هل خسرت الاستراتيجية الامريكية الجديدة العراق والمنطقة ؟

د. ماجد السامرائي

وقع العراق في حالة التدهور والظلامية والتبعية منذ احتلاله عسكرياً من قبل الولايات المتحدة الامريكية وتحكم الأحزاب المتغطية بالإسلام السياسي بمقدراته .حين اختارت الإدارات الأمريكية هذا البلد في منطقة الشرق الأوسط وكثفت استراتيجيتها لجعله مركزاً لما وصفته بعنوان التفوق والانفراد الأمريكي بعد سقوط الاتحاد السوفييتي عام 1991 . كانت تلك الاستراتيجية حالمة بعراق مزدهر يشكل انموذجاً لما سمته الشرق الأوسط الكبير . رغم إن استراتيجيات الدول الكبرى القريبة من الامبراطوريات لا تحلم من فراغ إنما من وقائع سياسية وعسكرية واجتماعية , كان السؤال الذي ما زال الباحثون والاستراتيجيون الأمريكان يبحثون من خلاله عن جواب يقول : هل إن صدمة احتلال كل من أفغانستان والعراق قد أذنت بهذا التراجع والتحول الهائل  والتداعي , أم إنها استراتيجية معدّة ومدروسة في أروقة صناعة القرارات الأمريكية الكبرى وفق أوليات محسوبة تتعاطى وفق التزامات الأمن القومي الأمريكي أولاً ومصالح الشعب الأمريكي ثانياً , رغم إن تلك إحدى المبررات الإعلامية التي تغطي خللاً استراتيجياً كبيراً أنتجه تنامى وتصاعد القوى الدولية الكبرى كروسيا والصين كذلك التحولات في منطقة الشرق الوسط خلال العشرين سنة الأخيرة في العقائد والاديولوجيات وحركة الشباب في هذه المنطقة نحو الحرية والانعتاق من الدكتاتوريات المحلية بما سميت بثورة ” الربيع “

نحاول في هذه السطور عدم الانحياز جدلياً خلف اطروحات القوى المتخاصمة مع الولايات المتحدة الأمريكية سواء تلك الدول التي تحاول إعادة الاعتبار لنهايات كانت مفزعة ودراماتيكية كانهيار الاتحاد السوفييتي وولادة روسيا الجديدة التي تحاول في ظل قيادة رئيس طموح خرج من بطن الكي جي بي غازل الأمريكان والأوربيين في الأيام الأولى من حكمه ثم تحول الى خصم شرس في الأعوام الأخيرة , وها هو اليوم يهدد أمريكا بسلح الردع النووي . أو خضوعاً لسياسات دولة الغول الصيني الذي دخل من باب الاقتصاد والتجارة الى حارات ومتاجر نيويورك وواشنطن بلا استئذان . لنلقي بصيصاً من الضوء على رصد لحصاد الاستراتيجية الامريكية في العراق أولاً ومنطقة الشرق الأوسط ثانياً .

كانت واقعة الحادي عشر من سبتمبر 2001 في نيويورك مفصل تاريخي مهم لإعلان قوى اليمين الأمريكي بدء المشروع الحربي ضد بلدين في الشرق الأوسط وشرق آسيا هما العراق وأفغانستان التي سمحت الظروف الجيوسياسية لتنظيم القاعدة أن شكلّت المثال الأول . اما العراق فكانت عمليات تلفيق المعلومات حول أسلحة الدمار الشامل التي دمرت فعلاً بعد حرب الخليج الثانية ( حرب تحرير الكويت ) كافية من وجهة نظر قادة اليمين ديك تشيني ورونالد رامسفيلد وولفوفتيز وغيرهم لتنفيذ مشروع الاحتلال العسكري رغم كلفه البشرية والمالية على الجانبين الأمريكي والعراقي .

من الطبيعي أن تتغير المبررات والعناوين الإعلامية للاحتلال من أسلحة الدمار الى العلاقة مع تنظيم القاعدة الى إشاعة الديمقراطية والحرية في هذا البلد ثم أن يصبح العراق منطقة حربية لتغطية شعار ” محاربة الإرهاب وتنظيماته : القاعدة ثم داعش ” في ظل التعاون الاستراتيجي الأمريكي الإيراني الذي أبعد كليّا غطاء نهضة العراق وتطويره حتى على افتراض جديّة وحقيقة شعار بناء الديمقراطية في العراق . لقد تم تسليم سلطة الحكم الى مجموعة ” الإسلام السياسي الشيعي ” التي أشاعت سياسة التمييز الطائفي وسحق الطائفة ” العربية السنية ” تحت مبررات سقطت منذ الشهور الأولى لعام 2003 .

