تركيا والعرب: علاقات الحذر

تطبيع مع السعودية والإمارات.. حذر في مصر وغضب عراقي تونسي

محمد قواص

ليس تفصيلا الانقلاب اللافت في سياسة تركيا الخارجية مع بعض الدول العربية وتطور مقاربتها مع دول أخرى. التحول يعبر عن حاجة أنقرة إلى القفز نحو استراتيجيات جديدة في تعاملها مع المستجدات الداهم. تلك الداخلية السياسية والاقتصادية. تلك الإقليمية المرتبطة بمسار ومصير دول مثل العراق وسوريا ولبنان وليبيا واليمن وما سيترتب على على مآلات ما ستنتجه مفاوضات فيينا مع إيران. وتلك الدولية التاريخية التي تتسرب بقوة مما سيتمخض من الصراع الراهن في أوكرانيا.

والنقلة التركية تأتي نتاج استنتاج فشل مناورات سياسية انتهجتها القيادة التركية في علاقاتها مع سوريا والعراق، وهي بلدان الحدود، لكن أيضا وخصوصا مع دول مثل مصر وليبيا وتونس ودول الخليج. وإذا ما عوّلت تركيا على

هل تعود الثقة بين أنقرة والرياض

تحولات “الربيع العربي” للإطلالة بروحية وصفت بالعثمانية الجديدة، فإن أنقرة تقر بفشلها وخطأ رهاناتها وهي تسعى لإصلاح الأضرار وتصويب السياسات وترميم ما تصدع في علاقاتها مع العالم العربي.

الانقلاب على “صفر مشاكل”

أطل حزب العدالة والتنمية في تركيا بزعامة الرئيس رجب طيب أردوغان على الحكم في تركيا عام 2002 مبشّرا بـ “تصفير المشاكل” استراتيجية لإعادة وصل البلد مع العالم عامة ومع دول الجوار خاصة. غير أن ذلك النهج قد سقط، لا سيما بعد انفجار ما سُميّ “ربيعا عربيا”، لتباشر أنقرة سياسة معاكسة قادت إلى تصادم أجنداتها مع العالمين البعيد والقريب.

توترت علاقات تركيا الأطلسية مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، وساءت علاقات أنقرة مع معظم البلدان العربية، وللمفارقة، على اختلاف توجهاتها. عوّلت تركيا كثيراً على جماعات الإسلام السياسي لتغذية سياسات تحضّر تركيا لنشر نفوذ واسع داخل دول المنطقة. لم تكن الخيارات التركية عرضية ظرفية، بل قامت على زادّ عقائدي وعلى أوهام قوة تنهل من حالة الفوضى التي داهمت دولا عديدة في المنطقة.

وما  طرأ أخيرا من تحولات على السياسة الخارجية التركية يكشف عن اقتناع أنقرة بعقم خياراتها الطموحة واستنتاجها قدرة دول المنطقة على صيانة قواها وردع العبث بأمنها واستقرارها ومنع المراهنة على قلب مسارها ومصيرها. بمعنى آخر، فإن العودة التركية إلى نهج “صفر مشاكل” لم يأت بناء على تحوّل أيديولوجي ذاتي، بل على تأمل دقيق لحسابات الربح والخسائر منذ عام 2011 وحتى الآن.

التخلي عن العقائد

الثابت أن السياسة الخارجية التركية تخلت عن المقاربة العقائدية في تناول علاقة البلاد مع الخارج وخصوصا مع الدول العربية. والثابت أيضا أن نهج “صفر مشاكل” الذي اعتمدته أنقرة في بداية حكم حزب العدالة كان في الأساس يقوم على الواقعية وعلم المصالح والاعتراف بالتوازنات الإقليمي وتحريم المغامرة بالعبث بها. والثابت أيضا وأيضا أن العودة إلى ثنائية الواقعية-المصالح تقوم هذه الأيام على حاجة استراتيجية لتركيا من الواضح أنه بات لا بد منها لانتشال البلد من أزماته.

