أيام في تونس

رؤوف قبيسي:

أكتب من تونس وقد جئتها لحضور ندوة تكريمية عقدت في 23 و24 أيار (مايو) الماضيين، في المجمع التونسي للعلوم والآداب والفنون “بيت الحكمة”، عن المفكر التونسي عبد المجيد الشرفي. تضمنت الندوة شهادات غنية تناولت فكر الشرفي وتراثه، ودوره في حركة التنوير المعاصرة في الفكر الإسلامي، وأثر مؤلفاته في هذه الحركة. شارك في الندوة 18 باحثا ومفكرا وأديبا، واشتملت على شريط وثائقي حول سيرة الرجل الذي ولد في مدينة صفاقس التونسية في العالم 1942، ووضع كتبا أثارت الكثير من الجدل، أهمها “لبنات” و”الإسلام بين الرسالة والتاريخ” و “تجديد الفكر الإسلامي”.

كان الشرفي واحداً بين مجموعة مفكرين عاهدت نفسها على تحديث العقل العربي، وتحريره من أسر التقليد الديني والقبلي، إلى رحاب الحرية العقلية، وكان منها أيضا، محمد أركون، ومحمد عبد المطلب الهوني، ونصر حامد أبو زيد، وصادق جلال العظم، ومحمد الشرفي، وليلى شرف، وجورج طرابيشي، وفريدة بناني، ونصيف نصار. أنشأت هذه الكوكبة المذكورة من المفكرين “المؤسسة العربية للتحديث الفكري” في العام 2003، وفي العام 2007 أسست “رابطة العقلانيين العرب” بهدف “التصدي لموجة التكفير والإقصاء والإرهاب الذي اجتاح العالم العربي وأوروبا باسم الإسلام”.

كان السؤال الذي طرحه، ولا يزال يطرحه الكثيرون من المثقفين العرب: ما الذي أحدثته أفكار هؤلاء الرائدين في حياة شعوبهم. نجد جواباً عن هذا السؤال في كلمة عبد المطلب الهوني في الندوة المذكورة. يقول هذا المفكر الليبي: “للأسف، رحل جل رواد الفكر التنويري دون ان يروا استجابة أو صدى لكتاباتهم، والكثير منهم فارقونا وفي قلوبهم حسرة، وكأنهم حاولوا إحياء جثة معتلة. لكن جهودهم مع ذلك لم تذهب سدى، بل اثمرت مؤكدة وجاهة فكرهم وإدراكهم روح التاريخ وتطور البشرية”. يقدم الهوني مثلا على ذلك، ما يجري في السعودية من تغيير، “تغيير لم يكن أحد يجرؤ على رؤيته حتى في الأحلام” وفق قوله. يصف هذه التغيير بثورة أعطت صدقية لمقولة “ان الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن”. ينوه بكتابين كان لهما ابلغ الأثر في هذا المسار، كتاب “من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث” للراحل جورج طرابيشي، وكتاب عبد المجيد الشرفي “الإسلام بين الرسالة والتاريخ”. يعتبر أن ما يحدث في السعودية، مطابق لما في هذين الكتابين القيمين “فقد أبطلت السعودية العمل بحديث الآحاد الذي يشكل 99 في المئة من الحديث النبوي، وخرجت المرأة السعودية من الحرملك إلى الحياة. قلمت مخالب المتشددين والسلفيين الذي يدعون الناس ليلا ونهارا إلى احتقار الدنيا، وكراهية المختلف، وقدسية الإرهاب، وبدأت ثقافة الأنسنة بعودة دور السينما، وتدريس الموسيقى في المدارس، والاختلاط بين الجنسين وتدريس الفلسفة والمنطق في المدارس الحكومية”.

على هامش تلك الندوة كنت في جلسة خاصة، وعلى مدار يومين أيضا، في بيت عامر يرتفع على هضبة عالية من هضاب بلدة “المرسى”، الهاجعة على الساحل الجميل، إلى الشمال من العاصمة تونس. ضمت الجلسة عبد المطلب الهوني، مؤسس “رابطة العقلانيين العرب”، والباحثة الجريئة الدكتورة رجاء بن سلامة، والشاعر عبد الباسط بلحسن، مدير “المعهد العربي لحقوق الإنسان” ومقره تونس، والدكتور فتحي بن سلامة، البروفيسور في الأمراض النفسية في جامعة باريس ديتروت، عضو المجمع التونسي للعلوم والآداب والفنون، والإعلامي التونسي المعروف مختار الخلفاوي. حضرت أيضاً جلسة ثانية خاصة في الدار نفسها، شارك فيها عبد المجيد الشرفي نفسه، والدكتورة ناجية الوريمي، أستاذة الحضارة العربية الإسلامية في الجامعة التونسية.