رسمياً ودعائياً وقعت واشنطن في أولى نكسات مشروعها للتفرّد السياسي والإعلامي بالقوة والهيمنة على الأرض العراقية بعد عام 2003

رغم اعلانات واشنطن رغبتها إيجاد توازن في التركيبة السياسية العراقية الحاكمة في العراق , لكن الوقائع السياسية والأمنية أكدت عكس ذلك حيث التفرّد الطائفي ” الشيعي ” مثلّته  سياسات الحاكم المدني بول بريمر والقيادة الميدانية العسكرية التي أدارت الوضع العراقي حتى نهاية عام 2011 تاريخ الانسحاب العسكري الرسمي للعراق . يرى بعض المراقبين أن صعود ” الشيعة”  أو رجال الدين الشيعة ولدّ مأزقا لواشنطن ثابرت في البحث عن حل له وأرادت تحجيم دورهم مع الاحتفاظ بتعاونهم, لكن الواقع فنّد هذه النظرية .

سبق لهنري كيسنجر وزير الخارجية الأمريكي الأسبق مهندس نظرية الحكم الطائفي أن صرّح حول الاحتلال الأمريكي بعد وقوعه قائلاً ” إذا أسفرت العملية السياسية في العراق عن صعود للتيار الديني الشيعي، فإن من صالح الولايات المتحدة الأمريكية العمل على تشجيع قيام كيانات ترتبط بعضها ببعض برباط هش “.

حاولت واشنطن عبثاً مواجهة المشكلات التي أخذت تتصاعد بعد هيمنة النفوذ الإيراني عبر أدواتها السياسية والمليشياوية , لكن بعد فوات الأوان كما يقال . كانت الفكرة الطائفية قيام ميليشيات سنيّة استراتيجية عابرة لتسهيل مهمات الاحتلال الأمريكي . فقد رفع السفير الأمريكي السابق في العراق “زلماي خليل “ تقريراً لإدارته بواشنطن منتصف تموز يوليو 2006 اقترح من خلاله ضرورة استحداث ميليشيات سُنية موثوقة ومسيطر عليها متعاونة مع الإدارة الأمريكية من أجل ما اسماه التوازن مع المليشيات الشيعية التي أخذت بالتوسع . دعم هذا المشروع الذي انتهى نهاية سيئة القائد الأعلى الأمريكي في العراق الجنرال “ديفيد بتاريوس”

بدأ تراجع الاستراتيجية الامريكية في العراق واقعاً عملياً عززه قرار الانسحاب العسكري عام 2011 الذي انقسم الاستراتيجيون الامريكان وحتى مؤسسة البنتاغون حول مخاطره المستقبلية على الاستراتيجية الامريكية في العراق والمنطقة . مؤيدو الانسحاب وجدوا فيه نظرياً فرصة للمصالحة السياسية في العراق . هذا ما سانده كثيرون من الساسة والباحثين والصحفيين داخل الولايات المتحدة وخارجها . مراسل الشؤون الخارجية في صحيفة الغارديان البريطانية جوناثان ستيل أكد إن أنهاء الاحتلال وانسحاب كامل للقوات الأجنبية هو الشرط المسبق للمصالحة السياسية داخل العراق من جهة، وللتعاون الإقليمي من جهة أخرى، إذ سيقدم الانسحاب حوافز لجيران العراق للمساعدة في إعادة أعماره , لكن هذه الآمال النظرية لم تجد طريقها للواقع العراقي , أكدت فشل الاستراتيجية الامريكية في العراق .

وصف الخبير الاستراتيجي الأمريكي انتوني كوردسمان الانسحاب العسكري الأمريكي السابق لأوانه من العراق عام 2011 بأنه ترك آثاراً سلبية لوجستية عسكرية , رأي إن الانسحاب ترك  خلفه قوات عسكرية وأمنية حكومية عراقية لم يكن بوسعها التعامل مع أسباب الإرهاب أو تجدد ظهور التطرف. وترك العراق وهو يفتقر للقدرة على ردع التهديدات الخارجية – مثل إيران وتركيا- أو انعكاسات الحرب الأهلية السورية , كما ترك العراق وهو في حالة انقسام عميق بين الشيعة والسنة وكذلك بين العرب والأكراد.

لقد كان في العراق وما زال اقتصاد فاشل ومصاب بالشلل في ظل هيكل حكومة منقسمة وفاسدة عاجزة عن تلبية احتياجات الشعب. يتعين كما يقول كوردسمان إلقاء المسؤولية عن الكثير من مشاكل البلاد على القادة السياسيين الأنانيين والفصائل المتنافسة، والانقسامات الطائفية والعرقية في العراق .