وعلى الرغم مما حققه هذا التحول في تركيا من تطبيع لعلاقات أنقرة مع دول المنطقة، وخصوصا مع السعودية والإمارات مؤخراً، غير أن أسئلة مشروعة تدور حول ما إذا كانت الخيارات التركية الجديدة ظرفية تمليها “الحاجة”، أم أنها استراتيجية نهائية لن تسقط بزوال تلك “الحاجة”. بمعنى أوضح، هل “الثوابت” الجديدة هي أصل أم أنها عرضة لاجتهادات قد تقلبها إلى فرع إذا ما تغيرت الظروف التركية الداخلية (الاقتصادية والسياسية المتعلقة

الإمارات وتركيا أغلقا ملف الخلاف

بانتخابات العام المقبل) وإذا ما عوّمت التحولات التي ستنتج عن حرب أوكرانيا موقع تركيا في الخرائط الدولية؟

لا يهمّ. السياسة بطبيعتها قيمة متحولة متقلبة تخضع لحسابات وقراءات متغيرة. والواضح أن دول المنطقة أظهرت تمتعها بقوى خشنة لردّ الصعاب ومواجهة التحديات والتأقلم مع التحولات الكبرى إلى درجة استباقها، وأن هذه الدول قادرة على استخدام القوى الناعمة لفتح صفحات جديدة وتطبيع العلاقات مع خصوم الأمس طالما أن ذلك سبيلا آخر لتدعيم المنافع وتقوية المصالح وترميم أي تصدعات تسبب بها سوء قراءة وتقدير أو طموحات واهمة.

ضريبة الجغرافيا

تطبيع العلاقات التركية السعودية احتاج إلى كثير من الجهد المتبادل الدؤوب لـ “تصفير” الملفات الساخنة التي سممت علاقات البلدين في السنوات الأخيرة. سبق هذا التطور مرحلة تطبيع للعلاقات جرت بين الإمارات وتركيا أسست لمداخل جديدة في مقاربة أنقرة لعلاقاتها مع المنطقة الخليجية. ويتحقق أمر فتح صفحة خليجية جديدة مع تركيا بموازاة ورشة تطبيع أخرى جارية بدأب وتأن لإنهاء حقبة التوتر بين تركيا ومصر.

والحال أن دول الخليج ومصر وتركيا تحكمها ضريبة الجغرافيا والتاريخ. صحيح أن هذا الواقع هو حافز مواجهة وتنافس وصدام كما يخبرنا تاريخ العلاقة مع تركيا منذ أن كانت عثمانية، إلا أن هذا القدر في الجغرافيا والتاريخ يدفع دول المنطقة جميعا لتحري توازنات مشتركة تحصّن كل المنطقة من “تسونامي” من التحولات الكبرى التي تذهب إلى الوعد ربما بولادة نظام دولي جديد، على الأقل وفق ما ينفخ به الخطاب الروسي في تفسير الحرب في أوكرانيا.

وإذا ما تنظر مصر والسعودية والإمارات وتركيا (وباكستان وهذا يستحق معالجة مستقلة بعد التغيير الأخير في رأس السلطة) بعين الريبة إلى السياسات الأميركية مع وفي المنطقة، فإن صراع واشنطن وموسكو وبكين، بالمناسبة الأوكرانية، يجري أيضا، بأشكال وواجهات متعددة، داخل الشرق الأوسط والبحر المتوسط. وعلى هذا فإن لدول المنطقة مصلحة مشتركة لاستيعاب مآلات صراع القوى الكبرى وعدم السماح لارتداداته أن تُشعل حربا باردة إقليمية تشتغل لمصلحة حرب باردة عالمية.

