“خيط أحمر “بين الجامعة والسلاح

الدكتور نسيم الخوري

كيف لأستاذ جامعي أن ينقل نصّاً إلى العربية، بل كيف ينتقيه لطالبات وطلاّب يُلهبهم  أيّ إسمٍ  أو نصّ له علاقة بفلسطين والعرب والمسلمين وبالعكس ؟ جاءت الإجابة مستحيلة بعد تفريع الجامعة اللبنانية وتداعيات الحروب المتعددة الهويات في ال1975. لم يسلم اللبنانيون منها حتّى الآن.

كان ذلك في ال1984. كنت أقطن بيروت الغربية ، وأقطع الحواجز نحو الشرقية ترافقني إمكانية الموت يومياً قنصاً أو خطفاً. أعبر أسبوعين نحو الكلية وأهرب إلى باريس أسبوعين أو أكثر. في باريس، خطرت لي فكرة الطلاق النهائي للبنان هرباً من المواقد اللبنانية والجامعية الطائفية. وكانت الصدفة أن التقيت في الشانزيليزيه بإدوار سابلييه وقد عرفته في صحيفة “الموند” وكان من كبار المراسلين للموند ترأّس جمعيّة “الصحافة الدبلوماسية الفرنسيّة ” وبقي رئيس شرف لها حتّى وفاته في 12 آذار 2006، وكنت أحد مؤسسي “اتحاد الصحفيين العرب في باريس”. دعوته إلى مقهى، تبادلنا الأوضاع القاتمة في لبنان، وأخبرني عن كتابه الجديد الأكثر مبيعاً في لبنان  بعنوان:

Histoire Secrète du Terrorisme International »  : « Le Fil Rouge أي: “الخيط الأحمر، التاريخ السرّي للإرهاب الدولي”.

برق العنوان في رأسي حلاّ يمكن أن أتأبّطه إلى طلاّبي يغريهم ترجمة نصوص يمينية فرنسية متطرفة، وقد أعدهم بأن أنشره مترجماً بالعربيّة، وأضع أسماءهم في مقدمة الكتاب بإشرافي. أخبرته  بالفكرة. غاب قليلاً، رحمه الله، وعاد بنسخةٍ قدّمها لي ولم يقبل أن أدفع ثمنها على غير عادة الفرنسيين بشكلٍ عام.

ماذا في مقدّمة كتابه؟

“تقودنا مسارح الجرائم إلى الشكوك بمتطرفي اليسار أوّلاً وكذلك اليمين على السواء الثائرون منهم  والمحرّضون والمتنوّرون. لكلّ قصّة معطياتها التي قد تفضي بنا إلى المجهول والإحباط. معظم الإرهابيين يلقون المصير الواحد. يعشقون العنف بصفته طريق الثورة العالميّة. يأتون من منظّماتٍ متشابهة يربطها كلّها مشاعر الكره والحقد على العدو. يلقّمون كيفية استعمال الأسلحة ويقومون بعملياتهم بدماء باردة.

أين كارلوس؟ أين هي الألوية الحمراء؟ أين أنور السادات وبشير الجميّل والسفير الفرنسي دولامار في بيروت، خطف ألدو مورو، مذابح الألعاب الأولمبيّة، محطة قطار بولونيا، محاولة اغتيال البابا بولس الثاني …إلخ”. يقود سابليه خيطه الأحمرمن هافانا إلى مذابح صبرا وشاتلا إلى مقاصل متعدّدة خطيرة لولاها لما كان الإرهاب الدولي يستمر”.

بعد عودتي إلى بيروت، قفز الطلاّب فرحين بالإقتراح، خصوصاً وأن معظمهم سمعوا بإدوار سابليه وشرحت لهم بأنّه من جيل “الموند” الذائعة الشهرة عالميّاُ والذي بدأ حياته المهنيّة فيها وعمره 25 سنة . ولد في بغداد وكان والده ملحقاً بالسفارة الفرنسية ببغداد، ولطالما اعترف بانجذابه الى اللبنانيين، بعدما أخذتهم الصراعات والحروب ، فانخرط بحبر تميل كفّته نحو اليمين. وكان يزيد من محبّته لهذا البلد عشقه للجنرال شارل ديغول الذي يعشقه اللبنانيون ولم يخلعه من أحاديثه.

