر بدونها على السواعد لتسيل على الأيدي والأصابع . دلوف ، ثم بلورة ، ثم رؤية القطع في حقائب الهواء العملاق ، حيث المتاع الحقيقي لثلاثي جنديار ، المتصفح ، الخافق ، المتفكر ، الرنان .كأنه شيء يشبه أشياء ، سوى ربطات المفاتيح المدلاة من الخصور والجذوع . كل معزوفة مدينة حقيقية ، لا مدينة رسمها الرسام على ورق الرسم . كل معزوفة ، مؤلف ، أغنية جرعة منشطة من تدفق الدم باذرع الصبايا وتنفسهن وضغطهن وحدقاتهن المتوسعة وفقاً للاجراءات المراوحة بين التهوئة ، تهوئة المؤلفات بالعزف . فتح وريد جديد عند كل ثنية ، كل مرفق ، أمام جهاز المراقبة الحيوية ، علي كسروان الاستاذ بالمعهد الوطني للموسيقى ( الكونسرفاتوار ) من يقيم تخطيطات القلوب لكي يحقنها بالفلومازينيل . هذا الرجل مفتاح ، لا مسعف . لا يقدم نفسه بوشاح ولا بوشاحين ولا بالنهوض الاستعراضي للنظر حوله بدل النظر الى الارض للتدقيق باخر لصقات النظر على المرتفعات والمنخفضات في وعي بالغ ، يمتلك مثله من تبنى وجه المجموعة بعد رسمه ممراته بعيداً من الاستهلاك.انعاش دكتور الياس شوفاني ، لا علاقةله بالكوكتيلات المدمرة. دفع مستمر الى معرفة عملهن حق المعرفة. وكأن مدوناته موجودة على الهويات لا على ورق التنويط. تبين وجوه المؤلفين والتركيز على ثوانيها بروح العشق لا بروح المسعفين . استباق القرارت بالحركات والتحرق الى الدخول في المصوغات المفهومية . كل معزوفة ، كل اغنية حوض يمتلئ بلحظات ردم الهوة بين ما مضى وزمن البناء الجديد . إن الاحتراف صوت منتظم بالأصوات والاصابع ، تلتفت الرؤوس اليه بالتقاط ما هو مضيء ، يعيش في المؤلفات ويحيطها بما يدفع الى الإرتعاش . كل وقفة منعرج ، باب منفرج على اجمل الهسهسات ، يضاعفها نشيش متواصل ، كتواصل خيطان الماء . خلق لا لصق ، يتحقق بالنظر الادائي اللادائري . عزف كتقديم القسم أمام حشد غفير . أو كالحلفان .يصنع المؤدي بصوته أول السلالة وآخرها . لأن الغناء نعمة لا نغمة فقط . شيء الهي لا يُقصِّر عن ريادة السماء مع ديما وجنى ويارا، حيث تتبادلن الأدوار وكأنهن مصابات بالشِعر يغطي ايديهن وكأنهن يوشكن على الغرق فيه . ثمة شيءٍ باللقاء بينهن ، يخاطب العتمة في مواد الريبوتوار المستعاد ، على طريقة أنت العتمة وأنا الضوء ، كن ضوئي اذا فقدت الضوء بالقفز من الشريان السباتي الى الشريان السباتي . هذا نعيمهن بعد أن قسن ما يقدمن على ما يقدم من هتك وفتك . لا تهكم من شيء ، لا تهكم على شيء . انهن لا أصوليات ، حين يقبضن على قامة السيف ونصلة الخنجر في ما خرج من موسيقى مكتوبة على ضوء الأزمنة ، حواملها ، هندساتها المعمارية بقناطرها الأنيقة ذات السلالم الزهر المزخرفة بالطوابق . لأنهن الأدرى بأن الموسيقى العربية موسيقى مؤلفة. وأن الأغنية العربية أغنية لم تصب بالفحولة ، ما اخرجها من الكسل الى الدخول في شمع الدفء بكل المقاسات . استلزم الأمر النقر برؤوس الأصابع والركوع على الركب والمحاسبة البهية ، لوضع الأشياء في أمكنتها بطريق مد النفوس الينابيع . ثم الى رقص الذئاب ، لا برش الماء على الوجه ليبدو متعرقاً ، بالتفتيش بالجيوب الداخلية للاضواء الوامضة، بعيداً من المصابيح الدوارة . شرح مفصل ، لأن جنى وديما ويارا لم يكتملن على مقام الإرتكاب ، بعد أن درسن طويلاً وخضن في رحلات كرحلات السندباد في المعاهد الموسيقية ، حيث اشتعال الحواس لا هوس الوقوف خلف الضوضاء ، خلف الجنون . هوى ، لا هوس . لذا، اذا خضن بالموسيقى والغناء ، لا من رغبة بالفيض، من ايمان أقرب الى المناولة .