وفي موسم “التصفير” قد يجوز تأمل مدى نضج إيران في استيعاب هذه الحاجة-الظاهرة وهي التي باتت يومياتها ترتبط بمآلات المفاوضات في فيينا. صحيح أن رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي يبشّر بالاتفاق القريب بين

تونس تستنكر تدخل تركيا في شؤونها

طهران والرياض، غير أن الثقة تبقى قليلة في قدرة إيران على تخليص سياساتها الخارجية مع المنطقة من لبوسها العقائدي باتجاه ما توصلت إليه أنقرة، ولو بعد حين، من سياسات على أساس ثنائية الواقعية لا الأوهام والمصالح لا العقائد.

اشارات متناقضة

قد يكون مفهوماً أن لا ثوابتَ  في السياسة وأن المصالحَ وحدها تقودُ علاقاتِ الدول. غير أن تركيا في علاقاتها مع العرب انتهجت سياسات شديدةِ التحول منذ أن أطلقَ حزبُ العدالة والتمنية شعار صفر مشاكل لتنقلبَ أنقرة على هذا الشعار وتتوترُ علاقاتهُا مع الخليج ومصر وتونس والعراق وسوريا وغيرها، ما أشاع توجساً عربيا في مشرق المنطقة ومغربِها من أجنداتٍ تركيةٍ المتقلبة.

أنقرة تفتحُ صفحةً جديدة هذه الأيام. تحسّنُ علاقاتِها مع السعودية والإمارات. وهي في مرحلة محادثاتٍ مع مصر لتطبيعِ علاقات البلدين. في الوقت عينه تَصدرُ عن أنقرة مواقفَ تعتبرهُا تونس تدخلا غير مقبول في شؤونها، ويشوبُ سلوكها في ليبيا شبهةَ ارباكٍ للعملية السياسية هناك. فيما تطلق القواتُ التركية عمليات عسكرية في شمال العراق، ناهيك من تخبط أدائها العسكري والسياسي في شمال شرق سوريا.

انقلبت السياسةُ الخارجية لتركيا مع العالم رأساً على عقب خلال العقدين الأخيرين. ابتعدت

أنقرة عن واشنطن والاتحاد الأوروبي. أخذت مسافةً من تاريخها الأطلسي. اقتربت من روسيا،. وبدا أنها ذاهبةٌ شرقا في خياراتها الاستراتيجية. أهملت تركيا خيارَ “صفر مشاكل” مع دول الشرق الأوسط. اصطدمت بإسرائيل قبل أن تتدهور علاقاتها مع دول الجوار العربي، لا سيما مع مصر وبعض دول الخليج.

عوّلت تركيا كثيراً على الإسلام السياسي لتدعيم نفوذها في العالم العربي. وحين فشل رهانُها وتراجعَ اقتصادُها وانقلبت التوازناتُ الدولية، عادت أنقرة لسياسةِ تصفيرِ المشاكل وضبطِ التوازن في علاقاتها مع العالم. حسّنت أنقرة علاقاتها مع إسرائيل بشكل لافت. انتهت حالةُ التوترِ بين تركيا من جهة والسعودية والإمارات من جهة أخرى، فيما تتكثفُ الجهود لإقفالِ ملف الخصومةِ مع مصر وتطبيعِ علاقات أنقرة والقاهرة.

ومع ذلك فإن لتركيا سياساتً مازالت مثيرةً للجدل في سوريا والعراق، وما زال لأنقرة أجندات مثيرةً للقلق على ما يمكنُ أن يُستنتج من مواقفِها الأخيرة بشأن التحولات في تونس.

لا يمكن إلا الاعتراف بحجم التحولات التي تفتحُ تركيا عبرها صفحةً جديدة مع العالم العربي. يبقى السؤالُ مشروعاً عن جدية هذه التحولات وثباتِها وعدم التخلي عنها إذا ما طرأت ظروفٌ داخلية وخارجية جديدة.

