من دفتر الجمهورية اليابسة

الدكتور نسيم الخوري

كان القرار مرّاً و”انتحاريّاً” لكنّه اتّخذ، بالعودة النهائية من باريس إلى بيروت.

متى؟ في ال 1984 عام الخرائب وبعد الهجرة القاسية في ال  1972 الى باريس للدراسات العليا والعمل.

أدرت ظهري للبنان تاركاً والدتي الأرملة وأخي الصغير دمعتين لم تعرفا الجفاف معلّقتين تنتظران أوهام العودة فوق شبابيك بيتنا المهترئة في نائي الجنوب اللبناني. لا هواتف ولا بريد ولا مال ولا لا لا شيء من بعيد. قبل عام التهب المناخ بتداعيات قصف مخيمات الفلسطينيين بالطيران، بناءً لأوامر قريبة أو بعيدة حيث كان الجنوب ساحاتٍ فالتةً لكلّ وافدٍ للنضال نحو الأرض السائبة بصفتها طبق الفطوراليومي للقصف الإسرائيلي. كان بيادر الحصاد في ال 1972 فرنسا للشباب والطلاّب الحالمون مثلي بالتغيير والتطوير في لبنان والعديد من بلاد المحيط والعالم.

لماذا؟

لأنّ العيون والأعناق العالمية كانت وما زالت تتطلّع ربّما بإعجاب وتقدير الى نجاح ثورة جامعة السربون الفرنسية 1968 على كتف الحي اللاتيني يحتضن أساتذة وطلاباً ومفكرين من جان بول سارتر أب الفلسفة الوجودية إلى صديقته سيمون دو بوفوار والمقهى المعروف ب”الديماغو” الذي كان يعجّ بإعلاميي العالم لطبع بيانات الثورة وتوزيعها في الأرجاء الفرنسية وفي العالم. جاءت النتيجة لمصلحة التغيير بعدما تنحى الجنرال شارل ديغول عن رئاسة الجمهورية الفرنسية لكن جامعة السربون تمّ تفرّيعها في أحياء باريس المتباعدة ووفقاً للإختصاصات لأنّ العقول الفرنسي القديمة لم تهضم تلك الثورة التي شرّعت الدنيا لإعلان التعلّم والتعليم الجامعيين والمعرفة شؤون عامة للطبقات تتجاوز القداسة، وبأنّ لا تغيير وتطوير أو تقدّم بشري خارج عبور الأجيال كلّها نحو أحرام الجامعات التي تبني الأجيال والأوطان والمستقبل دون أدنى تمييز.

وصودف أيضاً أنّ نشبت الحروب الأهليّة في لبنان العام 1975 فكانت وما زالت عصيةً في العثور على هويّتها وامتدّت حتّى 1989 بعد وصولنا إلى بيروت بكثير، حيث اجتاحت “اسرائيل” جنوبي لبنان في ال1978،أعقبه أيضاً الإجتياح الإسرائيلي في 6 حزيران 1982 حتى بيروت وصولاً إلى قصر بعبدا ثمّ خروجه من العاصمة مذعوراً وانسحابه من لبنان تحت ضربات المقاومة  الوطنيّة في ال2000 وبعد صدور القرار 520 عن مجلس الأمن في 7 أيلول أدان فيه الإجتياح مطالباً “إسرائيل” بالإنسحاب.

عدنا إلى بلدٍ وعاصمة مزهوّة بمقاومتها لكنها مدمّرة عسكريّاً ونفسيا ومنقسمة طائفياً كصخرةٍ رسوبية. رحت أبحث عن جامعةٍ تأويني دكتوراً يبحث عن عمل أكاديمي ، وبرفقتي بالطبع زوجتي الأستاذة الجامعية وطفلتي ابنة الشهرين أحملها في سلّة قش وأصعد بها الأدراج وأجوب الشوارع الحافلة بالمسلحين بين البيروتين الشرقية والغربية آنذاك بحثاً عن غرفةٍ للإيجار أو فندق يأوينا مؤقّتاً.