كان الحوار شائقاً بين هؤلاء المثقفين العرب على اختلاف نظراتهم إلى الأمور، وكان جله عن تونس، وما تعانيه من تحديات سياسية واجتماعية واقتصادية. أجمع الجميع أن قرارات مواجهة هذه التحديات سوف تنجلي في الخريف المقبل، بين الرئيس التونسي قيس سعيد وحزب النهضة، والاتحاد العام التونسي للشغل وهو أكبر المنظمات النقابية في البلاد. لن أدخل في تفصيل نتائج ما جرى من حديث بين أولئك المفكرين، فذلك يستغرق الصفحات الطوال. أكتفي بالخطوط العريضة، ومنها أنه من الصعب معرفة كيف ستكون العلاقة بين الرئيس والأحزاب والنقابات، وبين الأحزاب والنقابات نفسها. قد تتعرض تونس إلى هزات، لكن تجربة الديموقراطية فيها ستبقى فاعلة، تصونها من الانهيار أجيال تأبى أن تخسر ما تحقق في البلد منذ الاستقلال إلى اليوم. هناك من غير شك، مخاوف من رياح قد تهب على البلد من الداخل، وقد تهب عليه من دول الجوار، وتأخذه إلى مسار قد يجد فيه بعض الغلاة فرصة للثأر، يدفعهم جنوح غير معهود للمشاركة في السلطة، يلكن بقى الأمل أن تتغلب العقول على الغرائز والمصالح الشخصية، خصوصا أن الأوضاع الاقتصادية ما عادت تحتمل، ومستويات المعيشة تهاوت إلى درجات ما عادت تطاق، ولم تعهدها البلاد في تاريخها الحديث.

كنت في بروكسل قبل يوم من السفر، وحين قلت لصديق لي إني ذاهب إلى تونس. علا صوته على الهاتف وقال لي” أمجنون أنت”! ثم أردف:” تونس على بركان اضطرابات اجتماعية وسياسية”. أعرف أن كلام هذا الصديق، مخاوف تساور نفوس الكثيرين من العرب والأجانب، لكن تونس بدت لي، وهي في أيامها الصعبة هذه، أبعد ما تكون عن هذا الانطباع، آمنة على رغم ما يدور فيها من جدل ساخن بين الحكومة والأحزاب. ليس من شك في أنها عانت سياسيا واقتصاديا ولا تزال تعاني، وعلى وشك أن تشهد تحولات سياسية واجتماعية كبيرة وخطيرة في المستقبل القريب، لكنها تبقى، على الرغم ذلك كله، بلداً آمناً، يحميه نظام ديموقراطي، هو أقرب إلى الأنظمة الأوروبية من أي نظام عربي آخر.

أثرت قبل العودة أن أجول في شوارع، فأخذني السائق في جولة على الكورنيش المحاذي للبحيرة رقم 1، القريبة من قلب العاصمة تونس. لفت نظري منظر سلاسل معدنية ممتدة على طول الجدار الذي يفصل البحيرة عن حجارة الكورنيش، وقد علقت عليها أقفال صغيرة. حين سالت السائق عن سبب وجود تلك الأقفال، وقد بدت لي كأنها عبث أطفال، أخبرني أنها ليست كذلك، بل هي من فعل راشدين؛ شبان وصبايا يجمعهم الحب، أو الأمل بالحب، أو عقد خطوبة، أو عقد زواج، يأتون إلى البحيرة، يفتحون الأقفال الصغيرة ويشبكونها بالسلال، ثم يغلقونها ويرمون مفاتيحها في البحيرة، كوعد وتعهد، بأن أواصر الحب بينهم ستبقى ما بقوا في قيد الحياة. وكلمعة الحباحب، استحوذت عليّ فكرة العهد والتعهد هذه. ترجلت من السيارة وبدأت أسير على رصيف الكورنيش، أرقب البحيرة وما وراءها من صور الطبيعة. تصورت نفسي على علاقة حب مع تونس التي زرتها من قبل وأحببتها، وتخيلت نفسي أخاطبها بصمت: هوذا الحب بيني وبينك أيتها البلاد الجميلة. حب لن تنفصل عراه مهما جار الزمن، ومهما حاول المتربصون بأمنك ان يكدروا عيشك الهني. ستبقين ساحرة، ويبقى وجهك نضراً. لن تشوهه بثور العصبيات، ولا أوضار السياسة العمياء مهما كان لونها، ومن أي مصدر أتت. ستبقين وفية لنفسك، لتربتك العطرة المعطاء، لوصية المجاهد الأكبر، الراقدة رفاته في “المنستير”، وستبقين خضراء كما سماك الرومان في الأزمنة الغابرة. ها أنا هنا بين ربوعك، أرفع لك التحية والتجلة أيتها البهية، وأضع قفل وعد الحب بيني وبينك. أغلقه بيد قوية، وبيد قوية أرمي مفتاحه في لجة البحيرة.

العدد 130 / تموز 2022