تركيا هي من تغير

لا شيء تغير في السياسة الخارجية لمصر والسعودية والإمارات يبرر اندفاعة تركيا المعلنة لفتح صفحة جديدة مع الدول الثلاث. ولا شيء في سلوك تركيا خلال السنوات الأخيرة يحفز العواصم العربية الثلاث للثقة باستفاقة أنقرة على ضرورات التوافق والصلح معها. وإذا ما كان من تغير ما قد حصل فعلا، فهو لدى الجانب التركي، بحيث يدفع الرئيس رجب طيب أردوغان ووزير الخارجية مولود جاويش أوغلو ووزير الدفاع خلوصي آكار إلى إعلان اكتشاف خصال البلدان الثلاث.

وفق عقيدة المصالح عمل حزب العدالة والتنمية عند دخوله أبواب السلطة عام 2002 إلى تأسيس علاقات تركيا مع العالم القريب والبعيد على قاعدة “صفر مشاكل”. ورد هذا المفهوم في كتاب أحمد داود أوغلو، “العمق الاستراتيجي: موقع تركيا ودورها في الساحة الدولية”، الصادر عام 2001. بدا أن إطلالة الإسلام السياسي التركي الجديد (الوريث للنسخة التي كان يمثلها نجم الدين أربكان) على المنطقة والعالم، تحتاج إلى مرونة في التعامل مع أرمينيا وأوروبا ومنظومات الشرق والغرب، وإلى تطوير لعلاقات البلد مع المحيط العربي، لا سيما مع البلدان الحدودية المباشرة.

بيد أن عقيدة المصالح نفسها أسقطت النظرية الصفرية وأبعدت صاحبها عن الحزب والحكم والرئيس. سقطت نظرية داود أوغلو دون أن يسقط كتابه. ما زال أردوغان ما يؤمن بـ “العمق الاستراتيجي” لتركيا، لكنه لم يعد يجد في “الصفر” الشهير وسيلة فعالة للسيطرة عليه.

الإسلام السياسي

ساعدت الولايات المتحدة وبعض المنظومة الغربية أردوغان في إسقاط “صفره”. صدر عن واشنطن وبعض العواصم الأوروبية بعد اندلاع “الربيع العربي” ما يبشّر بحكم إسلامي وفق النموذج التركي. رعت إدارة باراك أوباما تشجيع التيارات الإخوانية في المنطقة لتكون بديلا عن الأنظمة المترنحة. ذهب أردوغان إلى مصر يبشر بالعلمانية التي تطرب لها آذان العواصم الكبرى، فيما بدت رعايته هجومية عدائية لصالح التيارات الدينية في مصر وتونس واليمن وليبيا وسوريا.

تعامل أردوغان مع المنطقة العربية بصفتها حق تركي ينهل مشروعيته من التاريخ العثماني القديم. ظهر أن “العمق الاستراتيجي” لتركيا يستحق من أنقرة تمارين تجريبية تصادق وتعادي نظام دمشق، مثلاً، وفق موقع “الصفر” وغيابه في خريطة المصالح. شنّ أردوغان حملة ضد بغداد في عهد نوري المالكي وتراجع عنها، واقترب من طهران وفق إيقاعات ارتجالية ماكيافيلية يعوزها منطق الدول الكبيرة. خاضت تركيا في عهده معارك عسكرية مباشرة في العراق وسوريا وليبيا، ومعارك دبلوماسية شرسة ضد السعودية والإمارات ومصر. وبدا في كل تلك المعارك استخفاف بقواعد منطقة خرجت نهائيا من تحت العباءة العثمانية منذ أكثر من قرن.

أوهام

سعى الرئيس التركي إلى تعزيز حكمه في الداخل. أفشل محاولة انقلابية عام 2016 ما زال يجابهها حتى اليوم، ومرر تعديلات دستورية عام 2017 تعزز من صلاحيات منصبه على رأس الدولة. عمل على التحاذق بين روسيا والولايات المتحدة مستغلا ضبابية موقف دونالد ترامب وغموض استراتيجيات واشنطن. صعّد تمارينه العدائية ضد الاتحاد الأوروبي، لا سيما فرنسا واليونان وقبرص، وراح في شرق المتوسط يمارس إبحارا مضادا لتعطيل خطوط ما يرسم لسوق الطاقة في تلك المنطقة.

