جبران في حضوره المتجدد

محمد علي فرحات

من نعم الله على الكاتب أن مؤلفاته تتجدد في عيون قرائها في محطات نقاش يفرضها النقد الأدبي وعلاقة الكتابة بقضايا المجتمع الطارئة. هذا ما حدث ويحدث لجبران خليل جبران. وهو الذي يشغل الناس في لبنان والمشرق العربي ترك ذكريات الطفولة الضبابية في وطنه ليهاجر مع امه واخوته الى الولايات المتحدة على عادة لبنانيين وسوريين كثيرين في نهايات القرن التاسع عشر ومطالع القرن العشرين.

وتعتبر كتابات جبران انعكاساً لحياته وتجاربه، في لبنان الطفولة الاولى والدراسة لاحقاً في مدرسة الحكمة آتياً من الولايات المتحدة ليتمكن من اللغة العربية، وفي فرنسا لفترة محدودة، وفي نيويورك عاقداً علاقات مع مثقفين ومثقفات بصفته كاتباً بالانكليزية ورساماً، كما ساهم في تأسيس “الرابطة القلمية” مع كتاب وشعراء مهاجرين من لبنان وسورية، وانخرط في الدفاع عن الشعب اللبناني المقيم اثناء المجاعة في الحرب العالمية الاولى وبعد انهيار العثمانيين وانسحابهم من المشرق العربي.

احدث التجديدات في حضور جبران هو التحضير لنشر كتابات ومراسلات اندراوس غريب الذي نقل الى الانكليزية مجموعة من كتابات جبران العربية، وكانت الترجمة تحظى برضا جبران الذي سمح له بالافادة من حقوق المادة المترجمة، وقد صدرت بعد نشرها في جرائد اميركية في كتاب عن دار كنوف التي كانت تنشر كتب جبران بالانكليزية. الكتابات والمراسلات يتولى تحضيرها الدكتور ادموند غريب ابن اندراوس الاستاذ في الجامعة الاميركية في واشنطن. وكان اندراوس صرح ان نشر ترجماته عن جبران  في كتاب تأخر الى العام ١٩٣٤ بسبب تعنت باربره يونغ التي كانت منفذة وصية جبران، ولم تسمح بالنشر الا بعدما رأت تفويض جبران بحق الترجمة والنشر، وقال اندراوس: عدت الى لبنان بعد نشر الكتاب وكان كنوف يرسل لي حقوق الترجمة مرتين كل عام بمعدل اربعة آلاف دولار سنوياً، وهو مبلغ بقي يردني سنوات طويلة مع تكرار طبعات كتابي الذي اصبح من مجموعة جبران الكلاسيكية، ويباع مع سائر كتبه الواسعة الانتشار.

وإذا كان اندراوس (اندرو) غريب أفاد مادياً من ترجمته لأعمال عربية جبرانية. فهو قد كشف في مقابلة اجراها معه هنري زغيب في شيخوخته ان جبران “كان يساعد رفاقه في الرابطة القلمية ويدعمهم مادياً. كان لهم مظلة في نيويورك، وقد تفرقوا بعد وفاته كأنما انكشفت رؤوسهم، ففي سنة ١٩٧٤ قبل عودتي من لبنان الى ماساشوستس، زرت نعيمة في بسكنتا مودعاً، وسألته إن كان يفكر بالعودة الى اميركا ليحقق شهرته فيها كما حققها واسعة في الشرق فأجابني: هلق بعد يا اندرو؟ بأيام اللولو ما هللولو”.

بعد خمس سنوات من المقابلة توفي اندرو غريب عام ٢٠٠٠ ونعته صحيفة اميركية بالقول: كان اديباً معروفاً ومنجم ذهب وأشبه بدائرة معارف. كما نشرت الصحف في بيروت ان الجالية اللبنانية في الولايات المتحدة ” فقدت واحداً من أبرز الأدباء المهجريين، وآخر الأحياء القلائل من رعيل النهضة الأدبية في اميركا الشمالية الذين ساهموا في تعريف روائع جبران وأدباء “الرابطة القلمية” الى الاميركيين، هو اندرو غريب البالغ من العمر مئة سنة وسنة. توفي الأحد في ١٢ آذار ودفن يوم الجمعة في مدينة سبرنغفيليد في ولاية ماساشوستس”.

ومما يتضمن الكتاب الذي يعده ادمون غريب عن والده رسائل واهداءات من جبران ونعيمة وكتابات متفرقة تشهد تفاصيل من أعمال وايام المهجريين الأدباء في نيويورك، وحضورهم من وراء المحيط في الوطن الأم حيث يعاد نشر كتاباتهم في صحف ومجلات لبنان ومصر فتترك تأثيراً واضحاً في تحديث الأدب العربي وتجاوزه اسر التقليد والتكرار. وحين يصدر الكتاب سنكتشف انه يدخل في تاريخ الأدب العربي في المهجر الاميركي فهذه هي حدوده. ذلك ان التطورات المأساوية في المجتمعات العربية ونتاجاتها الثقافية وتبدل احوالها وامزجتها، لا تشجع على اندراج مثل هذا الكتاب في عمليات دفع الثقافة الى الأمام.

والحقيقة ان الأدب المهجري في نيويورك لم يكن ناتجاً عن الذاكرة الثقافية العربية وحدها بقدر ما كان ناتجاً عن تجربة العيش والتثاقف في البيئة الاميركية التعددية. وإذا كانت الولايات المتحدة هي نتاج اروح المهاجرين وتفاعلها فإن الروح العربية لدى المهاجرين، ومعظمهم من سورية ولبنان، هي روح مغايرة نوعاً ما لأرواح المقيمين في الوطن الأم. ولننظر تحديداً الى جبران الذي تعتبر أعماله بالعربية وبالانكليزية صادرة عن عيشه في اميركا وتأثره بالحقيقة والخيال الاميركيين، فهو مع بعض رفاقه في “الرابطة القلمية” اتجهوا الى نزعات صوفية تسعى الى المشترك بين الأديان، وكثيراً ما لجأ جبران في بدايات شبابه الى اختلاق طفولة متخيلة أمام اصدقائه الاميركيين كالقول ان عائلته هندية الأصل وتحمل عقائد الهند الروحية المعقدة. وحين نضج واشتهر ككاتب اميركي صار مرتبطاً ببيئته الجديدة وبقرائه الاميركيين الذين كانوا بالتأكيد أكثر عدداً وتفاعلاً من قراء أعماله العربية في الوطن الأم. واليوم اذ تتراجع الثقافة العربية، شعبياً على الأقل، الى التقاليد الدينية والمؤلفات الكلاسيكية المتكررة، يتم عملياً طرد جبران من ذاكرة الأجيال الجديدة، كما يتم دفعه الى أماكن ضيقة لم يرغب يوماً بالانتماء اليها وحدها، على رغم وطنيته اللبنانية والسورية التي لا شك فيها. فنرى جبران اليوم نجماً في الكنيسة المارونية التي سبق أن القت عليه الحرم، أو أن ذلك كان شائعاً حتى نهاية ستينات القرن الماضي. وقد زاملت في المرحلة الثانوية طالباً من بلدة بسكنتا كان يعتبر نفسه جبرانياً ويخاف من اعلان ذلك كي لا تحرمه الكنيسة هو أيضاً.

اندرو غريب يحضر ويستحضر جبران، وربما نرى مؤلف كتاب “النبي” يحضر مجدداً بعد حين. كان جبران متحركاً في حياته وهو كذلك يتحرك في مماته عبر ادبه الحي وشخصيته الآسرة.

العدد 129 / حزيران 2022