لا تكذب يارا شوفاني حين تروي على آلة القانون . تروي ، لأنها حين تدخل في الآلة ، تدخل كما يدخل الزارع الى كرمته .قوة تسكر ، ربتها على التعب والخلق بين معهدي غسان يمين والياس الرحباني . إنها عازفة صنَّاعة ، تصنع عزفها لا بالمهارة وحدها ، تصنعها بالخلق من خلال التكليف وخروج التكليف من الخاصرة . لا تعب حين تعزف ، لا تتعب حين تراها . ذلك أنها تتمتع بمهارة فائقة بالتعبير من خلال العزف . ثمة انطولوجيا بأصابعها ، تجيء وتروح كزياح الموج ، على زياحه ذرية وشعوب . ديما تذهب بالعزف على التشيللو على مرأى من الإياب ، برفع حرارة الجسد . اذا ركنت الآلة على جسدها ، تصبح الأخيرة مادة طبية ، اذ تلعب العابها الحية .ثمة معصرة للروح في اصابعها ، ثمة مكر مفر ، مقبل ، مدبر . ثمة براءة ، تضحي معها طوباوية على آلة لا تنام بين يديها وهي تنطلق من القصيدة الى القافية . تنمنم على التشيللو كما تفعل يارا على القانون . خطوط متقاربة قصار ، زخرفة وتزيين ونقش . رسم دقيق مفصل ، صورة أو رسم أو حرف زيني على مخطوطة مزخرفة . نمانم ، يعود الأصل فيها الى طائر مغرد يستوطن نصفي الكرة الأرضية . نمنمة أقرب الى السكسكة . النمنمة اسم مجموعة من الطيور الصغيرة الدائبة الحركة . كل واحدة ساحبة يراودها الهطول في قوارير الجسد . جنى من يقود التسلك بالتفرع وراء مقودها . مقود لا يرى على هدوئها ، الأقرب الى مخاطرة كبرى . ثلاث غيمات ، فصل كامل يصل الى حيث يصل بعد الإفراج عنه من اصابع العازفات الكارجة كالماء فوق الرغبة . الأجمل ، أن العائلة لم تصنع هذه العائلة ولو احاطتها بالفرح بعد أن أخرجتها من سرتها . هذه عائلة أطلقت سراح نفسها، وسط العواصف بهدوء لا يتعب . إنهن عصارة أنفسهن . الأجمل أنهن حين يعزفن يوصلن العزف كعصارة من عزف الغجر ، من العزف الغجري وكأنه من ثمرات البطن . موسيقى تتمتع بالوضوح وهي تلتقط الشاردة والواردة من احاسيسهن في الجهة الموجهة اليها . هكذا ، تقدم الموسيقى الصبايا لا عبر التقنيات الكالحة وإنما من الإفادة من تحقق الإنصهار في هارمونيا أرست نفسها كما يفعل القرار . انسجام وتناغم وتوافق ووحدة ايقاع . الأخير ضبط لتفلت الأصابع ونيرانها وقراراتها المتوسعة على الارتجال والتفريد ، مع مراعاة الأمور الضرورية للوصول الى اللحظة العالية ، الغالية .إنهن يعزفن ويؤلفن بعد أن مررن في القطاعات اللازمة.انهن مشروع يقوم على الذاكرة والذكريات والواقع والإنشغالات الجديدة .مزيج من مختلف مقاييس العمران المديني. واحياء المزيج بعيداً من خيبات الأمل وميادين السلطات الموسيقية . هكذا تعزفن في بساطة وانضباط في طرقات بعيدة من التشوه الموسيقي وبعض المغامرات المسطحة . حفلات ببرامج واضحة لا على الشواطئ العامة ، في كل ما يرينه على قيد الحياة، باستيعاب المجريات وكسر الروابط الحتمية بين الموسيقى وتحقيق المراد منها . لا دراما ولا تراجيديا ولا جوع ولا موت . وقوف هادئ ضد التيار ، وقوف ضدي بلا حرب . لأن نهايات الحروب معروفة . لن تقع واحدة منهن وراء الهلوسات والأخيلة ، ما يضعها في اكبر المخاوف . سوف يصمدن ،لأنهن اكاديميات لا ضبابيات يواجهن الخطر والخوف والألم والتهديد والدوخان والغثيان . لن تمتن مهما بلغ عدد الموتى حولهن. ذلك أن لعقولهن طاقات بلا ردود فعل انفعالية . انهن مجموعة مشروع .حضور كحضور اللقمة ، بعيداً من محاولات اللحاق بالسهرات . هكذا ، لا يعزفن الا بعيداً من السجون والكمائن ، في حفلات صديقة أو في منزل أو ملهى تمر في امسياته أيام الغد . سوف تطمئن الفتيات الى أن كل شيء بخير ، ما دمن يقفن على خلفياتهن . خلفيات كالغاليريات المليئة بلوحات تحفل بالمناهج وترتيباتها . انهن جزء من خضرة المستقبل ، رهانه ضد الأمراض والموت البطيء . ذلك أن تاريخهن من تاريخ الموسيقى العربية الطويل وتاريخ الأغنية العربية الطويل . موسيقى مستقلة ولا تزال على قيد الحياة . العديد من الأنماط ، العديد من الأقاليم . بيوت لا تحليات في تجليات مختارة ، من نظام ثقافي لم يقع بالاختلال في مجتمع انعدمت فيه اية امكانية للتمسك بادراك ما ائتمن عليه . معهن صداقة لا تمحى مع عبد الوهاب وسيد درويش والسنباطي وفريد الأطرش وعبد الحليم حافظ وأن كلثوم وفيروز وصباح واسمهان وعزيزة جلال وصباح فخري ووديع الصافي ووردة الجزائرية . لن يجبر عبده الحامولي تلاميذه على الحضور ، من يوسف المنيلاوي الى صالح عبد الحي وسلامة حجازي ، لأنهم الأكثر حضوراً في تخت جنديار ، من وجدن بالموسيقى والأغنية العربيتين ، المناخ والعمق والمقال الآخر والوصف ودقة المعلومات والوصفات والفرق والخلفيات .

العدد 129 / حزيران 2022