بيد أن تركيا تستفيق على نتائج قاتمة لامتحاناتها.  خسرت أنقرة معاركها مع الجميع. بات “حكم الإخوان” للمنطقة وهماً مندثرا وحصانا سقط الرهان عليه. خسر أردوغان صولاته وجولاته في مياه المتوسط وبات مستعداً لفتح صفحة جديدة مع أوروبا والتفاوض مع اليونان وقبرص. خسر حليفه حسن البشير في السودان، وخسر رهانه على حكم ليبيا وباتت ضغوط الاقتصاد في الداخل موجعة تدفع بسؤال الأتراك في الداخل عما تفعله تركيا في الخارج.

فقد أردوغان تلك الرمادية الخلاقة في واشنطن. ما زال العلاقة مع  مع الرئيس الأميركي جو بايدن غامضة. والمسألة لا تتعلق فقط بعداء الرئيس الديمقراطي الجديد، بل بمزاج أميركي عام لم يستسغ مناورات أردوغان وبهلوانية مواقفه داخل معسكر الحلفاء والتي قد لا تختلف في خبثها عن مواقف إيران وهي في معسكر الخصوم. قرأ أردوغان التحولات القريبة والبعيدة جيداً، وأسقط من حساباته إمكانية التعويل على تحولات لاحقة، فكان لا بد من الالتفاف في كافة ميادين المصالح التركية بما في ذلك مستقبل العلاقة مع العرب.

موقف العرب

لا يمكن لعلاقات سليمة بين الدول أن تقتصر على التبادلات الاقتصادية فتلك سمة نفعية لا تؤسس لتماس سليم. ولا يمكن أن يكون التواصل المخابراتي سبيلا ناضجاً لتعزيز شبكات المصالح بين العواصم. كما أنه لا يمكن للتصريحات الودودة أن تطوي صفحة سوداء وتفتح صفحة جديدة بيضاء. ولا يمكن لعلاقات تركيا مع العالم، خصوصا مع العالم العربي، أن تقودها مزاجيات تحدد موقع “الصفر” وغيابه في اكتشاف أو إغفال “تاريخية” العلاقة مع مصر والسعودية والإمارات.

سعت تركيا في رعايتها ودعمها للإسلام السياسي إلى تقويض أنظمة الحكم في المنطقة. عملت أنقرة بالدعم والتمويل والتسليح على مدّ هذه الجماعات بوسائل مهددة لأمن هذه الدول واستقرارها ومصالحها. تستضيف تركيا شخصيات ومؤسسات تستخدم منابر لشن هجمات ضد الدول الثلاث، ناهيك من أن الموقف الرسمي التركي لطالما كان متقدما على تلك المنابر في العداء لتلك الدول، على النحو الذي لا يساعد على قلب الصفحة بين ليلة وضحاها.

لم تعتدِ مصر على مصالح تركيا في ورشتها لترسيم الحدود البحرية مع قبرص واليونان، ذلك أن لا عقائد لمصر ضد تركيا ولا خطط للتدخل في شؤون هذا البلد والنيل من نظامه. عملت السعودية والإمارات على انتهاج خيارات دفاعية حين قررت أنقرة الانخراط في شؤون الخليج وإرسال قوات عسكرية إلى داخل البيت الخليجي أثناء الأزمة مع قطر.

