كايلي مورغيلبرت اكاديمية استرالية في قبضة الحرس الثوري الإيراني

’سماء بلا سياج‘ قصة عامين في جحيم فارسي!

ملبورن – جاد الحاج

آداب السجون متعددة الأوجه والأساليب، ولها مؤلفوها وقراؤها حول العالم. نادراً ما عرفنا عبرها مؤلفين سجنوا ظلماً وعانوا المرارات الفادحة لينتهوا الى سراح وبراءة.  قد تكون كايلي مور غيلبرت، الأكاديمية ابنة مدينة ملبورن، واحدة من اولئك النادرين، ويأتي كتابها الصادر اخيراً في استراليا “سماء بلا سياج” نموذجاً إضافياً لسيرة باحثة جامعية تلقت دعوة من إحدى الجامعات الإيرانية   للمشاركة في ندوة خاصة بالشيعة البحرانيين. وافقت جامعة ملبورن على زيارتها وانجزت السفارة الإيرانية في العاصمة كانبيرا إذن دخولها الى طهران.  لكن لدى انتهاء

كايلي مورغيلبرت

 تأشيرتها بعد ثلاثة اسابيع مدة الندوة، ذهبت كايلي الى مطار العاصمة الإيرانية لتلتحق برحلة عودتها الى ملبورن. الا ان الرياح هبت بعكس وجهتها، إذ كان في انتظارها فريق من الحرس الثوري الإيراني،  قبضوا عليه وشرعوا في التحقيق معها على اساس شبهة تجسس . . .  ولو من دون أدلة واضحة.

تفاقم يأس كايلي وارتباكها   لعدم قدرتها على فهم ما يقوله  افراد الحرس. نعم، درست سابقاً اثنتين من لغات الشرق الأوسط في جامعة كيمبريدج: العربية والعبرية، ولم يخطر لها التفكير  في اللغة الفارسية . وهنا تشرح مأزقها بقولها: “كان مريعا ً ألا أفهم ما كانوا يقولون  وألا أستطيع التواصل معهم”. مع ذلك، قاومت كايلي كل محاولة جدية لتعلم الفارسية. ”  لأن ذلك يعني الاعتراف لنفسي بأنني سوف أقضي في السجن وقتا طويلا”.  لكن، بعد ستة أشهر، وبعد أن سلمت بالواقع  أحضر لها سفير بلادها إيان بيغز قاموساً إنكليزياً ـ فارسياً مع كتاب في قواعد اللغة. وهنا تقول: “أصبح لدي سبب للنهوض باكراً في الصباح. بل أعطاني  هدفاً  أعمل لبلوغه”.

 بعدئذٍ بدت معركة التمسك  بالهدف حتمية، لأن كل ما يتعلق بالحياة في قسم السجناء السياسيين   مصمم لسحق الأرواح ، فكلما كان على كايلي الخروج من زنزانتها، توجب عليها أن تعصب عينيها ولو  لزيارة  عيادة السجن. كما لم يسمح لها ارتداء منهدة تحت بزة السجن المؤلفة من سترة قرنفلية تلامس الركبتين وبنطال واسع قرنفلي اللون. وهي تعلق على ذلك بقولها: “إنها استراتيجية متعمدة للإذلال والإهانة ولسلخ الطابع البشري عن السجناء”. اما الإعتداء الجسدي فلم يكن أكيداً في وحدة النساء حيث يعتبر التعذيب الذهني أكثر حضوراً وفعالية:”يتعلق الأمر اساساً بالحرمان الحسي  مما يتحول الى ضغط مروع على الدماغ يضطرك الى تطوير آلية بديلة، لئلا يسحقك الكابوس. اما انا فكنت اتمدد على ارض الزنزانة تاركة لذهني ان يطوف متجولاً بلا وجهة محددة، لكن هذه التقنية لم تكن مفيدة لسواي خصوصاً بعدما  أعطي كل سجين رقماً  مما أثار حفيظتي  إذ دأب  الحراس غالبا على مناداتي بـ97029ـ بدل استخدام اسمي. إلا أنني، كدليل على وجودي كنت اصيح بأعلى صوتي : أنا كائن بشري ولست رقماً.”

مع ذلك  كان حتميا أن ينهكها بؤس وضعها بصورة تدريجية. لكنها لم تحاول الانتحار، كما ذكرت بعض التقارير لاحقاً، ولو انها بالتأكيد فكرت في الأمر. وقد سجلت في كتابها تعليقاً على ذلك:  ” يتضاءل ببطء فهمي لنفسي كَكائن بشري فريد له شخصيته وروحه وأهواؤه والأشياء التي لا تعجبه ومواهبه وملكاته ونطاقه الأخلاقي والأدبي الواسع المتميز بالأحلام والطموحات. هكذا أخذت أخسر كل شخصيتي وأصبحت مجرّد 97029″ وتضيف: “لقد فكرت كثيرا في كل ما حدث لي، بل وراودتني  تلك الأمور في الغفلة أحيانا. أما الآن، فأنا أحب أن أضعها جانباً وأتخطاها قدماً”.

لا تعرب كايلي  عن شعور بالمرارة تجاه إيران بدليل قولها: “إيران بلاد جميلة. والإيرانيون العاديون شعب رائع يتميزون بحسن الضيافة واللطف والمودة والدفء”. كذلك لم يفتر اهتمامها بمنطقة الشرق الأوسط. “إذا هناك  شيء ينبغي التأكيد عليه، فهو أنني اليوم  أشد اهتماما بالشرق الأوسط”.