كانت تلك المحاولة “الطُعم” الأكاديمي الذي جذبهم إليّ لأنخرط أستاذا في ملاك كليّة الإعلام ومديراً لها لدورتين ولينخرطوا في النقاش السياسي والحواريات المعقدة التي فتحت آفاق إطلاعهم أو ثقافاتهم المقفلة ذات البعد الواحد. هكذا قضيت عامي 1983و 1984 بين باريس وبيروت أعرّب نصوصاً عادية معهم، وأوزّع نصوص الكتاب عليهم لترجمتها في بيوتهم كأعمال تطبيقيّة لها نصف العلامة النهائيّة.هكذا راحت تتلاشى الحواجز بيننا، وفتحت الآفاق لنصوص لها علاقة بفلسطين والعرب ومرّرت  الفكرة بأنّ الصحافي عيون وآذان مفتوحة على العالم حتى لو خالف قناعاتهم، وعليهم إدراك كلّ شيءٍ عن أمر واحد هو حريّة الإعلام لكن بالألف واللام حرصاً على مهما الأفكار والآراء.

وكانت قمّة النجاح ، أن أوليتهم  ترجمة كتاب ناحوم غولدمان الشهير المعنون:  Où Va Israel أي “إسرائيل” إلى أين؟  وأصدرته مطبوعاً في العام 1985. ليس أمرا سهلاً بالشكل، أن تُصدر، في ذلك التاريخ، كتاباً يدين “إسرائيل” التي  اجتاحت لبنان في ال1982 ووصلت قصر بعبدا، بقلم ناحوم غولدمان المنخرط في العمل الصهيوني في إلمانيا، داخل المنظّمة الصهيونية العالميّة الذي ساهم في إنشاء المؤتمر اليهودي العالمي وترأسه بين 1956 و1968 وأثار عند صدوره عدائية زعماء “إسرائيل” وقادتها والجاليات اليهودية في العالم وخصوصاً في فرنسا، لكنه فتح آفاق طلاّبي صحافيي المستقبل. أن تنقل كلام لناحوم غولدمان في ال1984، في كليّة الإعلام وينشر في كتابٍ ورد فيه على سبيل المثال، بأنّه:” ستكون لإسرائيل، هذه الجزيرة الضائعة وسط العالم العربي حظوظاً ضئيلة في البقاء…لأنّ إسرائيل خطيئة والخطيئة تجرّ دوماً إلى خطيئة أخرى… لقد غرب عن أذهاننا القوة التي سيتمتّع بها العرب، وبأنهم كانوا أكبر القوى في العالم، غزوا حتّى قسماً من أوروبا، مبدعي الإسلام الديانة الأكثر انتشاراً في التاريخ….ألخ”.

قد يسأل القاريء هنا، ولماذا نشرت ترجمة كتاب ناحوم غولدمان أعني “إسرائيل إلى أين” وأهملت أو نسيت أو لم تنشر كتاب سابليه؟

أطرح هذا السؤآل على نفسي، وأجيب بصراحة : لأنّ سابليه لم يكن يغريني بسياسته وكتاباته، لكنّه شقّ طريقي في  كليّة الإعلام ولم يعبّدها لأنّني دُفعت للإستقالة من الإدارة بالسلاح ( لهذا حيز آخر).

كان غولدمان بمثابة جواز سفري في حياتي الجامعيّة الشاقّة بسبب سياساتي وقناعاتي التي لم تتآلف مع الجامعة الوطنية المتشظّية في لبنان الذي مزّقته الحروب الطائفية العبثية والتي كان سابليه يعتني بها بقليلٍ من الموضوعية.

عندما ترك سابليه الموند، كتب رئيس تحرير أندره فونتين كلمة معبّرة: ” يبقى إدوار صديقاً عزيزاً بالرغم من الخلافات السياسيّة التي لا تُورثنا سوى التقدير والودّ”.

وأختم بالموافقة، لقد منح الكتاب أهميتّه. ويستمرّ الإرهاب، بعد رفيق الحريري في ال2005 وجبران التويني في لبنان والعالم خطفاً وتشويهاً وتنكيلاً وقتلاً  في بحورٍ من دماء ما سمّي ب”الربيع العربي” وتداعياته منذ العراق 2003، فلبنان وتونس ومصر والجزائر وليبيا واليمن والسعودية وسوريا…و…الخ.

عضو الهيئة العليا للإشراف على الإنتخابات. لبنان.

    العدد 130 / تموز 2022