لن ترد الدول الثلاث، وإن أبدت حذرا مشروعا، طلب الودّ الذي ترسله تركيا هذه الأيام. بيد أنه من الصعب الثقة بمناورة أنقرة الجديدة، ذلك أن مقاربتها لهذه الدول لا تتأسس على المصالح بالمعنى الذي تفهمه القاهرة والرياض وأبو ظبي، بل على موقع هذه الدول في الخريطة العقائدية لأردوغان وحزبه. فإذا ما كانت تلك العواصم تريد موقفا تركياً حاسما واضحا من جماعات تعتبرها إرهابية، فإن شرعية الحكم الراهن في تركيا تستند على عقيدة هذه الجماعات وليس على نقيضها.

من الصعب على الدول المعنية بالعلاقة مع تركيا أن لا تتعامل بإيجابية مع الواجهات الودودة التي تطلقها أنقرة باتجاه الدوائر المحيطة، سواء مع أوروبا أو العالم العربي. والثابت أن ظروفا ضاغطة محلية وإقليمية ودولية أملت على أنقرة سلوك خيارات جديدة، قد تكون تكتيكية، يراد منها تحسين علاقة البلد بدول الجوار، لكن بالإمكان أن تنضج وتتطور لتصبح استراتيجية نهائية.

العودة إلى “التصفير”

والحال أن أنقرة ذهبت في السنوات الأخيرة بعيدا في سياسات اعتبرتها دول الاتحاد الأوروبي كما المنطقة العربية عدائية لا تتسق مع النسق الذي أرادته تركيا مع العالم إثر وصول حزب العدالة والتنمية إلى سدة الحكم. والواضح أن العالم قد استنتج تبدلا في الاستراتيجيات الأولى التي اعتمدت على نظرية “تصفير المشاكل” مع دول الجوار التي نظّر لها رئيس الوزراء ووزير الخارجية الأسبق أحمد داود أوغلو في السنوات الأولى لإطلالة حزب العدالة والتنمية وزعيمه على الحكم في تركيا. وفيما تسعى تركيا هذه الأيام إلى العودة عن سياسات أقلقت دول الجوار وأحدثت صداما مع كل الدائرة الأوروبية، فإنه مع ذلك يصعب الحديث عن عودة إلى “التصفير” الشهير، وهو أمر لا تدّعيه أنقرة. والأرجح أن تركيا تعيد التموضع داخل كافة الملفات متكئة على واقعية تستنج من حقائقها سبل المتاح والممكن ووقائع المحرم والمستحيل.

وفيما تتأمل دول الجوار الانعطافة التي تروِّج لها أنقرة حول سلوك معابر الحوار وسبل التهدئة، فإنه يسهل على المراقب استنتاج أن تلك التحولات ليست بالضرورة نتاج مراجعة حقيقية تطال الأساس الإيديولوجي الذي يقوم عليه النظام السياسي في تركيا الحالية، بل تأتي على قاعدة تراجع عن سلسلة من ملفات جرى التعويل عليها، سواء في رعاية الإسلام السياسي والتلميح بها بديلا حصريا عن النظام السياسي العربي، أو في ارتباك في المناورة واللعب بين انتماء البلد الأطلسي من جهة والوعد بعلاقات واعدة وربما بديلة مع روسيا والصين والخيار الشرقي من جهة أخرى.

سلوك غير أطلسي

أظهرت دول الاتحاد الأوروبي تضامنا صلبا ضد السياسة التركية في حوض شرق المتوسط، وراح بعضها (لا سيما فرنسا) إلى تقديم الدعم العسكري الرادع إلى اليونان وقبرص. لا بل أن تشكّل تحالف بين الدولتين الأخيرتين مع مصر (ودول أخرى) في صيانة وتدبير سوق الطاقة في المنطقة، قاد إلى شلل المقاربة التركية وعجزها عن تقديم وجبات قانونية سياسية عسكرية، مقنعة على نحو حشر الاداء التركي بسياسة سفينة التنقيب ذات الطابع التحرشي وليس الاستراتيجي الوازن.