  فترة السجن جعلت كايلي تعيد تقويم أولوياتها، علما أنها قدمت استقالتها من وظيفتها في جامعة ملبورن:”يساورني الشك وعدم اليقين تجاه عالم الدراسة.  أنا أحب التعليم والبحث. غير أن التعليم لا يعطى قيمته ولا أحد يهتم فعلا بالأبحاث.   كل ما في الأمر هو مطاردة المنح والمال . . . فالتعليم العالي في وضع مزرٍ حقا”.

وتذكر السجينة المحررة في كتابها أن إيران غيرتها تغييراً عميقاً: “بعض هذه التغييرات  ممتاز، فأنا أشد ثقة وإيجابية وتأكيداً وجزماً، وما زلت   أحب المغامرة والمجازفة. بل تراني أساند نفسي. لكن السجن   جعلني أيضا أشد ريبة وأتميز بالحذر حيال كل شيء عاطفي . بل أصبحت بطيئة في منح  ثقتي وبطيئة في السماح للناس بالدخول إلى عالمي”.

قبل سفرها الى طهران في شهر آب من سنة 2018 اشترت كايلي منزلاً في منطقة داندينونغ على بعد حوالى الساعة من مدينة ملبورن . هنا التلال  متجاورة  والطيور تملأ الأشجار العالية، والهدوء الثابت يفتح مصاريع التأمل ويحرّض المخيلة على الإبداع. وها هي اليوم تعود الى منزلها بعد قضاء 804 ايام في   احد سجون الحرس الثوري الإيراني. الا انها تبدو متماسكة، مضيافة، ومنفتحة للإجابة على اسئلتنا، بل أعدت كعكة فارسية تضمنت ماء الورد وحب الهال والفستق الأخضر المطحون وبتلات ورد مجففة، ورافقتها بالشاي المغلي.

في الرابعة والثلاثين من عمرها ، يفاجئك  لطفها ودفء تهذيبها.  تنظر في عينيك وهي تحدثك. وتتناول من مائدتها  ما يبعث في نفسها بعض الرضى، فعلى الرغم من  الجور والإجحاف والإهانات التي عانتها  في السجن،  لم تتعرض لانهيار كامل. بل نجحت عموماً  في الحفاظ على رباطة جأشها ورصانتها. وهي تشدد بالإيضاح: “عموماً” تقول ” لكن ليس دائما”!  وتضيف: “كانت زنزانتي مثيرة للإشمئزاز، وطعامي بالكاد يؤكل . وعلى رغم احتجاجاتي الواضحة بأنني استاذة اكاديمية في جامعة ملبورن، ولست جاسوسة لأي جهة كانت، وجدت نفسي اصيح  لآذان صماء، ولم انفجر الا بعد مرور سبعة اشهر حين اقتادني الحرس الثوري لمقابلة سفير بلادي إيان بيغز”.

 من ناحيتها، كانت كايلي قد وجدت بيغز رسمياً متحفظاً في لقاءاتهما السابقة .  مع ذلك، سّرها  رؤياه. أما ما أثار قلقها، فوجود آلة تصوير تلفزيوني   نصبت على حامل ثلاثي القوائم. وكان سجانوها قد ضغطوا عليها قبلا للإدلاء بتصريحات أمام عدسات التصوير. لكنها رفضت أن يتم تسجيل محادثاتها مع السفير.   وأدارت جسمها بعيدا عن العدسة  وأعلنت أنها لا تريد أن تتصور. أتى رد فعل كبير المسؤولين الإيرانيين غاضباً، وأعلن عبر المترجم أن اللقاء قد انتهى وطلب إلى السفير المغادرة. عند هذا الحد انكسر شيء داخل كايلي فزعقت وهي تلقي بنفسها على السفير المجفل صائحة: “لم ينتهِ الاجتماع. لم ينتهِ، وهو لن ينتهي حتى أقول أنا”. وهوت بنفسها على الأرض ولفت بذراعيها ساقي بيغز.   ثم هتفت: “سيد بيغز، الرجاء أن تكمل. ماذا أتيت تخبرني؟  الرجاء أخبرني ما الذي تفعله الحكومة لإخراجي من هنا”.

مما يسجل لبيغز محاولته الرد على سؤالها على الرغم من إصرار الإيرانيين الحاد بصورة متزايدة على ضرورة مغادرته. لكن  السفير كان يعمل في السرّ على اطلاق سراح كايلي عبر محادثات عويصة مع بانكوك لمبادلة كايلي بثلاثة ايرانيين حاولوا نسف السفارة الإسرائيلية في بانكوك ولم يفلحوا بل قبض عليهم وحوكموا واودعوا السجن مؤبداً. وذلك ما قد حصل في النهاية.

 ” مسكين بيغز” قالت كايلي” كان المشهد سوريالياً بامتياز.”

  كايلي لم تقرر حتى اللحظة بما ستملأ بقية أيام حياتها،  لكنها تقول: “لا أشعر بالقلق، بل برغبة في المضي مع التيار و لا بد ان  أعثر على ما يناسبني”.

 قبل أن أغادرمنزلها، قامت كايلي بلف ما تبقى من الكعكة في إناء بلاستيكي وأصرت على أن آخذها معي.

العدد 129 / حزيران 2022