حاولت واشنطن اطلاق تعابير سياسية عامة حول نظرتها لعراق مستقر وآمن  لما يمتلكه هذا البلد من جغرافية مهمة  وموارد نفطية كبيرة وتعداد سكاني ملائم لتلك الثروات إضافة للتأثير الاستراتيجي في الخليج والمنطقة , لكن هذه الشعارات العامة لم تحدّ من تنامي النفوذ الإقليمي والدولي لملء الفراغ الأمريكي ( إيران وروسيا ) تأملت الولايات المتحدة ولم تقدّم خطوات عملية لما رغبت فيه بإقامة هيكل استراتيجي إقليمي أكثر فعالية يضم مصر والأردن ودول الخليج العربية الأخرى وضمان استقرار تطوير نفط وصادرات العراق .

شكلّ اجتياح داعش لثلث الأراضي العراقية ذات الأغلبية السنية في المحافظات الغربية عام 2014 الصدمة الكبيرة لجميع الأطراف الفاعلة في العراق . حكومته الطائفية الهشة وايران والولايات المتحدة , تطلب ذلك من حكومة بغداد الدعوة لمجيئ قوات أمريكية للعراق تحت عنوان مكافحة الارهاب التي ما زالت استراتيجية متبناة من واشنطن لتجعل من العراق مجدداً قاعدة حامية بعد بناء تحالف دولي جديد .

كان الخاسر الأول في حيثيات الحرب على داعش 2014-2017 هو المكون العربي السني في محافظات الموصل مركز الاجتياح الأول وصلاح الدين والأنبار وديالى وجزء من كركوك .

لقد دخلت طهران بقوة لتنفيذ المراحل الأخطر من استراتيجيتها بعد أن اوعزت الى مليشياتها ” الولائية ” الى استثمار الدعم العسكري الأمريكي لصالح توسيع النفوذ الإيراني . وهذا ما حصل واقعياً , القوات الأمريكية دعمت المليشيات التي استثمرت الفتوى الشيعية للسيستاني بالمعلومات والسلاح وغير ذلك فيما أصبحت طهران تعلن كذباً إنها تقدم الدعم في السلاح للعراقيين . كانت أمريكا تقدم الهدية مجدداً لطهران لكي توّسع من نفوذها في الوقت الذي تراجعت فيها الاستراتيجية الامريكية في منطقة الشرق الوسط والعالم .

أصبح المعمار السياسي والإعلامي مؤشراً لما يمكن أن يسمى بصراع الإرادات الخارجية ( واشنطن وطهران ) على الأرض العراقية . شكل ذلك فرصة لزيادة هيمنة الأحزاب الطائفية ” الشيعية ” للهيمنة على السلطة , سرقة الأموال والثروات وتدمير البنى التحية العراقية لدرجة اصبح العراق بلد الجوع والأمية والتخلف التعليمي والصحي وغيرها . رغم ما يقال عن دور لواشنطن في اختيار رؤساء السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية بالشراكة مع طهران .

شهدت إدارة دونالد ترامب 2017-2021 مظاهر التوتر مع طهران بعد انسحاب بلاده من الاتفاق النووي والبدء بعقوبات مشددة على طهران مما فتح معركة صراع الارادات داخل الأراضي العراقية , استخدمت طهران أدواتها المليشياوية فيما سمي بحرب ” الكاتيوشا ” ثم المسيرات بطائرات الدرون على مقرات السفارة الأمريكية والقواعد التي تتواجد فيها قوات أمريكية في إعلانات محلية عالية الصوت ” بضرورة طرد القوات الأمريكية من العراق ” تصاعدت بعد عملية القنص فائقة الدقة للجنرال الإيراني قاسم سليماني ورفيقة أبو مهدي المهندس في يناير 2020 .

بعد فوز جو بايدن بالرئاسة عام 2021 تعقدت معالم الاستراتيجية الامريكية في العراق والمنطقة بصورة أكثر من العهد الأمريكي السابق , لما يحمله الرئيس الجديد من اتجاهات سياسية فيها من المرونة تجاه طهران على غرار استاذه الرئيس السابق باراك أوباما الذي يجد في شراكة ايران للمصالح أكثر عمقاً من العلاقات مع العرب خاصة السعودية والخليج , مما عقد علاقات المصالح الاستراتيجية ووضعها في مآزق أثرت على المكانة التاريخية للولايات المتحدة مع تلك البلدان , في العراق أصبحت الأمور اكثر تعقيداً وغموضاً .