كانت تعني تلك العودة لي التخلّي الكامل عن كلّ شيء حتى عن العلاقات والحياة التي أقمتها بباريس بسبب انخراطي في الصحافة المهاجرة في مجلّة “المستقبل” أوّلاً ومن ثمّ مديراً لمركز الأبحاث المعروف بمنشورات العالم العربي EMA، وكلّها بدت أحلام ضائعة لأنّ الجامعة اللبنانية الوطنية التي كانت تجمع طلاب وطالبات لبنان بطوائفهم ومللهم ومناطقهم عجينة للمستقبل الزاهر، تمّ تفريعها خلال الحروب إلى كليات ومعاهد مشتتة فقيرة في الأرجاء اللبنانية جعل أجيال لبنان فئات متباعدة وبرز الكلام قوياً في التقسيم والفدرالية وغيرها من الأفكار التي جعلتني أنشر يومها كتباً بعنوان: “مذكرات وطن مستورد” أورثني ما أوجزه ب ” سفر الألم الأبدي الذي جعل لبنان عارياً”.

لا بدّ من جسّ الأبواب الموصدة أمام العودة الرهيبة التي لا أتمناها لأحدٍ اليوم ممّن فرّوا ويفرّون من طالباتي وطلاّبي الجامعيين في وعر الأرض البشرية أو في عرض القوارب بحراً.عُرض عليّ التعليم في كليّة الإعلام والتوثيق، فرع الفنار في المنطقة الشرقية متعاقداً بالساعة في مادتي الترجمة والتعريب سنة أولى جامعية وعلى ضحالة العرض فإنني لم أحظ به لولا تدخّل أخي البكر المحلل الصحافي راجح خوري حفظه الله . كان يعني هذا هبوط السلم المعيشي في بلدٍ تلتهمه الكوارث المالية والإقتصادية والنقدية والسكنيّة والكهربائية والتلاعب بالدولار والعملة الوطنية تماماً كما يحصل اليوم. ورحت خلال العام 1983 أوزّع مهامي متنقلاً بين باريس والبيروتين الشرقية للتعليم والغربية للسكن وبينهما خطوط تماس يُقيم فيها مسلّحو الأحزاب الطائفية. كان الهمّ منصبّاً في سجني الوطني لاكتساب مرونة معيّنة ومقدرة على هضم المتغيرات، في الوقت الذي عادت فيه زوجتي الي باريس، بانتظار بالجنسيّة الفرنسيّة لبكرتنا التي لم تصل، وكما يحلم ملايين اللبنانيين اليوم بجنسيات أخرى غير هويتهم اللبنانية. الأنكى من هذا كلّه، أن ما تمّ توفيره من عملي في الغربة الفرنسية، أودعته في مصرف لبناني عربي مذيّلاً تفويضاً لمديره للإهتمام بحسابي، لكنّ النتيجة كانت أن مدير المصرف ألتهم حصاد عمري، ولم يبق بين يدي سوى تأمين الرغيف والسجائر والحليب لطفلتي وبعض الحاجيات البسيطة كما يحصل اليوم بالتمام والكمال في دفتر الجمهورية اليابسة.

أعترف أخيراً ، بأنني شعرت منذ الساعات الأولى لمباشرة تعليمي في الكليّة ، أن رفضاً لوجودي هناك مذهبي مقيت ومخيف يقيم في الملامح والقسمات وطريقة التعامل معي من قبل عدد من الزملاء والإداريين والطالبات والطلاب الذين شغلوا بعدها المناصب الإعلاميّة المرموقة وأصبحوا وزراء ونواب لم تقفز بمعظمهم الأحداث والأيام فوق كلّ هذه تلك الأمراض التربوية التي تشبّثت بأجيال لبنان .

كانت المصيبة كوني مسيحي أقطن بيروت الغربية وأعبر صباحاً نحو المناطق الشرقية إذن أنا عميل أو مستقل لا ثالث لهما وما يحصل أمر طبيعي. نصحني أحد العمداء حفاظاً على سلامتي بل على حياتي، بإزالة النقطة من فوق حرف الخاء عن بطاقة هويتي برأس شفرة واعتبرها ذبابة حطّت فوق شهرتك لا أكثر فيصبح اسمك نسيم الحوري، واستحصل على بطاقةٍ أخرى إحفظ فيها النقطة فوق الخاء لتبقى نسيم الخوري الأصلي.

العدد 129 / حزيران 2022