والحال أن تركيا فقدت توازنا في أبجديات السياسة الدولية حين ساءت علاقاتها مع حليف استراتيجي كالولايات المتحدة، وذهبت بعيدا في شرائها لمنظومة صواريخ S-400 الروسية المناقضة تماما، في المبدأ، لروحية الحلف الأطلسي العقائدية، وفي الأمن، لمنطق الانتماء لهذا الحلف من حيث اتساق وتناغم منظومات السلاح والأمن. بالمقابل، لا تَعِدُ علاقة أنقرة مع موسكو ببديل يمكن التعويل عليه، ولا بأي مصداقية يمكنها إخافة الأطلسيين، ناهيك من أن روسيا لا ترى في التقرّب التركي منها إلا تدللا يراد منه ابتكار مقاربة أخرى مع واشنطن والحلف الغربي وتحسين شراكة أنقرة معهما. وبغض النظر عن رفض أنقرة لتقيم موسكو لطبيعة التحالف الذي أقامته تركيا مع روسيا، فإنها تستنتج عمق تناقض مصالح البلدين والتي تصل أحيانا إلى شفير الصدام العسكري في سوريا.

وعلى الرغم من قيام أنقرة بخطوات لافتة عمدت إلى إسكات المنابر المعادية التي كانت تنطلق من الأراضي التركيا ضد مصر، وعلى الرغم من حملة علاقات ودودة قامت بها الدبلوماسية التركية تجاه دول الخليج، إلا أن الأداء ما زال في مراحل شكلية أولى قد لا تقنع الدول المعنية بنهائية هذا التحول. صحيح أن أطر الحوار بين تركيا ودول الخليج تتطور باضطراد، غير أن موقف أنقرة في ليبيا، كما رمادية موقفها في سوريا والعراق وماكيافيلية علاقاتها مع إيران، يدفع إلى طرح أسئلة حول المدى الذي يمكن أن تذهب إليه تركيا في تطبيع علاقاتها مع المنطقة وتدبير ملفات خلاف ساخنة مع دولها.

الاقتصاد .. الاقتصاد

لا ريب أن الأزمة الاقتصادية والمالية التي تعاني منها تركيا، في بعدها الذاتي وذلك المتأثر بالجائحة، تفرض تحديات داهمة وتضعف من إمكانات أنقرة على تأمين الوفورات السابقة لتمويل سياسات سابقة اعتبرتها دول المنطقة سلبية، خصوصا لجهة اعتماد الإسلاموية منهجاً للتعامل مع المنطقة. يضاف إلى ذلك الواقع المتدهور الذي وصلت إليه التيارات والجماعات التابعة للإسلام السياسي، ما يدفع أنقرة هذه الأيام إلى إظهار أخذ مسافة من هذا المشروع الإيديولجي الذي عوّلت تركيا عليه كثيرا وجعلته مدخلها الوحيد إلى العالم العربي. ومع ذلك فإنه يسهل على المراقب استنتاج أن الأمر لا يعدو كونه إسدال ستار -قد يكون مؤقتا- على هذا  المشروع، وليس قطيعة نهائية معه، على نحو قد يبقيه مادة خلاف مقلقة ما زالت حاضرة على طاولات الحوار.

وقد يكون منطقيا أن تحتاج تركيا إلى مزيد من الوقت لتظهير تحوّلاتها، لا سيما أن بعضها يقفز من النقيض إلى النقيض. فإذا ما كانت أنقرة تخضع للواقعية السياسية وشروطها الموجعة، فإن دول الجوار معنية بقراءة هذه التحوّلات وتفحّص جديتها ونجاعتها والدفع بما يمكن لأنقرة أن تتشجع وتجعلها استراتيجية نهائية.