 أصدر مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية (CSIS) تقريرًا تحت عنوان “العلاقات الأمريكية العراقية: شراكة صحية لا غنى عنها”، ُسلِّط فيه الضوء على مستقبل العلاقات الأمريكية العراقية في ظل إدارة الرئيس الأمريكي “جو بايدن”، وكيفية تجنب أخطاء الماضي , أوضح إن الخلل في العلاقات مع العراق ناتج عن غياب تعريف واضح لما تحتاجه الولايات المتحدة من العراق بعد مرور 18 عامًا على الغزو الأمريكي لأراضيه، وما تحتاجه بغداد من واشنطن، مؤكدًا أن غموض السياسة الأمريكية تجاه العراق وموقع الأخيرة في أولويات السياسة الخارجية سيشكل خطرًا يساهم في استمرار إيران كأكبر تهديد للمصالح الأمريكية في الشرق الأوسط. “

الرئيس بايدن مندفع لتوقيع الاتفاق النووي الجديد مع إيران رغم ما يشكله ذلك من فوز لها وتقدم استراتيجي لمواقعها في كل من العراق وسوريا ولبنان واليمن , إضافة لامتلاكها السلاح النووي , ذلك لا يشكل أهمية بالنسبة للإدارة الجديدة خصوصاً بعد التقهقر المهين في انسحاب القوات الامريكية في أفغانستان العام الماضي .

لا معالم استراتيجية واضحة للولايات المتحدة رغم البيانات المتواصلة لواشنطن عن إعادة ترتيباتها لانسحاب مدروس من الشرق الأوسط لصالح مواجهة جديّة لكل من روسيا والصين . حرب أوكرانيا عززت هذا المنهج للإدارة الحالية لكنه منهج يلفه الغموض إلا من مؤشرات عملية لتراجع وغياب لتلك البيانات الأمريكية قبل عقدين من الزمن حول القوة الامريكية الأولى في العالم .

مجلة فورين بوليسي الأمريكية نشرت أخيراً  تقريراً مهماً حول الاستراتيجية الامريكية في العراق والمنطقة , تابعت فيه مؤشرات سياسية تصب في نقطة  وصفتها ” من الصداقة الى الاحتضار ” حيث وصفت تلك العلاقة بالاحتضار حيث ” لم يستجب السعوديون والإماراتيون لمطالبات إدارة بايدن بضخ المزيد من النفط، بالتزامن مع ارتفاع الأسعار العالمية نتيجة هجوم روسيا على أوكرانيا.”  وبعد فترةٍ وجيزة من الهجوم، امتنعت الحكومة الإماراتية عن التصويت على مشروع قرار لإدانته في مجلس الأمن الدولي . وبينما كان الرئيس الأمريكي جو بايدن يسعى لتوحيد العالم ضد روسيا . السعودية والإمارات لم تدعما العقوبات المفروضة ضد روسيا شريكتهم في منظمة أوبك.

تقول فورين بوليسي ” لا يبدو أن لدى السعوديين والإماراتيين أدنى ثقة في الإعلانات الأمريكية حول التزام واشنطن بحمايتهم. ولنرجع بالزمن إلى الوراء في أيام إدارة ترامب، ونتذكر القصف الإيراني لمنشآت نفطية سعودية في بقيق وخريص في سبتمبر/أيلول 2019. حيث اختار الرئيس الأمريكي حينها عدم الرد على تلك الهجمات. ما قوّض أربع عقود من السياسة الأمريكية التي كانت تستهدف الدفاع عن الحقول النفطية في الخليج ضد التهديدات المنبعثة من داخل وخارج المنطقة.”

ختمت المجلة الأمريكية تقريرها المهم بالقول ”  أن هذه القضايا جعلت “الرفاق” في واشنطن يتساءلون عما إذا كان شركاء واشنطن في الشرق الأوسط هم شركاء بالفعل أم لا. وفي الوقت ذاته يطرح مسؤولو عواصم الشرق الأوسط نفس التساؤلات حول الولايات المتحدة، وهو موقفٌ يزداد سوءاً بسبب الحديث عن “مغادرة المنطقة والابتعاد عنها”.

الاستراتيجية الامريكية الجديدة خسرت العراق وخسرت منطقة الخليج . هل تراجع واشنطن هذا التراجع أم عليها انتظار رحيل إدارة بايدن عام 2024 وتقلص نفوذ ادارته داخل الكونغرس بعد شهور قليلة في الانتخابات النصفية . الأيام ستكشف عن ذلك .

العدد 129 / حزيران 2022