ولئن تترواح سياسة أنقرة في البحر المتوسط هذه الأيام بين ضفة التصريحات النارية (المفهومة في مقاصدها الداخلية) ونصوص دبلوماسية الحوار (التي يستسيغها الأوروبيون)، فإن موقف أنقرة من المسألة الليبية ما زال يشكل عثرة يجب إزالتها لتسييل السياسة الخارجية الجديدة التي تسعى تركيا للدفع بها. ذلك أن ليبيا هي مسألة أمن استراتيجي بالنسبة إلى مصر، لكنها بالمقابل مقياس الواقعية والموضوعية واحترام المصالح الذي تراه دول الخليج أساسا حتميا لبناء علاقات سوية ومتوازنة دائمة متخلّصة من عيوبها التجريبية.

والحال أن ضريبة الجغرافيا والتاريخ تجعل من تركيا واقعا جيوستراتيجي وجب العمل على تعزيز التعامل معه. تجد دول المنطقة في التحولات التركية فرصة حقيقية لدعم مصالح مشتركة في السياسة والاقتصاد والأمن. وفي موسم ما يروج عن صراع أمم كبرى يأخذ ذلك الأميركي الصيني واجهته الأساسية، فإن لتركيا مصلحة حقيقية في أن تجد في المنطقة الأمان والاستقرار الذي قد تفتقده في عالم تتشكل داخله منظومة دولية مجهولة المستقبل.

ما  طرأ أخيرا من تحولات على السياسة الخارجية التركية يكشف عن اقتناع أنقرة بعقم خياراتها الطموحة واستنتاجها قدرة دول المنطقة على صيانة قواها وردع العبث بأمنها واستقرارها ومنع المراهنة على قلب مسارها ومصيرها. بمعنى آخر، فإن العودة التركية إلى نهج “صفر مشاكل” لم يأت بناء على تحوّل أيديولوجي ذاتي، بل على تأمل دقيق لحسابات الربح والخسائر منذ عام 2011 وحتى الآن.

على الرغم مما حققه هذا التحول في تركيا من تطبيع لعلاقات أنقرة مع دول المنطقة، وخصوصا مع السعودية والإمارات مؤخراً، غير أن أسئلة مشروعة تدور حول ما إذا كانت الخيارات التركية الجديدة ظرفية تمليها “الحاجة”، أم أنها استراتيجية نهائية لن تسقط بزوال تلك “الحاجة”. بمعنى أوضح، هل “الثوابت” الجديدة هي أصل أم أنها عرضة لاجتهادات قد تقلبها إلى فرع إذا ما تغيرت الظروف التركية الداخلية (الاقتصادية والسياسية المتعلقة بانتخابات العام المقبل) وإذا ما عوّمت التحولات التي ستنتج عن حرب أوكرانيا موقع تركيا في الخرائط الدولية؟

والحال أن دول الخليج ومصر وتركيا تحكمها ضريبة الجغرافيا والتاريخ. صحيح أن هذا الواقع هو حافز مواجهة وتنافس وصدام كما يخبرنا تاريخ العلاقة مع تركيا منذ أن كانت عثمانية، إلا أن هذا القدر في الجغرافيا والتاريخ يدفع دول المنطقة جميعا لتحري توازنات مشتركة تحصّن كل المنطقة من “تسونامي” من التحولات الكبرى التي تذهب إلى الوعد ربما بولادة نظام دولي جديد، على الأقل وفق ما ينفخ به الخطاب الروسي في تفسير الحرب في أوكرانيا.

أنقرة تفتحُ صفحةً جديدة هذه الأيام. تحسّنُ علاقاتِها مع السعودية والإمارات. وهي في مرحلة محادثاتٍ مع مصر لتطبيعِ علاقات البلدين. في الوقت عينه تَصدرُ عن أنقرة مواقفَ تعتبرهُا تونس تدخلا غير مقبول في شؤونها، ويشوبُ سلوكها في ليبيا شبهةَ ارباكٍ للعملية السياسية هناك. فيما تطلق القواتُ التركية عمليات عسكرية في شمال العراق، ناهيك من تخبط أدائها العسكري والسياسي في شمال شرق سوريا.

العدد 129 / حزيران 2022